المؤلف: أبو القاسم الزَّجَّاجي
المحقق: الدكتور مازن المبارك

أقول أولاً إن علل النحو ليست موجبة، وإنما هي مستنبطة أوضاعاً ومقاييس، وليست كالعلل الموجبة للأشياء المعلولة بها، ليس هذا من تلك الطريق.

وعلل النحو بعد هذا على ثلاثة أضرب: علل تعليمية، وعلل قياسية، وعلل جدلية نظرية.

فأما التعليمية فهي التي يتوصل بها إلى تعلم كلام العرب، لأنا لم نسمع نحن ولا غيرنا كل كلامها منها لفظاً، وإنما سمعنا بعضاً فقسنا عليه نظيره، مثال ذلك أنا لما سمعنا قام زيد فهو قائم، وركب فهو راكب، عرفنا اسم الفاعل فقلنا ذهب فهو ذاهب، وأكل فهو آكل وما شبه ذلك، وهذا كثير جداً وفي الإيماء إليه كفاية لمن نظر في هذا العلم. فمن هذا النوع من العلل قولنا إن زيداً قائم، إن قيل: بم نصبتم زيداً؟ قلنا: بإن: لأنها تنصب الاسم وترفع الخبر لأنا كذلك علمناه ونعلمه. وكذلك قام زيد. إن قيل: لم رفعتم زيداً؟ قلنا: لأنه فاعل اشتغل فعله به فرفعه. فهذا وما أشبهه من نوع التعليم، وبه ضبط كلام العرب.

فأما العلة القياسية فأن يقال لمن قال نصبت زيداً بإن، في قوله إن زيداً قائم: ولم وجب أن تنصب “إن” الاسم؟ فالجواب في ذلك أن يقول: لأنها وأخواتها ضارعت الفعل المتعدي إلى مفعول، فحُملت عليه فأعملت إعماله لما ضارعته، فالمنصوب بها مشبه بالمفعول لفظاً، والمرفوع بها مشبه بالفاعل لفظاً، فهي تشبه من الأفعال ما قُدم مفعوله على فاعله، نحو ضرب أخاك محمدٌ وما أشبه ذلك.

وأما العلة الجدلية النظرية فكل ما يُعتل به في باب “إن” بعد هذا. مثل أن يقال: فمن أي جهة شابهت هذه الحروف الأفعال؟ وبأي الأفعال شبهتموها؟ أبالماضية، أم المستقبلة، أم الحادثة في الحال، أم المتراخية، أم المنقضية بلا مهلة؟ (وحين) شبهتموها بالأفعال لأي شيء عدلتم بها إلى ما قُدم مفعوله على فاعله نحو ضرب زيداً عمرو، وهلا شبهتموها بما قُدم فاعله على مفعوله لأنه هو الأصل وذاك فرع ثان؟ فأي علة دعتكم إلى إلحاقها بالفروع دون الأصول، وأي قياس أطرد لكم في ذلك؟

وحين شبهتموها بما قدم مفعوله على فاعله، هلا أجزتم تقديم فاعليها على مفعوليها كما أجزتم ذلك في المشبه به في قولكم ضرب أخاك محمد وضرب محمد أخاك؟ وهلا حين امتنعت من ذلك لعلةٍ لزمتموه ولم ترجعوا عنه فتجيزوه في بعض المواضع في قولكم إن خلفك زيداً وإن أمامك بكراً وما أشبه ذلك؟ وهلا حين مثلتم عملها بعمل الفعل المتعدي إلى مفعول واحد نحو ضرب زيداً عمرو، امتنعتم من إجازة وقوع الجمل في موضع فاعلها في قولكم أن زيداً أبوه قائم، وإن زيداً ماله كثير، والفاعل لا يكون جملة؟ ولم أجزتم وقوع الفعل موقع فاعلها في قولكم إن زيداً يركب، وإن عبد الله ركب أرأيتم فعلاً وقع موقع الفاعل بدلاً منه نائباً عنه؟ ما أرى كلامكم إلا ينقض بعضه بعضاً.

وكل شيء اعتل به المسئول جواباً عن هذه المسائل، فهو داخل في الجدل والنظر. وفي باب “إن” سؤلات كثيرة عن هذا سنذكرها مع الجواب عن هذه المسائل في باب ذكر علل “إن” إن شاء الله.

وذكر بعض شيوخنا أن الخليل بن أحمد رحمه الله، سئل عن العلل التي يعتل بها في النحو، فقيل له: عن العرب أخذتها أم اخترعتها من نفسك؟ فقال:

“إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها. وعرفت مواقع كلامها، وقام في عقولها علله، وإن لم يُنقل ذلك عنها، واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه. فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمست. وإن تكن هناك علة له فمثلي في ذلك مثل رجل حكيم دخل داراً محكمة البناء؛ عجيبة النظم والأقسام؛ وقد صحت عنده حكمة بانيها، بالخبر الصادق أو بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة، فكلما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها قال: إنما فعل هذا هكذا لعلة كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا. سنحت له وخطرت بباله محتملة لذلك، فجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ذلك مما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك. فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو هو أليق مما ذكرته بالمعاول فليأت بها”. وهذا كلام مستقيم، وإنصاف من الخليل رحمة الله عليه.

وعلى هذه الأوجه الثلاثة مدار علل النحو، فاعرف ذلك إن شاء الله.

الإيضاح في علل النحو