المؤلف: أبو البقاء العكبري
المحقق: د. عبد الرحمن العثيمين
مسألة: [الكلام والكلمة]
الكلامُ عبارةُ عن الجُملة المُفيدة فائدةً تامةً، كقولك: ((زيدُ منطلقُ))، و ((إن تأتني أكرِمْك))، و ((قُمْ))، و ((صَهْ))،وما كان نحو ذلك.
فأمَّا اللّفظةُ المفردة نحو ((زَيد)) وحده و ((مَن)) ونحو ذلك فلا يُسمَى كلامًا بل كلمةً، هذا قولُ الجُمهور.
وذهبَتْ شِرْذِمَةُ من النّحويين إلى أنّ الكلامَ يُطلق على المُفيدوغيرِ المُفيد إطلاقًا حَقيقيًّا.
والدّليلُ على القولِ الأَوَّلِ: أنَّه لفظُ يُعبَّر بإطلاقه من الجُملة المُفيدةِ، فكان حَقيقةً فيها، كالشَّرطِ وجوابِهِ، والدّليلُ على أنَّه يعبر به عنها لا إشكال فيه، إذ هو مُتَّفَقُ عليه، وإنَّما الخلاف في تَخصيصه بذلك دونَ غَيره، وبيان اختصاصه بها من ستّة أوجه:
أحدها: أنه يطلق بإزائها فيُقال: هذه الجُملة كلامُ، والأصلُ في الإطلاقِ الحقيقةُ.
الثاني: أنَّ الكلامَ تؤكّدُ به الجُملة كقولك: تَكلّمتُ كلامًا، وكلمتُهُ كلامًا والمصدَرُ المؤكَّدُ به نائبُ عن إعادةِ الجُملة، ألا تَرى أنَّ قولَكَ: قمتُ قيامًا وتكلّمتُ، تقديره: قمتُ قمتُ؛ لأنَّ الأصلَ في التَّوكيد إعادة الجُملة بعينِها، ولكنّهم آثروا أَلا يُعيدوا الجُملة بعينها، فجاءوا بمفردٍ في معناها، والنائبُ عن الشيءِ يؤدّي عن معناه.
والثالث: أنَّ قولَك كلمتُه عبارة عن أنَّك أفهمتَهُ معنى بلفظٍ، والمعنى المُستفادُ بالإِفهامِ تامُّ فكانت العبارة عنه موضوعه له، لا منبئة عنه، والكلامُ هو معنى كلمتُهُ.
والرابع: أن مصدَرَ تكلَّمتُ التَّكَلُّم، وهو مشدّد العَين في الفعلِوالمصدَرِ، والتَّشديدُ للتَّكثير، وأَدنى التَّكثير الجُملةُ المفيدةُ.
وأمَّا كلَّمتُ فمشدَّدُ أيضاً، وهو دليلُ الكثرةِ، ومصدَرُهُ التَّكليم، التاء والياء فيه عوض عن التَّشديد.
والخامس: أنَّ الأحكامَ المُتَعَلّقة بالكلام لا تَتَحقّق إلاّ بالجملة المُفيدة، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ وإِنْ أَحَدُ من المُشرِكِيْنَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَهِ ﴾. ومعلومُ أنَّ الاستجارة لا تَحصُلُ إلاّ بعدَ سماعِ الكلامِ التامِّ المَعنى، والكلمةُ الواحدةُ لا يَحصُلُ بها ذلك. وكذلك قولُه تَعالَى: ﴿ يُرِيدُون أَنْ يُبَدِّلُوا كلامَ اللَهِ ﴾ والتَّبديلُ صرفُ مايَدُل عليه اللّفظ إلى غيرِ معناه، ولا يَحصُلُ ذلك بتَبديلِ الكلمةِ الواحدةِ، لأنَّ الكلمةَ الواحدةَ إذا بُدّلت بغيرها كان ذلك لغةٍ إلى لغةٍ أُخرى وقالَ تَعالى: ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيْقُ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوْهُ ﴾، وإنَّما عَقلوا المَعنى التَّامّ ثُمَّ حرَّفوه عن جهته، ومثله قوله تعالى: ﴿ يُحرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾، ومن ذلك تعليقُ اليَمِينِ بسَمَاعِ الكلامِ، فإنَّه لو قال: والله لا سمعتُ كلامَك فَنَطَقَ بلفظةٍ واحدةٍ ليس فيهَا معنى تَامُّ لم يَحنَث.
السادس: أن العربَ قد تَتَجَوَّزُ بالقول عن العجماوات كقول الشاعر:
امْتَلَأ الحَوْضُ وقالَ قَطْنِيْ *** سَلا رُويْدًا قَدْ مَلَاتَ بَطْنِي
وهو كثيرُ في استعمالهم، ولا يُنسب الكلامُ إلى مثل ذلك، فلا يقالُ تكلَّم الحَوْضُ ولا الحائطُ، ولا سبَبَ لذلك إلاّ أن الكلامَ حقيقةُ في الفَائِدةِ التَّامةِ، والقولُ لا يُشترطُ فيه ذلك.
((وإذا ثَبَتَ ما ذكرناه بانَ أنه حقيقةُ في الدِّلالة على الجُملة التّامة المعنى.
فإن قيل يتَوجّه عليه أسئلةُ:
أحدها:
أنَّ إطلاقَ اللّفظِ على الشيءِ لا يلزمُ منه الحقيقةُ، فإنَّ المجازَ يطلقُ على الشيءِ كما يُقالُ للعالم بَحْرُ، وللشّجاع أسدُ، وقال تعالى: {جدارًا يريدُ أنْ يَنْقَضَّ}، {واسأل القرية}، وكلُّ مجازُ، وقد أُطلق
على هذا المعنى، فلا يلزمُ من الإطلاقِ على ما ذكرتُم الحقيقةُ.
والسؤال الثاني:
أنَّ الإطلاقَ يَكونُ حَقيقةً مشتركةً، أو جِنْسًا تحتَه مفردات، فالمشتركُ كلفظ العين والجنسُ مثل الحيوان، فإنَّ الحيوانَ حقيقةُ في الجنس، والواحدُ منه حقيقة أيضًا، فَلِمَ لا يكونُ الكلام والكلمة من هاتين الحقيقتين؟.
والسؤال الثالث: أنَّ الكلامَ مشتقُ من الكَلْمِ وهو الجَرْحُ، والجامع بينهما التّأثيروالكلمةُ كذلك، لأنَّ الحروفَ الأصولَ موجودةُ فيها، وهي مؤثرة أيضًا إذ كانت تدلُّ على معنى، وهي جزءُ الجُملةِ التَّامة الفائدة، والجزءُ شارك الكلَّ في حقيقةِ وَضْعِهِ، أَلا تَرى أنَّ الحقَّ يثبتُ بشاهدين مثلاً، وكلُّ واحد منهما شاهدُ حقيقة، وإثبات الحقِّ بهما لا ينفي كونَ كلِّ واحدٍ منهما شاهدًا، كذلك ها هنا، ألا ترى أنَّ قولَكَ قامَ زيدُ يشتملُ على جزئين كلّ واحدٍ منهما يُسمى كلمةً، لدلالته على معنى، وتوقُّف الفائدة التَّامَّة على حكمِ يترتَّبُ على المجموع، ولا يَنفي ذلك اشتراك الجُزئين في الحقيقةِ، وعلى هذا ترتب التَّبديل والتحريف إذ كان ذلك كلُّه حكمًا يُستفادبالجُملة، ولا يَنفي حقيقة الوَضع، ثمّ ما ذكرتُمُوه معارضُ بقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}، وبقوله: {كَلِمَةُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ هِيَ الْعُلْيَا}، و {تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} ومعلومُ أنه أَرَادَ بالكلمةِ المُفيدة. وإذا وَقَعَت الكلمةُ على الجُملةِ، جازَ أن يقعَ الكلامُ على المُفردِ.
فالجواب:
أمَّا الإطلاقُ فدليلُ الحقيقةِ؛ إذ كان المجازُ على خلافِ الأصلِ، وإنَّما يُصارُ إليه بقرينة صارفة عن الأصلِ، والأصلُ عدمُ القرائن، ثم إنّ البحثَ عن الكلامِ الدّال على الجملة المفيدةِ لا توجد له قرينة، بل يسارع إلى هذا المعنى من غيرِ توقُّفٍ على وجودِ قرينةٍ، وهذا مثلُ لفظِ العُموم إذا أُطلق حُمل على العُموم من غيرِ يَحتاج إلى قرينةٍ تصرفُهُ إليه، بل إن وُجِدَ تخصيص إلى قرينةٍ.
أمَّا السُّؤال الثّاني، فلا يَصِحُّ على الوَجهين المَذكورين، أمَّا الاشتراكُ فعنه جوابان:
أحدهما: أنّه على خِلافِ الأصلِ؛ إذْ كان يُخِلّ بالتَّفاهُمِ، أَلا تَرى أنّه إذا أُطلق لَفظة (العين) لم يُفهم منه ما يَصحُّ بِناء الحُكم عليه، والكلامُ إنما وُضع للتَّفاهُمِ، وإنّما عَرَضَ الإِشتراك من اختلاف اللُّغات.
والثاني: أنّ الاشتراكَ هُنا لا يَتَحَقَّقُ؛ لأنَّ الكلامَ والكلامةَ من حقيقةٍ واحدةٍ، ولكنَّ الكلامَ مجموع شيئين فصاعدًا، اللّفظةُ المفردةُ ولا اشتراكَ بَينهما، وإنما الكلامُ مُستفادُ بالأوصافِ والاجتماعِ، وليس كذلك المشتركُ بلْ كلُّ من ألفاظه كالأخرى في كونِها مفردَةً. وأمّا الجنس فغيرُ موجودٍ هُنا؛ لأنَّ الجنسَ يفرَّق بين واحدة وبينه بتاء التَّأنيث نحو: تَمرةٍ وتَمْرٍ، وهذا غيرُ موجودٍ في الكلامِ والكلمةِ بل جنس الكلمةِ كَلِمُ وليس واحدُ الكلامِ كلامةُ، فبانَ أنَّه ليس بجنسٍ.
وأما السؤال الثالث: فخارجُ عمّا نَحنُ فيه، وبيانه: أنَّ اشتقاقَ الكلمةِ من الكَلْم، وهو التَّأثير، والكلامُ تأثيرُ مخصوصً، لا مطلقُ التأثير، والخاصُّ غيرُ المُطلق، يَدُلُّ عليه أنَّ الكَلْمَ الذي هو الجَرْحُ مؤثرُ في النَّفس معنى تامّاً وهو الأَلَمُ مثلاً، والكلامُ أشبَه بذلك؛ ولأنَّه يؤثِّرُ تأثيرًا تامّاً، وأمَّا الكلمةُ المفردةُ فتأثيرها قاصرُ، لا يتمُّ منه معنى إلاّ بانضمامِ تأثيرٍ آخرَ إليه، فهما مشتركان في أصلِ التأثير، لا في مِقداره.
وأمَّا المُعارضةُ بقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} فلا تتوجهُ؛ لأنَّ أكثرَ ما فيه أنَّه عَبَّرَ بالجُزء عن الكلِّ، وهذا مَجازُ ظاهرُ؛ إذ كان الواحدُ ليس بجمعٍ ولا جنسٍ، بل يعبَّر به عن الجَمعِ والجِنسِ مَجازًا ووجهُ المَجَاز أن الجُملةَ يتألَّفُ بعضُ أجزائِها إلى بعضٍ، كما تَتَأَلَّف حروفُ الكلمةِ المفردةِ بعضُها إلى بعضٍ، فلمّا اشتركا في ذلك جازَ المَجَازُ، وليس كذلك التَّعبيرُ عن الكلمةِ؛ لأنَّ ذلك نقضُ معناها، ودليلُ المجازِ في الكلمةِ ظاهرُ، وهو قوله: {تَخْرُجُ من أَفْواهِهِمْ إنْ يَقُوْلُونَ إلاّ كَذِبًا}
والكذبُ لا يتحقّقُ في الكلمةِ المفردةِ، وإنّما يُتَصَوَّرُ فيما هو خبرُ، والخبرُ لا يكونُ مفردًا في المعنى.
واحتَجَّ الآخرون بأنّ الاشتقاقَ موجودُ في الكلمةِ والكلامِ بمعنى واحدٍ، وهو التّأثيرُ، فكان اللّفظ شاملاً لهما، يَدُلُّ عليه أنّكَ تقولُ: تكلّم كلمةً وما تكلمَّ بكلمةٍ فيؤكّد باللّفظةِ المفردةِ الفعلُ كما يؤكّد بالكلامِ فيلزمُ من ذلك إطلاق العِبارتين على شَيءٍ واحدٍ.
الكتاب: التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين