د. عادل بوديار
اللُّغة العربيَّة، هل تُصبِح مجردَ ذِكرى؟!
تُعَد اللُّغة العربيَّة مِن أقدم اللغات السامية، ويتحدث بها أكثر من 422 مليون نسمة، وهي واحدة مِن أكثر اللغات انتشارًا في العالم؛ حيث يتوزَّع متحدِّثوها على رقعة واسعة في الكرة الأرضية، وهي تتميز عن غيرها من اللغات الأخرى بقدرتها على التعريب، واحتواء الألفاظ من أي لغة كانت؛ لِما تتمتع به مِن خاصية الاشتقاق، والترادف، والتضاد، والاشتراك.. غير أن التطور التكنولوجي السريع صار يفرض على مستخدمي اللُّغة العربيَّة تحدياتٍ كبرى، رأى فيها البعض أنها قد تعمَل على تضييق الخِناق على استخدام اللُّغة العربيَّة الفصحى في مجالات التواصل، والعلوم التكنولوجية، وفي المحافل الدولية، وهو ما جعَل المهتمين باللُّغة العربيَّة يتوجَّسون خِيفةً مما قد ينجرُّ عن هذا التضييق مِن إخلال بالهوية التراثية التي تُعَد اللغةُ أحدَ مقوماتها؛ لذلك سعَتْ بعض الدول العربية إلى تقديم اقتراح للمجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو تدعوه فيها إلى اعتماد اللُّغة العربيَّة الفصحى في الاجتماعات الرسمية لمنظمة الأمم المتحدة، واستمرَّ الضغط الدبلوماسي العربي من الدول العربية، إلى أن تمكنوا من جعل اللُّغة العربيَّة الفصحى تُستعمل كلغة شفوية خلال انعقاد دورات الجمعية العامة في سبتمبر 1973، وبعد إصدار جامعة الدول العربية في دورتها الستين قرارًا يَقضي بجعل اللُّغة العربيَّة ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة وباقي هيئاتها، ترتَّب عنه صدور قرار الجمعية العامة رقم 3190 خلال الدورة 28 في ديسمبر 1973، يوصي بجعل اللُّغة العربيَّة لغة رسمية للجمعية العامة وهيئاتها، أما مسألة استخدام اللُّغة العربيَّة كلغة عمل في دورات المجلس التنفيذي، فأُدرجت في جدول الأعمال في عام 1974 بِناءً على طلب من حكومات الجزائر، والعراق، وليبيا، والكويت، واليمن، وتونس، ومصر، ولبنان، وفي أكتوبر 2012 عند انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي لليونسكو، تقرر تكريس يوم 18 ديسمبر يومًا عالميًّا للُّغة العربيَّة، واحتفلت اليونسكو في تلك السنة للمرة الأولى بهذا اليوم، وفي 23 أكتوبر 2013 قرَّرت الهيئة الاستشارية للخطة الدولية لتنمية الثقافة العربية (أرابيا) التابعة لليونسكو، اعتمادَ اليوم العالمي للُّغة العربيَّة كأحد العناصر الأساسية في برنامج عملها لكل سنة.
لقد كان مِن واجب المتكلمين باللُّغة العربيَّة أن يمثِّل لهم هذا اليوم منصة تكرس الالتفات إلى قيمة الأركان الجمالية المتنوعة في اللُّغة الربيَّة، ولكن الذي يحصل أن الاحتفال بهذا اليوم لا يتجاوزمجرد التذكير به في الإعلام العربي، بل إن كثيرًا مِن طلبة كلية الآداب واللغات، وأقسام الأدب واللُّغة العربيَّة يجهَلون أنَّ يوم 18 ديسمبر يومٌ عالميٌّ للُّغة العربيَّة، والذي يلام على الجهل بقيمة اللُّغة العربيَّة ليس هؤلاء الطلاب وحدهم، بل إننا جميعًا كمنتمين إلى هذه اللغة العريقة مسؤولون عن تقصيرِنا في بيان جماليَّاتها، وقدرتها على الاستمرار والتجدُّد على الرغم مِن الاندثار الذي أصاب اللغاتِ السامية الأخرى، إلا أن اللُّغة العربيَّة ما زالت تقاومُ عواملَ التدمير الذي طالها عبر أزمان مضَتْ، وما زال، وللأسف أن بعض أبنائها يساهمون في هذا التدمير، إما خدمةً لجهة أجنبية عدوة، أو جهلًا بقيمة اللُّغة العربيَّة العَصِيَّة، التي لا تمنح نفسَها إلا لِمَن تأدب معها في الطلب، راعَى أصولها، وقِيَمها، وتعامَل معها تعامل المستنير، لا تعامل الآمِر، وتعامل المتذوِّق المختار، لا تعامل المتعسِّف المستهتر، يستمنحها فتمنَح، ويستعطفها فتطيب نفسًا وتستجيب، وكم مِن لفظ لا ينسجم مع المعنى إلا بالمَتْحِ والاستجداء، وكم من عبارة تَنِدُّ وتستغرب، ولا تقرب وتُستأنَس إلا بعد المعاناة في طلبِها وترويضِها.
ولكن هذا لا يعني أن اللُّغة العربيَّة صعبةٌ مستعصية، بل على العكس تمامًا؛ فإن الجادَّ في طلبِها يجدها سهلةً، ومهلة، وبسيطة، وطيِّعة، لها القدرةُ على الإحاطة بالواقع؛ لأنها حين تحلل تحليلًا فلسفيًّا سوف توجه ضربة قاسمة إلى المذهب القائل بأن العقل عاجزٌ عن الإحاطة بالواقع، ولسوف تثبت هذه الفلسفةُ أن اللفظةَ غالبًا ما تكون مفهومًا مِن المفهومات؛ فليس صدفةً أن يقوم العقل العربي بإطلاق اسم: “التَّرَف” على لِين العيش؛ إن الترفَ ضعف، وليس أدل على ذلك مِن وجود الفاء في آخر هذه اللفظة، وأكثر أحوال الفاء: “أنها للوهن والضعف ونحوهما”، على حدِّ قولِ ابن جني.
والمؤسِف أيضًا أن التطوراتِ المتلاحقةَ الحاصلة في العالم الغربي خاصة، التي انتقَل تأثيرها إلى العالم العربي، باتت تُشعِر الأجيالَ الحالية بأن اللُّغة العربيَّة لم تعُدْ تواكب العصر، ولعل هذا مِن بين أحد الأسباب المباشرة التي جعلت الفردَ العربي يؤثِر استخدامَ اللغات الأجنبية، ظنًّا منه أنها مظهَر مِن مظاهر التقدُّم والتحضُّر، وهو ما حذَّر منه الشاعر حافظ إبراهيم في قوله:
أرَى لرجالِ الغربِ عِزًّا ومَنْعةً وكم عزَّ أقوامٌ بعزِّ لُغاتِ أتَوْا أهلَهُم بالمُعجزاتِ تفنُّنًا فيَا لَيْتَكُم تأتونَ بالكلماتِ أيُطرِبُكُم مِن جانبِ الغربِ ناعبٌ يُنادي بوَأْدي في ربيعِ حياتي |
والأخطر مِن هذا كلِّه هو ظهورُ لغةٍ شبابية هجينة بين اللُّغة العربيَّة العامية ولغة الشارع وبعض الألفاظ الأجنبية، أو تلك التي يصطلح عليها بـ: “لغة الروشنة“، يتحدثها جيلٌ مِن الشباب اليوم، وصَل إلى مستوًى من التعليم يفترض فيه أن يكونَ واعيًا لطريقة تعبيره عن نفسه، غيرَ أن هذا الجيلَ الجديد قد وقَع في فجوة كبرى مِن انعدام الانتماء، والذنب ليس ذنبَه فقط؛ فهو جيلٌ محبَط، ويعاني مِن فقدان القضية؛ نظرًا لعدم إيمانه بالقِيَم الموجبة، وبالحضارة الإسلامية، وهي عواملُ تجعَله يحاول التخلُّص مِن كل رابط يربطه بهذه الحضارة، ولعل مِن أهمِّ هذه الروابط: اللغةَ؛ لذلك نجد معظم هؤلاء الشباب “مُتَرَوْشِنًا“؛ رغبة في التوحُّد بالنسق الغربي الذي يبتغي الهرب إليه، هذا مِن ناحية، ومن ناحية أخرى تبدو المناهج التعليمية، خاصة فيما يتعلق باللُّغة العربيَّة، مناهجَ موجهةً لصناعة جيل كارهٍ للُّغة العربيَّة، فتوضع قواعد النحو واللغة – عمدًا أو عن غيرِ عمدٍ – بطريقة معقَّدة وتجريدية، فيجد الطالب في تلك القواعد ما يحُول بينه وبين الإقبال على اللُّغة العربيَّة الفصحى، وهنا يجب أن ندقَّ ناقوس الخطر، وندعوَ كل معلم للُّغة العربيَّة إلى تبسيط قواعد اللغة وربطها بالحياة اليومية؛ حتى تبقى وظيفية، وتخرجَ من الحيز الضيق الذي حُشِرت فيه؛ حيز الامتحان، الذي يُريد أن يجعل منها مجرد مادة لغوية لا علاقةَ لها بالواقع الاجتماعي، أو الثقافي، أو الاقتصادي..