كتبه: الشيخ محمد الطنطاوي
المحقق: أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل

‌‌الاختلاف بين البصريين والكوفيين

‌‌أسبابه:

إقليم العراق العربي من أسبق الأقاليم مدنية وعمرانا لخصب تربته ووفرة مياهه واعتدال جوه، تعاقبت عليه قدما متحضروا الأمم من البابليين والأشوريين والفرس، كما انحدر إليه العرب من بكر وربيعة وكانت منهم إمارة المناذرة بالحيرة، ولما أشرقت عليه شمس الإسلام في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- أنشأ فيه المسلمون البصرة سنة ١٥. ثم الكوفة بعدها بستة أشهر على أصح الروايات، وسرعان ما ازدهر البلدان وتحولت إليهما حضارة بابل والحيرة وهوت إليهما أفئدة من المسلمين وزخرا بالعلماء والقواد وتقاسما مدنية العراق، حتى كان إذا قيل العراق فمعناه البصرة والكوفة، وكانوا يطلقون أحيانا عليهما العراقين.

ومع أن البلدين يضمهما سياج العراق فقد غرست النزعة السياسية بينهما بذرة الضغن لما هبط علي كرم الله وجهه الكوفة واتخذها مقر خلافته وقدمت أم المؤمنين عائشة البصرة على رأس جيش فيه طلحة والزبير طلبا لثأر عثمان -رضى الله عنه- فكانت موقعة “الجمل” المعروفة بينهما موقعة بين البلدين[1] ولعل السر في مجاوزة الإمام علي البصرة مع أنها على حرف البادية وتكبده مشاق السفر إلى الكوفة مع توغلها في العراق ما عرف عن الكوفة من ميل أهلها إلى الطاعة ديانة دون البصرة التي اشتهر أهلها بالعصيان والشقاق والعصبية، ولكثرة اليمنيين بها المخلصين للهاشميين المصدورين من القرشيين، ومن حين هذه الموقعة اختلف هواهما فالبصرة عثمانية والكوفة علوية، وازداد هذا الاختلاف بتعاقب الأيام، قال أعشى همدان -عبد الرحمن- على لسان الكوفة:

فإذا فاخرتمونا فاذكروا … ما فعلنا بكم يوم الجمل[2]

جاءت دولة بني أمية فكان ضلعها مع البصرة التي ظاهرتها وناصرتها، والكوفة على تبرم وحنق مستجنين في قلبها بضغط الأمويين عليها، وفي الدولة قسوة ورجالها صرامة، ثم قامت الدولة العباسية على أنقاضها وكان مبدأ ظهورها في الكوفة، فإن أبا العباس السفاح أول خلفائها إنما تمت له البيعة فيها بفضل تشيعها ومظاهرتها للهاشميين، ولقد حفظ العباسيون لها تلك الصنيعة وعطفوا عليها وكافئوها، فانقلب الأمر في البلدين، وعزت الكوفة بعد ذل وأفل نجم البصرة بعد تألق {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [ آل عمران: 140]

كل ذلك مما أوسع شقة الخلاف بين البلدين حتى تألب كل على الآخر وقلب له ظهر المجن، وفي كتاب “البلدان” لأبي عبد الله أحمد بن محمد الهمذاني المعروف بابن الفقيه الشيء الكثير مما تراميا به من الأقوال وتباريا فيه من المفاخرات، نسوق هذا لتعرف متى ولد سبب الاختلاف الذي جرهما إلى تطاول بعضهما على بعض، وحبب إليهما إيثار المخالفة في المسائل العلمية على الموافقة فيها؟ إذ ما بدأت المنافسة العلمية النحوية بينهما إلا بعد أن عملت عوامل الخلاف عملها، ووضعت السدود الحصينة التي تحول دون الوفاق بينهما، وتسلطت الأثرة عليهما.

وكان ذلك كما سبق في أول الطور الثاني على عهد الخليل والرؤاسي بعد اجتماعهما أولا في الأخذ عن الطبقة الثانية البصرية، وبعد تكوين هذا الفن ونشوئه في البصرة.

المصدر: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة

 


[1] قال البلاذري: التقوا بمكان يقال له “الخريبة” في جمادى الأولى سنة ٣٦ وفيها قتل طلحة والزبير رضى الله عنهما.

[2] البيت من قصيدة له راجع الأغاني أخبار أعشى همدان جـ٦ ص٥٥.

اضغط على أيقونة رابط قناتنا على التليجرام

ترك تعليق