كتبه/أبو الحارث ميسرة ابن عمر النمر

الحمد لله الهادي إلى صراط مستقيم، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين بلسان عربي مبين.

وبعد،

فإنَّه يُقال أن رجلًا من فارس يجيد اللغة العربية بطلاقة حتى إنَّ العرب عندما يكلمهم يسألونه من أي قبائل العرب أنت؟ فيضحك

و يقول: أنا فارسي وأجيد العربية أكثر من العرب.

ذات يوم وكعادته وجد مجلس قوم من العرب فجلس عندهم وتكلم معهم:

و سألوه: من أي قبائل العرب أنت؟

فضحك و قال: أنا من فارس وأجيد العربية خيرًا منكم

فقام أحد الجلوس وقال له:

اذهب إلى فلان بن فلان رجل من الأعراب وكلمه؛ فإن لم يعرف أنك من العجم فقد نجحت وغلبتنا كما زعمت.

و كان ذلك الأعرابي ذا فراسة شديدة

فذهب الفارسي إلى بيت الأعرابي و طرق الباب؛ فإذا ابنة الأعرابي وراء الباب..

تقول: من بالباب؟!!

فرد الفارسي: أنا رجل من العرب وأريد أباك

فقالت: أبي ذهب إلى الفيافي؛ فإذا فاء الفي أفى..

((وهي تعني أن أباها ذهب إلى الصحراء؛ فإذا حل الظلام أتى))

فقال لها: إلى أين ذهب؟

فردت عليه: أبي فاء إلى الفيافي؛ فإذا فاء الفي أفا،،

فأخذ الفارسي يراجع الطفلة ويسأل و هي تجيب من ورء الباب حتى سألتها أمها… يا ابنتي من بالباب؟ فردت الطفلة،،،،

أعجمي على الباب يا أمي.

فكيف لو قابل أباها؟!

هكذا كانوا وهكذا كانت لغتهم حتى إنَّ العجم كانوا يجتهدون في تعلمها واتقانها.

أما حالنا وحال أهل زماننا كحال ذلكم الرجل الذي ذكره ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين.

عن أبي طاهر قال: دخل أبو صفوان الحمام وفيه رجل مع ابنه، فأراد أن يُعَرِّفَ خالدًا ما عنده من البيان.

فقال: يا بني ابدأ بيداك ورجلاك.

ثم التفت إلى خالد؛ فقال: يا أبا صفوان هذا كلام قد ذهب أهله.

فقال: هذا كلام لم يخلق الله له أهلًا قط [1]

يقول عبد القاهر الجرجاني[2]:

اعلم أنَّ الكلام هو الذي يعطي العلوم منازلها و يبيّن مراتبها و يكشف عن صورها و يجني صنوف ثمرها و يدلّ على سرائرها و يبرز مكنون ضمائرها.

وبه أبان اللّه -تعالى- الإنسان من الحيوان ونبّه فيه على عظيم الامتنان.

فقال -عزّ من قائل- ﴿الرحمن علّم القرآن * خلق الإنسان * علّمه البيان[3].

فلولا (الكلام) لم تكن لتتعدّى فوائد العلم عالمه، و لا صحّ من العاقل أن يفتق عن أزاهير العقل كمائمه، و لتعطّلت قوى الخواطر و الأفكار من معانيها…..

ويكفي العربية فخرًا وشرفًا أنَّها لغة القران الكريم قال تعالى ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)[4].

فكل فخر وشرف وعز في الدنيا في تعلم لغة القرآن والتحدث بها.

وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قُلْتُ يَا نَبيَّ اللهِ وَإنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ فَقَالَ (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّار عَلَى وُجُوهِهِمْ أَو عَلَى مَنَاخِرهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهم[5]

ومَعْنَاهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لِسَانُهُمْ يُهْلِكُهُمْ فَيُؤَدِّي بِهِمْ إِلى دُخُولِ جَهَنَّمَ.

فما أحوجنا إلى معرفة لغتنا العربية وإتقانها طلبًا للنجاة وفرارًا من الزلل والعصيان.

إن إتقان الفصحى وفهمها لسهلٌ يسير على من يسره الله -عز وجل- عليه وأخذ بأسبا إتقانها، وإتقان الفصحى يقوم على أربعة أمور أساسية:

1- كثرة التحدث بالفصحى.

2- كثرة الاستماع إليها.

3- كثرة القراءة بها.

4- الحرص على الكتابة بضوابطها.

5- وفي زماننا؛ فإنك لن تجد العون على ذلك ممن حولك لفشو العامية فيهم وغلبتها عليهم، فلابد من معلم حاذق يضبط لك هذه الأمور، ويقف بك على القواعد الأساسية والخطوط العريضة التي من خلال تطبيقها والعمل بها تتحقق الفائدة، ويستطيع المرء أن يتحدث بالفصحى بطلاقة وسجية من غير تَعهّدِ إعْرابٍ، ولا تَجَنبِ لحن. كحال ذلكم الأعرابي الذي قال:

ولَسْتُ بنَحْوِي يَلُوكُ لسانَه ** ولكِن سَلِيقِيٌ أَقُولُ فأعرب[6]

فنحن نحتاج إلى التطبيق العملي لقواعد الفصحى وليس مجرد معرفة هذه القواعد يغني.

وإننا لفي زمان ندر من يهتم بمعرفة قواعد الفصحى فضلًا عن أن يجتهد في تطبيقها والعمل بها والسعي إلى نشرها وبثها في نفوس الناس.

يقول العلامة محمود شاكر:[7]

وإنّ امرءًا يقتل لغته وبيانها، وآخر يقتل نفسه، لمثلان؛ والثاني أعقل الرجلين.


[1] أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي

[2] من فاتحة كتاب أسرار البلاغة.

[3]سورة الرحمن[1: 2]

[4]سورة الشعراء (192: 194)

[5]رواه الترمذي.

[6] شرح شافية ابن الحاجب.

[7] مدخل إعجاز القرآن لمحمود شاكر.

1 تعليق

ترك تعليق