‌‌مسألة [٢٧] باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف

ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف، زعم أن قوله:

سقته الرواعد من صيف … وإن من خريف فلن يعدما

قال: يرد “به” وإما من خريف فلن يعدم السقي، فيقال له: (ما) لا يجوز إلغاؤها من (إن) إلا في غاية الضرورة، و (إما) يلزمها أن تكون مكررة، وإنما جاءت ها هنا مرة واحدة، ولا ينبغي أن يحمل الكلام على الضرورة وأنت تجد إلى غيرها سبيلا، ولكن الوجه في “ذلك” ما قال الأصمعي، هي (إن) الجزاء، وإنما أراد إن سقته من خريف فلن يعدم الري، ولم يحتج إلى ذكر (سقته) لقوله أولا: سقته الرواعد من صيف، وقد أضمر ما لم يذكر أولا في قوله: العباد مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فأضمر (كان) وليست في الكلام.

قال أحمد: هذا الوجه الذي حكاه محمد عن الأصمعي، وهو أن تجعل (إن) في البيت بمعنى الجزاء قد أجازه سيبويه بعقب البيت، وذل قوله في إثره: وإن أراد إن الجزاء فهو جائز، لأنه يضمر فيها الفعل، إلا أنه أخره لأنه لم يكن الوجه عنده ولا مراد الشاعر عليه، إلا تراه قال في تفسير البيت: (وإنما يريد وإما من خريف) فحمل معنى البيت على إرادة الشاعر، وذلك أن الشاعر ذكر وعلا يرد هذا الماء متى شاء، وأنه غزير موجود فقال:

إذا شاء طالع مسجورة … ترى حولها النبع والساسحا

فقال: مسجورة، أي: مملوءة من صيف أو خريف فلن يعدم الوعل ريا على كل حال فأعلم أن ذلك ثابت له، وليس للجزاء في هذا البيت معنى يحسن في الشعر ويليق بمراد الشاعر، لأنه إذا حملها على الجزاء فإنما يريد إن سقته لم يعدم الري، وإن لم تسقه /٣٩/ عدم الري، ولا فائدة في هذا يحسن معها الشعر ولا يشبه قوله: إذا شاء طالع مسجورة، فقد جعل ذلك له متى شاء وجعلها مملوءة، فلذلك أخر سيبويه معنى الجزاء ولم يرد أن الجزاء مراد الشاعر، وإنما أراد أن مثل هذا لو وقع في كلام غير هذا البيت لجاز فيه هذا التأويل، لا أنه مراد الشاعر، لأنه قد قال: وإنما يريد وإما، يعني الشاعر.

وأما قوله: لا يجوز إلقاء (ما) من (إما) إلا في غاية الضرورة، فكذا قال سيبويه: إنه لا يجوز إلا في الشعر للضرورة، وقد وافقه على ذلك، وليس بين القولين فرق غير زيادة (غاية)، ومع ذلك فالعرب تحذف من نفس الكلمة للضرورة مع زوال اللبس، فما بالها لا تحذف الزائد للضرورة مع زواله؟ و (ما)، وقد دل على صحة ذلك وجوازه في الشعر بالبيت الذي قبله، “وهو قول الشعر: “

لقد كذبتك نفسك فاكذبنها … فإن جزعا وإن إجمال صبر

فهذه إما، كأنه قال: فإما جزعا وإما صبرا جميلا.

وأما قوله: إن التكرير يلزمها، فليس الأمر على ذلك، لأن الأولى إنما هي زائدة ليبادر إلى المخاطب بأن الكلام مبني على الشك أو التخيير.

والعمل على الثانية، والأولى زائدة وليست توجب في الكلام معنى غير معنى الثانية، وسبيلها في ذلك سبيل (لا) إذا قلت: ما قدم لا زيد ولا عمرو، وإن شئت قلت: ما قام زيد ولا عمرو، فإن شئت أكدت النفي، وزدت (لا) أولا، وإن شئت حذفتها، إلا أن الحذف في (لا) الأولى أكثر في كلامهم منه في (إما)، ولا أعلم أحدا من النحويين المتقدمين يمتنع من إجازة حذفها في قولك: خذ الدرهم وإما الدينار، وجالس زيدا وإما عمرا، فقياسها ما ذكرت لك في (لا)، والكلام لا يلتبس بطرحها، ومعناه بنقصانها كمعناه بزيادتها، فما الذي منع مع هذا كله من تجويز طرحها؟ وقد يطرح من الكلام ما هو الأولى بالإثبات منها، ومعناه يؤول إلى معنى (أو)، و (أو) لا تأتي مكررة، فإذا قلت: جالس إما زيدا وإما عمرا، فمعناه كمعنى جالس زيدا، أو عمرا، وكذلك إذا كانت شكا.

وأما قوله: وقد أضمر ما لم يذكر أولا/٤٠/ في قوله: العباد مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فقد ذكرنا أنه لا يمتنع من إجازتها على الجزاء فيما حكيناه من نص قوله، وفي ذكر ذلك ما أغنى عن رد هذا القول، وفي إجازته في أول الباب أن يضمر الفعل بعد حروف الجزاء ما أغناه أيضا عن ذكر هذه المسألة، لأن هذا إنما هو جواب لمن امتنع من إضمار الفعل بعد حرف الجزاء، وسيبويه فإنما بني الباب عليه، فهو غير محتاج إلى ما قاله.

المصدر: الانتصار لسيبويه على المبرد

ترك تعليق