كتبه: أبو عبد الرحمن الخليل الفراهيدي
المحقق: د. فخر الدين قباوة
تَفْسِير إِعْرَاب جمل الْجَزْم (1)
الْجَزْم اثْنَا عشر وَجها
جزم بِالْأَمر وَجزم بِالنَّهْي وَجزم بِجَوَاب الْأَمر وَالنَّهْي بِغَيْر فَاء وَجزم بالمجازاة وَجزم بِخَبَر المجازاة وَجزم ب لم وَأَخَوَاتهَا وَجزم على البنية وَجزم برد حَرَكَة الْإِعْرَاب على مَا قبلهَا وَجزم بِالدُّعَاءِ وَقد يجزمون ب لن وَأَخَوَاتهَا وَجزم بالحذف وعلامات الْجَزْم خمس السّكُون والضمة والكسرة والفتحة وَإِسْقَاط النُّون فالسكون لم يخرج والضمة لم يدع وَلم يغز والكسرة لم يقْض وَلم يرم والفتحة لم يتهاد وَلم يتصاب وَسُقُوط النُّون لم يخرجَا فِي الِاثْنَيْنِ وَلم يخرجُوا فِي الْجَمِيع
فالجزم بِالْأَمر
– نَحْو قَوْلك اذْهَبْ اخْرُج أنْفق اضْرِب
– لَا تخرج وَلَا تضرب وَلَا تَشْتُم
وَأما قَول الله تَعَالَى فِي يُونُس {فاستقيما وَلَا تتبعان سَبِيل الَّذين لَا يعلمُونَ} جزم استقيما لِأَنَّهُ أَمر وعلامة جزمه إِسْقَاط النُّون كَانَ الأَصْل فِيهِ تستقيمان فَذَهَبت النُّون فِي عَلامَة الْجَزْم وَالْألف بدل من اسْمَيْنِ ثمَّ قَالَ {وَلَا تتبعان} بالنُّون وَمحله الْجَزْم لِأَنَّهُ نهي وَالنُّون الثَّقِيلَة لَا تسْقط فِي أَمر وَلَا نهي
وَهِي ثَابِتَة أبدا إِذا أردْت توكيد الْأَمر وَالنَّهْي وَلَا تسْقط فِي مَحل الرّفْع وَالنّصب تَقول لَا تضربن زيدا وَلَا تسخطن أَبَاك وَلَا تخرجان للاثنين وَلَا تخرجن للْجَمِيع وَتقول كي يعلمن زيد وَالْقَوْم يخْرجن
والجزم بِجَوَاب الْأَمر وَالنَّهْي وأخواتهما بِغَيْر فَاء
قَوْلهم أكْرم زيدا يكرمك لَا تَشْتُم زيدا يشتمك تعلم الْعلم ينفعك قَالَ الله تَعَالَى {فاذكروني أذكركم} جزم لِأَنَّهُ جَوَاب أَمر بِغَيْر فَاء وَقَوله جلّ ذكره {ونذرهم فِي طغيانهم يعمهون} أَي عامهين وَمثله {ثمَّ ذرهم فِي خوضهم يَلْعَبُونَ} أَي لاعبين فَصَرفهُ من مَنْصُوب إِلَى مَرْفُوع
وَكَذَلِكَ قَوْله {فذروها تَأْكُل فِي أَرض الله} جزم تَأْكُل لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر بِغَيْر الْفَاء وَيقْرَأ تَأْكُل بِالرَّفْع على الصّرْف على معنى ذروها آكِلَة فَصَرفهُ من النصب إِلَى الرّفْع والجزم بِجَوَاب الْأَمر
قَالَ الشَّاعِر
(وَقَالَ رائدهم أرسوا نزاولها … فَكل حتف امْرِئ يجْرِي بِمِقْدَار)
فَالْمَعْنى إِنَّا نزاولها لَوْلَا ذَلِك لجزم وَقَالَ الشَّاعِر
(يَا مَال فَالْحق عِنْده فقفوا … تؤتون فِيهِ الْوَفَاء فَاعْتَرفُوا)
أَرَادَ إِنَّكُم تؤتون وَلَوْلَا ذَلِك لقَالَ تُؤْتوا بِالْجَزْمِ لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر
وَقَالَ آخر كونُوا كمن آسى أَخَاهُ بِنَفسِهِ … نَعِيش جَمِيعًا اَوْ نموت كِلَانَا)
رفع على معنى إِنَّا نَعِيش جَمِيعًا لَوْلَا ذَلِك لجزم وَقَالَ الْأَعْشَى
(إِن تركبوا فركوب الْخَيل عادتنا … أَو تَنْزِلُونَ فَإنَّا معشر نزل)
رفع تَنْزِلُونَ على معنى أَو أَنْتُم تَنْزِلُونَ فَإنَّا معشر نزل
وَقَوله جلّ ثَنَاؤُهُ {ونذرهم فِي طغيانهم يعمهون} أَي عامهين
وَتقول هَل أَنْت خَارج آخرج مَعَك جزمت أخرج لِأَنَّهُ جَوَاب الِاسْتِفْهَام بِغَيْر فَاء قَالَ الله جلّ ثَنَاؤُهُ {هَل أدلكم على تِجَارَة تنجيكم من عَذَاب أَلِيم تؤمنون بِاللَّه وَرَسُوله}) ثمَّ قَالَ فِي جَوَابه {يغْفر لكم ذنوبكم}
فَإِن أتيت بِالْفَاءِ فِي الْجَواب نصبت فَتَقول أَأَنْت خَارج فنخرج مَعَك قَالَ سُبْحَانَهُ {رب لَوْلَا أخرتني إِلَى أجل قريب فَأَصدق وأكن من الصَّالِحين} أَي هلا أخرتني فَأَصدق نصب أصدق لِأَنَّهُ جَوَاب الِاسْتِفْهَام بِالْفَاءِ ثمَّ قَالَ وأكن فَجزم على معنى هلا أخرتني وأكن كَأَنَّهُ جعله نسقا بِالْوَاو على جَوَاب الِاسْتِفْهَام وَلم يعبأ بِعَمَل الْفَاء
والجزم بالمجازاة وخبرها
كَقَوْلِك إِن تزرني أزرك وَإِن تكرمني أكرمك وَمن يضربني أضربه جزمت يضربني لِأَنَّهُ شَرط وجزمت أضربه لِأَنَّهُ جَوَاب المجازاة قَالَ الله تَعَالَى {وَمن يتول يعذبه عذَابا أَلِيمًا} جزم {يتول} لِأَنَّهُ شَرط وَجزم {يعذبه} لِأَنَّهُ جَوَابه وَمثله {وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا توليتم من قبل يعذبكم عذَابا أَلِيمًا}
وَتقول إِن تزرني وتكرمني أزرك وأكرمك وَهَذَا الْفِعْل الَّذِي أدخلت عَلَيْهِ الْوَاو يرفع وَينصب ويجزم فَمن جزم نسقه بِالْوَاو على الأول وَمن نصب فعلى الْقطع من الْكَلَام الأول وَمن رفع فعلى الِابْتِدَاء قَالَ الله جلّ ثَنَاؤُهُ {أَو يوبقهن بِمَا كسبوا ويعف عَن كثير وَيعلم الَّذين يجادلون} {يعلم} يرفع وَينصب ويجزم
قَالَ النَّابِغَة
(فَإِن يقدرعليك أَبُو قبيس … يمط بك الْمَعيشَة فِي هوان)
(وتخضب لحية غدرت وخانت … بأحمر من نجيع الْجوف قاني)
فَإِن يمط مَحَله الْجَزْم إِلَّا أَنه نصب على التَّضْعِيف ومجازه يمطط فَلَمَّا أدغم الطَّاء فِي الطَّاء نصب على التَّضْعِيف وكل مَا كَانَ على هَذَا الْمِثَال يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب وَإِذا أظهرت التَّضْعِيف جزمت مثل امطط امدد فَإِذا لم تظهر التَّضْعِيف قلت مط مد وَكَذَلِكَ تخضب على مَا فسرته لَك على أَنه يرفع وَينصب ويجزم
وَمثله فِي كتاب الله {تبَارك الَّذِي إِن شَاءَ جعل لَك خيرا من ذَلِك جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار وَيجْعَل لَك قصورا} يَجْعَل يرفع وَينصب ويجزم وَمثله قَول الشَّاعِر
(فَإِن لم أصدق ظنهم بتيقن … فَلَا سقت الأوصال مني الرواعد)
(وَيعلم أعدائي من النَّاس أنني … أَنا الْفَارِس الحامي الذمار المذاود)
فِي يعلم الْوُجُوه الثَّلَاثَة
وَكَذَلِكَ تَقول من يأتني يكرمني آته أكْرمه تُرِيدُ من يأتني مكرما آته مكرما ترفعه على الصّرْف ويجزم فَتَقول من يأتني يكرمني آته أكْرمه تجزمه على الْبَدَل أَي من يأتني من يكرمني آته أكْرمه قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى فِي الْفرْقَان {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب} جزم يُضَاعف على الْبَدَل
وَقَالَ الشَّاعِر
(مَتى تأتنا تلمم بِنَا فِي دِيَارنَا … تَجِد حطبا جزلا وَنَارًا تأججا)
ومجازه مَتى تأتنا مَتى تلمم بِنَا على الْبَدَل والإلمام هُوَ الْإِتْيَان وَقَالَ تأجج نصبا وَلم يقل تأججت وَالنَّار مُؤَنّثَة وَإِنَّمَا أَرَادَ وقودا أَو لهبا لِأَن الْمُذكر يغلب الْمُؤَنَّث
وَقَالَ الحطيئة
(مَتى تأته تعشو إِلَى ضوء ناره … تَجِد خير نَار عِنْدهَا خير موقد)
رفع تعشو لِأَنَّهُ أَرَادَ مَتى تأته عاشيا إِلَى ضوء ناره فَصَرفهُ من مَنْصُوب إِلَى مَرْفُوع كَقَوْل الله تَعَالَى {ثمَّ ذرهم فِي خوضهم يَلْعَبُونَ} أَي لاعبين
وَتقول إِن تأتني ترفع آتِيك ترفع لِأَنَّك تقدم وتؤخر تُرِيدُ آتِيك إِن تأتني قَالَ الشَّاعِر
(يَا أَقرع بن حَابِس يَا أَقرع … إِنَّك إِن يصرع أَخُوك تصرع)
يُرِيد إِنَّك تصرع إِن يصرع أَخُوك فَقدم وَأخر
وَتقول من يأتيني آتيه الْمَعْنى الَّذِي يأتيني آتيه فَلَا يجازى بِهِ قَالَ الفرزدق
(وَمن يمِيل أمال السَّيْف ذروته … حَيْثُ التقى من حفافي رَأسه الشّعْر)
أَي الَّذِي يمِيل وَقَالَ آخر
(فَقيل تحمل فَوق طوقك إِنَّهَا … مطبعة من يأتها لَا يضيرها)
مَعْنَاهُ لَا يضيرها من يأتها وَأما قَول الله جلّ وَعز فِي الْبَقَرَة {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا فيضاعفه} نصب فيضاعفه على جَوَاب الِاسْتِفْهَام وَمن رفع جعل من حرفا من حُرُوف المجازاة وَجعل جَوَابه فِي الْفَاء وَرفع يضاعفه لِأَنَّهُ فعل مُسْتَأْنف فِي أَوله الْيَاء
وَأما قَول الله عز وَجل {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} رفع لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَوَاب وَلَا مجازاة إِنَّمَا هُوَ خبر مَعْنَاهُ إِذا أَرَادَ الله شَيْئا قَالَ لَهُ كن فَكَانَ كَقَوْلِك أردْت أَن أخرج فَيخرج معي زيد
وَتقول من يزرني فَأكْرمه وَإِن تزرني فأزورك رفعت أكْرمه وأزورك لِأَن الْفَاء التقفت الْجَواب فارتفع الْجَواب وارتفع أكْرمه بِالْألف الْحَادِثَة فِي أَوله قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى {وَمن يستنكف عَن عِبَادَته ويستكبر فسيحشرهم إِلَيْهِ جَمِيعًا}
) جزم يستكبر لِأَنَّهُ عطفه بِالْوَاو على الأول وَصَارَ الْجَواب دَاخِلا فِي الْفَاء الَّتِي فِي فسيحشرهم وارتفع يحشرهم لِأَنَّهُ فعل مُسْتَقْبل
قَالَ الله جلّ وَعز فِي آل عمرَان {وَإِن تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا} من جزم فعلى الْجَزَاء وَمن رفع فعلى إِضْمَار الْفَاء وَمن نصب فعلى التَّضْعِيف وَلَا لَا تعْمل شَيْئا لِأَنَّهُ حرف جَاءَ بِمَعْنى الْجحْد قَالَ الشَّاعِر
(من يفعل الْحَسَنَات الله يشكرها … والسيء بالسيء عِنْد الله مثلان)
فأضمر الْفَاء بِمَعْنى فَالله يشكرها
وَقد يجازى ب أَيْن أَيْضا قَالَ الشَّاعِر
(أَيْن تصرف بِنَا العداة تجدنا … نصرف العيس نَحْوهَا للتلاقي)
وَتقول مَتى تأتني آتِك وَمهما تفعل أفعل قَالَ الشَّاعِر
(أَلا هَل لهَذَا الدَّهْر من متعلل … سوى النَّاس مهما شَاءَ بِالنَّاسِ يفعل)
نصب شَاءَ لِأَنَّهُ فعل مَاض وَجزم يفعل لِأَنَّهُ جَوَاب المجازاة وَيُقَال إِن شَاءَ فِي معنى يَشَأْ
وَتقول إِن أَتَاهُ صَاحبه يَقُول لَهُ رفع يَقُول على معنى قَالَ فصرف من مَاض إِلَى مُسْتَقْبل فَرفع قَالَ زُهَيْر بن أبي سلمى
(وَإِن أَتَاهُ خَلِيل يَوْم مَسْأَلَة … يَقُول لَا غَائِب مَالِي وَلَا حرم)
مَعْنَاهُ قَالَ فصرف من مَنْصُوب إِلَى مَرْفُوع
وَأما قَوْله تبَارك وَتَعَالَى {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله فَيغْفر لمن يَشَاء} …