كتبه: أبو عبد الرحمن الخليل الفراهيدي
المحقق: د. فخر الدين قباوة
وجوه الرفع (4)
وَالرَّفْع بالبنية
مثل حَيْثُ وقط لَا يتغيران عَن الرّفْع على كل حَال وَكَذَلِكَ قبل وَبعد إِذا كَانَا على الْغَايَة وَفِي لُغَة بَعضهم حَيْثُ بِالْفَتْح لِأَن الفتحة أخف الحركات وَقَالُوا حَيْثُ وحوث.
فَمَا كَانَ مَفْتُوحًا فَهُوَ على الْقيَاس وَأما المضمومة كَأَنَّهُمْ توهموا هَذِه الضمة الَّتِي فِي هَذَا الْجِنْس الَّذِي لَا يجْرِي فِيهِ الْإِعْرَاب وَأما المجزومة فَهُوَ متحرك الْوسط سكنوه إِذْ لم يجْتَمع الساكنان وَذَلِكَ مثل نعم وَأجل وَكم وَهل وَمن وَإِنَّمَا سكنوه لِأَنَّهُ حرف جَاءَ لِمَعْنى وَلَيْسَ باسم فَيكون فَاعِلا أَو مَفْعُولا أَو مُضَافا فيدخله الْإِعْرَاب
وَإِذا كَانَ الْحَرْف الْمُتَوَسّط مِنْهُ سَاكِنا حرك بِالْفَتْح لِئَلَّا يسكنا مثل أَيْن وَكَيف وليت وَأَن وَحَيْثُ وَأَشْبَاه ذَلِك فاعرف موضعهَا
وَالرَّفْع بالحكاية
كل شَيْء من القَوْل فِيهِ الْحِكَايَة فارفع نَحْو قَوْلك قلت عبد الله صَالح وَقلت الثَّوْب ثَوْبك قَالَ الله جلّ ذكره {سيقولون ثَلَاثَة رابعهم كلبهم} وَقَالَ {وَلَا تَقولُوا ثَلَاثَة} {وَقُولُوا حطة} فَإِذا أوقعت عَلَيْهَا الْفِعْل فانصب نَحْو قَوْلك قلت خيرا قلت شرا نصبت لِأَنَّهُ فعل وَاقع
والحروف الَّتِي يحْكى بهَا أَرْبَعَة سَمِعت وقرأت وَوجدت وكتبت قَالَ ذُو الرمة سَمِعت
(سَمِعت النَّاس ينتجعون بحرا … فَقلت لصيدح انتجعي بِلَالًا)
ويروى ينتجعون غيثا ويروى وجدت النَّاس رفع النَّاس على الْحِكَايَة
وَقَالَ آخر
(وجدنَا فِي كتاب بني تَمِيم … أَحَق الْخَيل بالركض المعار)
رفع أَحَق على الْحِكَايَة وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ نصبا كَمَا تَقول وجدت مَالا وَقَالَ آخر
(كتبت أَبُو جاد وحطي مرامر … وخرقت سربالا وَلست بكاتب)
وكل مَا استفهمت بِهِ فارفع بالحكاية مَا لم تجئ بِالتَّاءِ فَإِذا جِئْت بِالتَّاءِ فانصب فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة تظن وَترى أما الرّفْع فَمثل قَوْلك أقلت عبد الله خَارج فيمَ قلت النَّاس خارجون بكم قلت الثوبان فَإِذا جَاءَت التَّاء فانصب نَحْو قَوْلك أَتَقول زيدا عَالما أَتَقول النَّاس خَارِجين
قَالَ الشَّاعِر
(أنواما تَقول بني لؤَي … قعيد أَبِيك أم متناومينا)
نصب نواما وَبني ب تَقول وَقَالَ آخر
(مَتى تَقول القلص الرواسما … يلحقن أم غَانِم وغانما)
نصب القلص الرواسما لما أَدخل التَّاء وَقَالَ آخر
(أما الرحيك فدون بعد غَد … فَمَتَى تَقول الدَّار تجمعنا)
نصب الدَّار على معنى تظن:
وَأما قَول الشَّاعِر
(فَقَالَت حنان مَا أَتَى بك هَهُنَا … أذو نسب أم أَنْت بالحي عَارِف)
يُرِيد أَمْرِي وأمرك حنان لَوْلَا ذَلِك لنصبه وَأما قَول الآخر
(حناني رَبنَا وَله عنونا … نعاتبه لَئِن نفع العتاب)
فَإِنَّهُ أَرَادَ تَحَنن رَبنَا مرّة بعد أُخْرَى والتحنن الرَّحْمَة يَقُول ارحمنا رَحْمَة بعد رَحْمَة
وَأما قَول الآخر
(يشكو إِلَيّ جملي طول السرى صَبر جميل فكلانا مبتلى)
فَإِنَّهُ رفع صبرا لما وَصفه فَقَالَ صَبر جميل لَوْلَا ذَلِك لنصب صبرا على الْأَمر يَقُول أَمْرِي وأمرك صَبر جميل
قَالَ طرفَة
(أَبَا مُنْذر أفنيت فَاسْتَبق بَعْضنَا … حنانيك بعض الشَّرّ أَهْون من بعض)
كَأَنَّهُ قَالَ رحمتيك لِأَن التحنن من الرَّحْمَة أَي ارحمنا رَحْمَة بعد رَحْمَة
وَأما قَوْلك لبيْك إِنَّمَا يُرِيدُونَ قربا ودنوا على معنى إلباب بعد إلباب أَي قرب بعد قرب فَجعلُوا بدله لبيْك وَيُقَال ألب الرجل بمَكَان كَذَا وَكَذَا أَي أَقَامَ
وَكَانَ الْوَجْه أَن تَقول لبيتك لأَنهم شبهوا ذَلِك باللبب فَإِذا اجْتمع فِي الْكَلِمَة حرفان غيروا الْحَرْف الْأَخير كَمَا قَالَ الله جلّ وَعز {وَقد خَابَ من دساها} وَالْأَصْل دسسها فَقَالُوا لبيْك قربت وأقمت
وَإِذا قَالُوا أَنا لب فَإِنَّمَا يُرِيدُونَ قريب مِنْك مرّة وَاحِدَة وَإِذا قَالُوا لبيْك أَرَادوا أَنا قريب مِنْك أَنا قريب مِنْك مرَّتَيْنِ قَالَ الشَّاعِر
(دَعَوْت لما نابني مسورا … فلبى فلبي يَدي مسور)
وَالرَّفْع بالتحقيق
قَوْلهم لَا رجل إِلَّا زيد وَلَا إِلَه إِلَّا الله رفعت اسْم الله وزيدا على التَّحْقِيق وَلِأَنَّهُ لَا يجوز أَن تسكت دون تَمَامه أَلا ترى انك إِذا قلت لَا رجل لم يكن كلامك تَاما حَتَّى تَقول إِلَّا زيد
وَأما قَول الْأَعْشَى
(وكل أَخ مفارقه أَخُوهُ … لعمر أَبِيك إِلَّا الفرقدان)
رفع الفرقدين لِأَنَّهُ أَرَادَ والفرقدان يفترقان فَجعل إِلَّا تَحْقِيقا وَقَالَ بَعضهم إِلَّا فِي مَوضِع الْوَاو
وَمثله قَول الله تَعَالَى فِي يُونُس {فلولا كَانَت قَرْيَة آمَنت فنفعها إيمَانهَا إِلَّا قوم يُونُس لما آمنُوا} مَعْنَاهُ فَهَلا كَانَت قَرْيَة آمَنت فنفعها إيمَانهَا إِلَّا قوم يُونُس أَي وَقوم يُونُس لما آمنُوا وَإِلَّا فِي مَوضِع الْوَاو وَإِنَّمَا نصب قوم يُونُس لِأَن إِلَّا بِمَعْنى لَكِن قوم يُونُس لِأَن إِلَّا تَحْقِيق وَلَكِن تَحْقِيق.
وَمثله قَوْله جلّ ذكره {طه مَا أنزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن لتشقى إِلَّا تذكرة لمن يخْشَى} نصب تذكرة على معنى لَكِن تذكرة إِذْ كَانَ من حُرُوف التَّحْقِيق وَمن قَرَأَ تذكرة بِالرَّفْع أَرَادَ إِلَّا أَن تكون تذكرة عَن الْفراء
وَأما قَول الشَّاعِر
(إِذا لَقِي الْأَعْدَاء كَانَ خلاتهم … وكلب على الأدنين وَالْجَار نابح)
أَرَادَ كَانَ خلاة للأعداء وَهُوَ كلب على الأدنين أَو قيل وَمَا هُوَ أَيْضا فَقَالَ كلب على الأدنين رفع على الِابْتِدَاء وَمثله قَول الآخر
(فَتى النَّاس لَا يخفى علينا مَكَانَهُ … وضرغامة إِن هم بِالْأَمر أوقعا)
يَعْنِي وَهُوَ ضرغامة
وَلَوْلَا تكون فِي معنى هلا وَتَكون فِي معنى إِذا كَمَا قَالَ الله جلّ وَعز {فلولا إِذا بلغت الْحُلْقُوم وَأَنْتُم حِينَئِذٍ تنْظرُون} مَعْنَاهُ فَإِذا بلغت الْحُلْقُوم
وَتَكون هَل فِي معنى أَلَيْسَ قَالَ الله جلّ وَعز (هَل فِي ذَلِك قسم لذِي حجر) أَي أَلَيْسَ فِي ذَلِك قسم وَتَكون فِي معنى قد قَالَ الله جلّ ذكره {هَل أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر} أَي قد أَتَى على الْإِنْسَان
وَالرَّفْع ب الَّذِي وَمن وَمَا
فَهَذِهِ أَسمَاء نَاقِصَة لَا بُد لَهَا من صلات وَيكون جوابها مَرْفُوعا أبدا تَقول الَّذِي ضرب عَمْرو زيد ف الَّذِي رفع على الِابْتِدَاء وَضرب صلته وَعَمْرو رفع بِفِعْلِهِ وَزيد رفع لِأَنَّهُ خبر الِابْتِدَاء وَتقول الَّذِي أكلت تمر وَالَّذِي شربت لبن رفعت تَمرا لِأَنَّهُ خبر الِابْتِدَاء وَمثله قَول الله تَعَالَى فِي يُونُس {مَا جئْتُمْ بِهِ السحر} رفع على الْخَبَر أَي الَّذِي جئْتُمْ بِهِ السحر
وَأما قَول الشَّاعِر
(عدس مَا لعباد عَلَيْك إِمَارَة … عتقت وَهَذَا تحملين طليق)
مَعْنَاهُ الَّذِي تحملين طليق رفع لِأَنَّهُ خبر الَّذِي وَمثله {إِن الَّذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} أَي إِن الَّذين تدعون عباد أمثالكم وَمثله أَيْضا {إِنَّمَا صَنَعُوا كيد سَاحر} مَعْنَاهُ إِن الَّذِي صَنَعُوا وَأما مَاذَا فَمنهمْ من يَجْعَل مَاذَا بمنزله مَا وَحده فَيَقُول مَاذَا رَأَيْت أَي مَا رَأَيْت فَتَقول زيدا أَي رَأَيْت زيدا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فِي النَّحْل {مَاذَا أنزل ربكُم قَالُوا خيرا} كَأَنَّهُ قَالَ أنزل خيرا
وَمِنْهُم من يَجْعَل مَاذَا بِمَنْزِلَة الَّذِي فَيَقُول مَاذَا رَأَيْت فَتَقول خير أَي الَّذِي رَأَيْت خير قَالَ الله تَعَالَى {مَاذَا أنزل ربكُم قَالُوا أساطير الْأَوَّلين} رفع على معنى الَّذِي أنزل أساطير الْأَوَّلين وَمِنْه قَول الله تَعَالَى فِي الْبَقَرَة {ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو} بِالرَّفْع مَعْنَاهُ الَّذِي يُنْفقُونَ الْعَفو قَالَ الشَّاعِر
(أَلا تسْأَلُون الْمَرْء مَاذَا يحاول … أنحب فَيقْضى أم ضلال وباطل)
قَالَ أنحب على معنى الَّذِي يحاول نحب أم ضلال وباطل
وَيقْرَأ {مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو} بِالنّصب على معنى يُنْفقُونَ الْعَفو وَهُوَ فضلَة المَال وَكَذَلِكَ عَفْو المَاء وَالْقدر وَغير ذَلِك فضلته وَكَذَلِكَ يجوز النصب فِي قَوْله {مَا جئْتُمْ بِهِ السحر} و {إِنَّمَا صَنَعُوا كيد سَاحر} على إِيقَاع الْفِعْل أَي صَنَعُوا
وأصل الَّذِي ذُو كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(إِذا مَا جنى لم يستشرني بذو جنى … وَلَيْسَ يعريني الَّذِي هُوَ قارف
يَعْنِي بِالَّذِي جنى وَمثله قَول الآخر
(فَإِن بَيت تَمِيم ذُو سَمِعت بِهِ … فِيهِ تنمت وعزت بَينهَا مُضر)
ذُو سَمِعت أَي الَّذِي سَمِعت وَقَالَ آخر
(إِذا مَا أَتَى يَوْم يفرق بَيْننَا … بِمَوْت فَكُن يَا وهم ذُو يتَأَخَّر)
أَي الَّذِي يتَأَخَّر
ثمَّ أدخلُوا على ذُو الْألف وَاللَّام للتعريف وَيلْزم الْيَاء كَمَا ألزمت الكسرة فِي هَؤُلَاءِ فِي كل وَجه فَإِذا جمعُوا زادوا على الَّذِي نونا وجعلوه اسْما بِمَنْزِلَة اسْمَيْنِ ضم أَحدهمَا إِلَى الآخر فألزمت الفتحة اليت هِيَ أخف الحركات وَلَا يتَغَيَّر الَّذين إِلَى غير النصب فِي جَمِيع الحركات
وَأما التَّثْنِيَة مِنْهُ فَإِنَّهُ مَصْرُوف تَقول اللَّذَان قَالَا وَرَأَيْت اللَّذين قَالَا ومررت باللذين قَالَا ثمَّ جمعُوا فَقَالُوا الَّذين فِي كل وَجه كَمَا قَالُوا فِي حَضرمَوْت ومعد يكرب.