كتبه: الشيخ محمد الطنطاوي
المحقق: أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل

‌‌طبقات البصريين السبع (2)

1- ابن أبي إسحاق: هو أبو بحر عبد الله بن أبي إسحاق زيد الحضرمي، البصري، اشتهر بكنية ولده، وكان مولى آل الحضرمي، أخذ عن نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وجد في هذا العلم حتى بلغ الغاية فيه، سئل عنه ” يونس ” فقال: “هو والنحو سواء”، كان أول من علل النحو، كما كان شديد التجريد للقياس والعمل به كما سلف.

وعاصره “عيسى بن عمر الثقفي”، و”أبو عمرو بن العلاء”، وجمع بينه وبين أبي عمرو بلال بن أبي بردة عامل البصرة من قبل خالد القسري والي العراق لهشام بن عبد الملك، قال: “ابن سلام”: “قال أبو عمرو: فغلبني ابن أبي إسحاق بالهمز[1]، فنظرت فيه بعد ذلك وبالغت فيه”.

كان كثير السؤال للفرزدق “قال ابن هشام: قد حضر يوما مجلس عبد الله فقال له كيف تنشد هذا البيت:

وعينان قال الله كونا فكانتا … فعولان بالألباب ما تفعل الخمر

فأنشده “فعولان”، فقال له عبد الله: ما كان عليك لو قلت: فعولين؟

فقال الفرزدق: لو شئت أن أسبح لسبحت ونهض فلم يعرفوا مراده، فقال عبد الله: لو قال فعولين لأخبر أن الله خلقهما وأمرهما، ولكنه أراد أنهما

تفعلان ما تفعل الخمر”[2].

ثم تدرج الأمر بعبد الله إلى إعنات الفرزدق في شعره نفسه إذ عابه في قوله:

وعض زمان يابن مروان لم يدع … من المال إلا مسحتا أو مجلفُ[3]

فقال له: بم رفعت ” أو مجلف “؟ فقال له: بما يسوءك وبنوءك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا، كما عابه في قوله:

مستقبلين شمال الشام تضربنا … بحاصب كنديف القطن منثور

على عمائمنا يلقى وأرحلنا … على زواحف تزجي مخها رير[4]

فقال: إنما هو “رير” بالرفع، وإن رفع أقوى، فوجد[5] عليه الفرزدق، وقال: أما وجد هذا المنتفخ الخصيين لبيتي مخرجا في العربية؟ أما لو أشاء لقلت:

على عمائمنا يلقى وأرحلنا … على زواحف نزجيها محاسير

ولكني والله لا أقوله، ثم هجاه بقوله:

ولو كان عبد الله مولى هجوته … ولكن عبد الله مولى مواليا[6]

فقال عبد الله: عذره شر من ذنبه، فقد أخطأ أيضا، والصواب: مولى موال توفي سنة ١١٧هـ[7].

2- عيسى بن عمر الثقفي البصري: هو أبو عمر مولى خالد بن الوليد، نزل في ثقيف فنسب إليهم، أخذ عن ابن أبي إسحاق وغيره، وكان مولعا بالغريب والتشادق، استودعه بعض أصحاب خالد القسري والي العراق لهشام بن عبد الملك وديعة، فلما نزع خالد عن ولاية العراق وتقلدها يوسف بن عمر الثقفي استدعاه من البصرة لأخذ الوديعة فأنكرها ولما اشتد عليه ضرب السياط جعل يقول: “والله إن كانت إلا أثيابا في أسيفاط قبضها عشاروك”[8]، وروي أن الضارب له عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراق من قبل خالد بن عبد الله.

وقد لزمته علة من ذلك الضرب بقية حياته، وهو صاحب الكتابين المشار إليهما سابقا[9]. توفي سنة ١٤٩هـ.

3- أبو عمرو بن العلاء: هو زيان بن العلاء بن عمار المازني التميمي، قال ياقوت: “واختلف في اسمه على أحد وعشرين قولا، والصحيح أنه زبان لما روي أن الفرزدق جاء معتذرا إليه من هجو بلغه عنه، فقال له أبو عمرو:

هجوت “زبان” ثم جئت معتذرا … من هجو “زبان” لم تهجو ولم تدع

فاعتذر إليه الفرزدق وامتدحه بمقطوعة منها قوله:

ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها … حتى أتيت أبا عمر بن عمار[10]

أخذ النحو عن نصر بن عاصم وغيره واشتهر بالقراءات والعربية وأيام العرب ولهجات القبائل.

ومن الطريف لهذه المناسبة أن عيسى بن عمر جاءه متعجبا من تجويزه “ليس الطيب إلا المسك” بالرفع، فقال له أبو عمرو: نمت يا أبا عمر وأدلج الناس، ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، وليس في الأرض تميمي إلا وهو يرفع، ثم أرسلا اليزيدي وخلفا الأحمر للتثبت من العرب، فكان كما أخبر أبو عمرو، فأخرج عيسى خاتمه من يده وقال: ولك الخاتم، بهذا والله فقت الناس[11].

لكنه مع هذا لم يخلف أثرا مكتوبا، ذلك أنه لما تنسك أحرقها وتفرد للعبادة، توفي رحمه الله في الكوفة عائدا من دمشق سنة ١٥٤هـ[12].

المصدر: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة

 


[1] في المزهر: وكان يقال: عبد الله أعلم أهل البصرة وأعقلهم ففرع النحو وقاسه وتكلم في الهمز حتى عمل فيه كتابا مما أملاه وكان رئيس الناس وواحدهم.

 

[2] راجع الأشباه والنظائر الفن السابع فن المناظرات والمجالسات إلخ، والبيت من قصيدة طويلة لذي الرمة.

[3] راجع مقدمة الشعر والشعراء، نقد الشعر، عض الزمان: شدته، والمسحت: المستأصل، والمجلف: الباقي منه بقية، والإشكال في البيت مبني على فتح الدال في “يدع” ونصب “مسحت”، وقد خرج العلماء رفع “مجلف” على أوجه منها ما قال ابن يعيش في شرح المفصل، باب العلم المنقول جـ١٠، وباب الإعلال في الواو والياء لامين جـ١٠: إنه معطوف على المنصوب بملاحظة المعنى، إذ كأنه قال: بقي مسحت، ومنها وجهان آخران ذكرهما الرضي في شرح الكافية آخر عطف النسق، أما على رواية كسر الدال في يدع ورفع مسحت كما قال ابن جني في الخصائص “باب القول على الاطراد والشذوذ” فلا إشكال، ومعنى يدع حينئذ يسكن، وقد أحاط بنقل ما تقدم ما التفصيل والزيادة على نسبة القول لابن يعيش البغدادي في الخزانة شاهد ٣٥٧، والبيت من قصيدة طويلة من النقائض في مدح عبد الملك مع أنه ليس فيها ما يتصل بالمدح إلا هذا البيت مع آخر قبله، فإن ما قبلهما نسيب وما بعدهما في كلام الإبل والفخر بآبائه على جرير.

[4] راجع الشعر والشعراء، المبحث السابق، الشمال: الريح المعلومة والحاصب الريح التي تسير الحصباء، والزواحف جمع زاحفة: الإبل التي أعيت فجرت فراسنها “جمع فرسن كزبرج، وهو البعير كالحافر من دابة” وتزجي: تساق، ورير فاسد ذائب من الهزال. وقد تكلف بعض العلماء تصحيح الجر لرير بأن الأصل على زواحف رير مخها وهو كما ترى. ولذا اعترف الفرزدق مع المكابرة فقال نزجيها محاسير، والمحاسير جمع محسور أي متعب. والبيتان من قصيدة في مدح يزيد بن عبد الملك وهجاء يزيد بن المهلب.

[5] فوجد عليه أي غضب.

[6] راجع الشعر والشعراء والمولى: الحليف ولا يحالف إلا الذليل، فالمعنى لو كان ذليلا لهجوته ولكنه أذل من الذليل لأنه حليف الحضرميين وهم حلفاء بني عبد شمس، والتخطئة في البيت معروفة في النحو باب ما لا ينصرف، راجع سيبويه جـ٢ ص٥٨ وشرح المفصل والرضي على الكافية راجع الخزانة شاهد ٣٥.

[7] راجع رقم “١” ص٢٩ حاشية.

[8] راجع العبارة في مقدمة أدب الكاتب وعيون الأخبار “كتاب العلم والبيان التشادق والغريب” جـ٢، وخزانة الأدب الشاهد التاسع.

[9] الجامع والإكمال.

[10] البيت من شواهد سيبويه في جـ٢ على حذف التنوين من عمرو ص١٤٨ وعلى دخول أفعلت على فعلت ص٢٣٧ وعلى الأول استشهد به ابن يعيش في باب العلم وعلى الثاني أدب الكاتب كتاب الأبنية معاني أبنية الأفعال والرضي على الشافية راجع الشاهد رقم ١٦ والبيت من ثلاثة أنشأها له لما صعد إلى غرف ووصل إليه.

[11] هذه الحادثة الطريفة مفصلة في ذيل الأمالي ص٣٩ وطبقات الزبيدي، والمغني الباب الأول مبحث ليس، والأشباه والنظائر الفن السابع.

[12] ترجمته في المعاجم المرتبة أبجديا في العين إلا في معجم الأدباء وفوات الوفيات ففي الزاي، وراجعها في شرح شواهد الشافية رقم ١٦، ودائرة المعارف الإسلامية.

ترك تعليق