التشبيه المفرد
التشبيه يتنوع إلى أنواع عديدة، ومع ذلك فإنه يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام رئيسة: تشبيه أشياء حسية بأشياء حسية، وتشبيه أمور معقولة بأشياء حسية، وهذان النوعان يندرجان في نوع أكبر هو تشبيه المفرد.
وأما القسم الثالث فهو تشبيه صورة أو هيئة بصورة أو هيئة أخرى، ويُسمَّى هذا القسم الأخير بتشبيه التمثيل أو التشبيه المركب، وهو أعرق أنواع التشبيه، وأكثرها فنونًا وإبداعًا.
وسوف نتناول هذه الأقسام الثلاثة في فرعين: الفرع الأول نُخصِّصه للتشبيه المفرد بقسمَيْه: تشبيه المحسوس بالمحسوس، وتشبيه المعقول بالمحسوس، وأما الفرع الثاني فنُخصِّصه للقسم الثالث وهو التشبيه المركب أو التشبيه التمثيلي.
الفرع الأول: التشبيه المفرد
1- تشبيه الأشياء الحسية بأشياء حسية:
وهو التشبيه بين الأشياء التي تدرك بالحس، سواء كانت تدرك بالبصر أو بالسمع أو بغيره من الحواس.
مثال ذلك في المبصرات: تشبيه الشعر بالليل، والوجه بالنهار، ونحو ذلك، وفي المسموعات: تشبيه الصوت الضعيف بالهمس، وفي الطعم والمذاق: تشبيه بعض الفواكه الحلوة بالعسل والسكر، وفي المشمومات: تشبيه رائحة بعض الرياحين برائحة الكافور، أو رائحة بعضها ببعض، وفي اللمس: تشبيه اللين الناعم بالخز أو بالحرير، وهكذا.
وهذا النوع من التشبيه هو أدنى مراتب التشبيه؛ لأنه لا يحتاج إلى إعمال فكر أو إتعاب ذهن؛ بل يلوح للذهن بمجرد النظر والمشاهدة، كما في تشبيه العيون بالنرجس، ونحو ذلك، فهذه التشبيهات ليس فيها فكر أو إبداع؛ وإنما فقط تمايز بين الأشياء من حيث القلة والكثرة، والضعف والقوة، وما يعطيه ذلك للنفس من بعض الأريحية عند تصوُّر الشبه بين الشيئين.
2- تشبيه الأمور العقلية بالأشياء الحسية:
الأمور العقلية هي التي لا تُدْرَك بالحسِّ؛ وإنما تُدْرك بالعقل؛ مثل: العلم والجهل والإيمان والكفر والعدل والظُّلْم… إلخ، والتشبيه في هذه الأمور العقلية أعلى مرتبة، وأقوى درجة من التشبيه بين الأمور الحسية؛ لأنه لا يتأتَّى للإنسان إلا بعد إعمال فكر وفضل تأمُّل؛ مثال ذلك: أن تشبه الحجة الفكرية بالشمس، فتقول: “هذه حُجَّة كالشمس في الظهور“، فهذا التشبيه لا يتصور على خاطرك ولا يجيء إلى ذهنك إلا بعد بذل الجهد، وشحذ القريحة، وضرب من التفكير والتأويل، وليس كالتشبيه بين الأشياء الحسية الذي يلوح إلى ذهنك بمجرد النظر والمشاهدة، ولا يحتاج إلى فكر أو تأمُّل.
وذلك أن تشبيه الحجة العقلية بالشمس لا يتم لك إلا بأن تتصوَّر أولًا حقيقة الحجب التي تمنع العين من رؤية الأشياء الحسية، ثم تقيس عليها الحجب الفكرية والشبهات؛ لأنها حجب للقلب من رؤية الحق، ثم تأتي الحجة القوية، فتخرق هذه الحجب، ولا يقدر على منع القلب منها أي حجاب، كالشمس لا يمنع منها مانع ولا يحول دون رؤيتها حجاب؛ يقول الإمام الجرجاني: (ومثال الثاني: وهو الشبه الذي يحصل بضرب من التأول؛ كقولك: “هذه حجة كالشمس في الظهور“، وقد شبهت الحجة بالشمس من جهة ظهورها، كما شبهت فيما مضى الشيء بالشيء من جهة ما أردت من لون أو صورة أو غيرهما، إلا أنك تعلم أن هذا التشبيه لا يتمُّ لك إلا بتأول، وذلك أن تقول: حقيقة ظهور الشمس وغيرها من الأجسام ألَّا يكون دونها حجاب ونحوه، مما يحول بين العين ورؤيتها؛ ولذلك يظهر الشيء لك إذا لم يكن بينك وبينه حجاب، ولا يظهر لك إذا كنت من وراء حجاب.
ثم تقول: إن الشبهة نظير الحجاب فيما يُدرَك بالعقل؛ لأنها تمنع القلب رؤية ما هي شبهة فيه، كما يمنع الحجاب العين أن ترى ما هو من ورائه؛ ولذلك تُوصَف الشبهة بأنها اعترضت دون الذي يروم القلب إدراكه، ويصرف فكره للوصول إليه من صحة حكم أو فساده، فإذا ارتفعت الشبهة وحصل العلم بمعنى الكلام الذي هو الحجة، قيل: ((هذا ظاهر كالشمس))؛ أي: ليس ها هنا مانع من العلم به، ولا للتوقف والشك فيه مساغ، وأن المنكر له إما مدخول في عقله، أو جاحد مباهت، ومسرف في العناد، كما أن الشمس الطالعة لا يشك فيها ذو بصر، ولا ينكرها إلا مَنْ لا عُذْر له في إنكاره. فقد احتجت في تحصيل الشبه الذي أثبته بين الحجة والشمس إلى مثل هذا التأول كما ترى)[1].
[1] أسرار البلاغة، ص 92، 93.
2 Comment