اللغة الأم، والأم
يولد الإنسانُ ولدَيه حاجة ماسَّة للتَّواصل مع الآخرين؛ وذلك للتعبير عن رغبَاته وآلامِه، فإذا ما كبِر قليلاً تفتَّح ذهنُه لوسيلةٍ تواصليَّة مطوَّرة، أيسر في الاستخدامِ وأكثر تعبيرًا، ليس عن الرغبات فقط؛ بل عن المعانِي المجرَّدة كالإيمانِ والحبِّ بدلاً عن الأشياء الملموسة، ويصطلح الكثيرُ على تسمية هذه اللُّغة باللغة الأمِّ.
وفعلاً هي لغةٌ، وهي كالأمِّ في مجموعةٍ من السِّمات التي يأخذك العجبُ كيف اهتدى البشرُ لهذه التسمية؛ فاللُّغة الأمُّ أكبر مُعينٍ للإنسان كلَّما أراد الحديثَ عن أفكارِه أو أفكار غيره، فهي تمدُّه بالعونِ من الكلمات والمصطلحات والتراكيب والتعبيراتِ والأمثالِ والأَشْعار، حتى تنجح في إيصال المعلومة بشكلٍ كاملٍ ودَقيق، مثلها مثل الأمِّ التي تَرعاكَ وتهتم بِك وتمدُّ لك يدَ المساعدة كلَّما أردتَ قضاءَ حاجة من صغرك، حتى ولو كنت حرًّا عاقلاً بالغًا، فهي تزوِّدك بالطعامِ والشَّراب والملبَس والمأوَى، وكلَّما احتجتَ إليها تجدها أمامَك قد هيَّأَت نفسَها لتقديم كلِّ ما يعينك على مسيرةِ الحياة.
واللُّغة الأمُّ أيضًا ملاذٌ ومَأوى إذا تعسَّر علينا الفهم، أو اختلطَت بِنَا الأمورُ والتفسيرات والمعاني، نحن نعود للُّغة الأمِّ إذا أردنا التعبيرَ عن مشاعرِنا أو ترجمة أعمالِ غيرِنا من آراءٍ وأفكار ومعانٍ وعواطف، نحن نؤوب للُّغة الأمِّ إذا تعثرَت ألسنتُنا واضمحلَّ بيانُنا بأيِّ لغةٍ أخرى، نحن أحيانًا لا نعود للغتنا الأمِّ لأننا عجَزنا عن التحدُّث باللُّغات الأخرى؛ بل لأنَّنا نشعر أنَّ أنفاسنا وعروقنا تحمل شيئًا من حروفها وكلماتِها، حضنُ لغتِنا الأم هو المأوَى عندما نخاف من بقيَّة اللُّغات.
وكما أنَّ الأمهات يتحمَّلون أخطاءنا وزيغَنا واستهتارَنا، فاللُّغةُ الأمُّ يأتيها من نصيبِ ما يأتي الأمَّهات من هذا الصدِّ والإهمال كذلك؛ فهذه اللُّغة الأمُّ لا يحرص كثيرٌ منَّا على إتقانها ومعرفة أسرارها، والغَوْصِ في أعماقها، واستنبات زهرِها، واقتطافِ ثمرها، والبحثِ عن دُرَرها ولؤلُئِها ومحارها، إلاَّ ثلَّة مِن الأبناء البررَة، ومع هذا كلِّه فإنَّها تصبر على الجفاءِ وقلَّة الوفاء، وتستمرُّ في العطاء والسخاء.
كم يتملَّكني العجب في هذا الاهتداءِ والتوفيق لتسميةِ اللُّغة الأولى التي يتحدَّث بها الإنسان باللُّغة الأمِّ؛ فهي فعلاً اللُّغة الأمُّ.
المصدر: شبكة الألوكة