الإعجاز البلاغي في التعريف بالإضافة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فإن القرآن الكريم أعظم أنيس وخيرُ جليس، وهو مصباح الظلام ومنهل البيان الذي وقف فحول العرب وفصحاؤهم أمامه عاجزين مشدوهين، لا يُملُّ حديثه ولا تنفد عجائبه، وهو كتاب الله تعالى الذي شغل العالم منذ نزوله إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
وقد أوفى أسلوب القرآن الكريم على الغاية العظمى من البلاغة والفصاحة، وخرج عن جميع وجوه النظم المتعارف عليها في كلام العرب، فتوافر العلماء عبر الزمان على الغوص في أسراره واستخراج درره، فصنَّف فيه الزملكاني والفراء وأبو عبيدة وابن قتيبة، والإمام الرازي وعبدالقاهر الجرجاني، وغيرهم.
وفي أساليب العرب وأهل العلم والفصاحة والبلاغة والأدب، مقالات صولاتٌ وجولاتٌ في شأن رعاية المقام ومقتضى الحال، ومن ذلك المقولة المشهورة عن العرب: “لكل مقام مقـال”، وفيهـا قال الحطيئـة لعمـر بن الخطـاب رضي الله عنه:
تَحنَّـن علَيَّ هداك المليكُ ♦♦♦ فإنَّ لكلِّ مقامٍ مقالًا
ولقد استطاعت الإضافة أن تصور ساحة القيامة بمراحلها المختلفة وأحوالها المتباينة، فصورت المشاهد الحركية نحو مشهد القيام في (يوم القيامة) ومشهد الخروج في (يوم الخروج) قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ﴾ [ق: 42]، أو حركة الرجفة في الإضافة إلى الجملة الفعلية (يوم ترجف)؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا ﴾ [المزمل: 14]، أو حركة الزلزلة: (زلزلة الساعة): ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ [الحج: 1]، أو مشهد الفرار في الإضافة إلى الجملة الفعلية (يوم يفر)؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴾ [عبس: 34]، أو تصور الإضافة المشهد الصوتي برهبته وجلاله: (يوم التناد)؛ قال تعالى: ﴿ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴾ [غافر:32]، أو المشهد النفسي بألمه (يوم الحسرة)؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ [مريم: 39]، أو حركة التجمع ومشهده: (يوم الجمع)؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾ [التغابن:9]، فقد صورت كلُّ إضافة جزءًا من المشهد الكلي الذي تزخر به ساحة الآخرة، هذا وما جاء التركيب الإضافي لكلمة (أصحاب) في معرض الحديث عن النار إلا مضافًا لكلمة من ثلاث كلمات هي: (النار – الجحيم- السعير)، أما إضافة (أصحاب) إلى (الميمنة) و(المشأمة) كما في سورة الواقعة، فقد تكون الإضافة لبيان مشهد أخذ الملائكة لهم جهة اليمين واتجاههم نحوه، وإضافة (أصحاب) إلى (اليمين)، و(الشمال) لبيان مشهد أخذ الكتاب.
وقد تنوعت أغراض الإضافة بتنوع المشاهد والسياقات الواردة فيها، واستطاعت الإضافة أن تدور مع الأغراض المختلفة من مدح وتعظيم إلى ذم وتحقير وتهويل، إلى غير ذلك من الأغراض التي مرَّت، فالإضافة التوضيحية مثلًا في قوله تعالى: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ﴾ [مريم25]، فأضاف (بجذع) إلى (النخلة) لبيان الصورة الحسية التي تهز النفس معها وأيّ هزٍّ هذا الذي يصدر من امرأة في حالة وضع مولودها، وليس هذا فحسب، بل إنه الهزُّ من جذع النخلة، فتكون النتيجة ﴿ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25].
أو تنقل النفس مع توجه الشمس يمينًا أو يسارًا، كما رسمت الإضافة في قوله: ﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ [الكهف: 17]، وهذا كله في سياق خطاب حاسة البصر: (وترى)، وحركة تزاور الشمس؛ أي: ميلها، عند الطلوع وثم المجيء عليهم بقدر قليل عند الغروب، كما دل فعل القرض: (تقرضهم)؛ ليكون قدر الحاجة كما يأخذ المقترض لسد حاجته.
وقد تأتي الإضافة لإثارة النفس وتحريضها لفعل شيء ما أو تركه؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ [الأنعام152]، فإضافة (مال) إلى اليتيم يثير الشفقة في النفس، وترسم جو اليتيم المؤثر، ومن ذلك إضافة (حزب) إلى (الشيطان)، أو يضاف إلى لفظ الجلالة؛ كقوله تعالى: ﴿ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المجادلة: 19]، وقوله: ﴿ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون ﴾ [المجادلة: 22] أو إضافة (سبيل) إلى لفظ الجلالة (الله)؛ كقوله تعالى: ﴿ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ [التوبة: 60]، فهي مع دلالتها على الشمول تثير في النفس الإخلاص والرغبة إلى الله، أو إثارة النفور من حزب الشيطان.
وكانت الإضافة للضمير هي من أكثر الإضافات ورودًا في القصص القرآني – إن لم تكن أكثرها – وذلك لما تقوم عليه القصة من عناصر أساسية تتمثل في الحوار والشخصيات، غير أن الإضافة إلى الضمير قد قامت بدور فعَّال في رسم المشاهد، وإخراج أغوار النفس بصفة عامة؛ كإبراز سلوك السخرية والتهكم والاستهزاء الصادر من المعاندين والكافرين، وذلك في قوله تعالى حكاية عن قولهم: ﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الشعراء: 27]، وهي نفسها تأتي في موضع آخر للتمكين في ذهن السامع بالخطاب العقلي؛ كقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [سبأ: 46].
موضوعات ذات صلة:
الحديث الوارد عن القيامة ومشاهدها في القرآن الكريم قد ورد كثيرًا وبصفة خاصة في السور والآيات المكية التي نزلت في السنين الأولى من الوحي، بغية تحريك القلوب والقضاء على قساوتها، ونقلها من الكفر إلى الإيمان.
بيدَ أن إضافة اليوم إلى القيامة لم تأت على وتيرة واحدة، بل جاءت بأسماء عديدة؛ لتؤدي أغراض مفيدة يقتضيها السياق من أجل إبراز المشهد، وتطالعنا الإضافة – أول ما تطالعنا – في أعظم سورة نزلت في القرآن الكريم وهي سورة الفاتحة، وذلك في قوله تعالى: ﴿ مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4][1]، فأضاف اليوم إلى كلمة الدين، وهي إضافة ذات معنى وإيحاء؛ فإضافة اليوم إلى الدين وهو يوم القيامة؛ لأنه “يُدَان الناس فيه بأعمالهم خيرها وشرها”؛ لأن في ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الظهور كمال ملكه وعدله وحكمته، وانقطاع أملاك الخلق، فلذلك خصه بالذكر، وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام[2].
والسياق الذي وردت فيه هذه الإضافة هو الذي استدعى تلك الكلمة بعينها (الدين)، فقد جاءت في سياق الثناء على الله بكل صفات الكمال ومجامع الحمد (الحمد لله)، وأنه المربي لجميع خلقه ومدبر حاجاتهم وشؤونهم (رب العالمين)، وهذا من آثار رحمته الواجب الإيمان بها في أسمائه وصفاته (الرحمن الرحمن)..
ثم أُرْدِفَتْ جملة (مالك يوم الدين) بقوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، بما فيها من تقديم المعمول: (إيا) وتقديم: (نعبد) على: (نستعين)؛ لأن العبد إذا عبد ربه حق عبادته كما أمره خالقه، أدت تلك العبادة الحقة إلى الاستعانة الخالصة، وهو تقديم للعام على الخاص، فإذا فعل ذلك هدى إلى: (الصراط المستقيم)، فجاءت الآية: (مالك يوم الدين) بتلك الإضافة مسبوقة بتلك المعاني وألحقت بذلك البيان الناصع.
والإضافة إلى: (الفصل) تجسيد تكذيبهم بالجزاء في الدنيا، وتجسيد لمشهد حسرتهم وندمهم عندما واجهوا مصيرهم رأي عين في آخرتهم، وقد جاءت الكلمات مجسدة لهذه المعاني راسمة لهذا الانفعال النفسي والمعترك الداخلي، (وقالوا) فتعلو أصواتهم وحواراتهم بلفظ: (يا ويلنا)، وتكرار اسم الإشارة (هذا) لتجسيد المشهد باستحضار صورة المشار إليه بهوله وفزعه، فالفصل: القضاء بين الحق والباطل، لذلك فقد وردت الإضافة قصدًا للتهويل[3].
وقد يضاف اليوم إلى: (البعث) لما فيه من بث التخويف لساعة البعث بعد الموت: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ﴾ [الروم: 56]، فذكر اللبث المتقدم يوحي بمشهد البعث وبعد الموت، وحرف: (إلى) رسم الغاية ونهاية اللبث وبداية البعث، وزاد من هول المشهد تكرار الإضافة بالإشارة إليه بـ(فهذا) لاستحضاره المشهد.
ويضاف اليوم إلى (التلاق) في قوله تعالى: ﴿ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ﴾ [غافر: 15]، فيستحضر القلب والذهن مشهد التجمع واللقاء، وسماه: “يوم التلاق”؛ لأنه يلتقي فيه الخالق والمخلوق بعضهم مع بعض والعاملون وأعمالهم وجزاؤهم”[4].
وقد يضاف اليوم إلى (التغابن)، وهذه الإضافة مفيدة للتهويل والتخويف؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾ [التغابن: 9]، فمنشأ الهول هنا يأتي من التصوير البديع الذي رسمته الإضافة لكلمة الجمع للأولين والآخرين في موقف عظيم، ثم رسم مشهد التغابن الذي تتجسد فيه خسارة الكافرين والإتيان باسم الإشارة: (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) في مقام الضمير؛ لقصد الاهتمام بهذا اليوم بتمييزه على ما يفيده اسم الإشارة البعيد من علوِّ المرتبة [5].
وقد يضاف اليوم إلى (الحساب)؛ لأنه موجب للثواب أو العقاب، النعيم أو العذاب، وهو يصور العرض للحساب على الله عز وجل[6]، ولذلك جاءت هذه الإضافة لما استعجله الكافرون من وقوع العذاب الذي استخفوا به وأنكروا، فقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 16]، وهي الإضافة نفسها التي جاءت في معرض الحديث عن العذاب الواقع للذين يضلون عن سبيل الله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26].
وقد تأتي الإضافة لتصوير المشهد الصوتي الذي يبرز فيه الخلق إثر النداء عليهم: ﴿ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾ [غافر: 32-33] ويتغاير الأسلوب في النداء ونسبته للمنادي: ﴿ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ﴾ [ق: 41-42]، فالإضافة إلى: (التَّنَادِ)، والإضافة إلى جملة النداء: (يُنَادِ الْمُنَادِ) بما فيها من تلاحق حروف الصوت الندائي وتكرارها، يبعث على جو الهول الصوتي وشدته، فيجتمع الخلق على أثره ويخرجون لملاقاته، (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ)، فما من مخلوق إلا ويخرج مِن مَرقده فما، ينظر أحدٌ هنا أو هناك إلا ويرى خروجًا من كل مكان، قد تفجرت الأرض بالخروج كما كانت تتفجر بالماء في دنياهم، وقد أدى تكرار: (يوم) في مشهد السورتين إلى إبراز جو الرهبة والهول لتداخل المشهد الصوتي مع المشهد الحركي الكثيف، وهو ما جاء في قوله تعالى: ﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ [المعارج: 42-43].
ولقد جاءت الإضافة في مواضع أخرى كثيرة؛ لتجسيد مشهد الحركة بهولها وسرعتها، وهي إضافة تجسد مشهد القيام وحركته، وتوحي باستحضاره وتمثُّله، إنه مشهد القيامة بإضافة: (يوم) إلى: (القيامة) وهي كثيرة جدًّا في آيات القرآن الكريم منها؛ قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [الحج: 17].
قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [الحج: 69].
التَّعْرِيفُ بِالإِضَافَةِ فِي مَشَاهِدِ الجَنَّةِ:
تزخر مشاهد الجنة والحديث عن نعيمها بالأساليب البلاغية الفياضة التي تحرِّك النفس والهمة، وترقى بالروح عالية صافية؛ لأنها نقلت المتلقي من حال السماع إلى المشاهدة الحاضرة كأنها رأي عين، وكان التعريف بالإضافة من الأساليب البلاغية التي قامت بدورها التصويري في إبراز هذه الصور الحية بمعانيها ونعيمها، ومن مواضع هذه الإضافة:
والفردوس أعلى الجنة ووسطها وأفضلها، وجاءت معرفة بأل دون الإضافة في قوله تعالى: ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 10-11]، وجاءت مضافة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ [الكهف: 107]، فضلًا عن غرض التفخيم والتعظيم المستفادين من الإضافة، ففيها معنى الشمول المستفاد من جمع: (جنات)، وهذا محتمل لإرادة كل درجات الجنة ومنازلها، فيشمل هذا الثواب جميع طبقات أهل الإيمان من المقربين والأبرار كل بحسب حاله، وهذا أولى المعنيين لعمومه ولذكر الجنة بلفظ الجمع المضاف إلى الفردوس[7].
وقد تضاف الجنة إلى الخلد – وهي الإضافة الوحيدة في القرآن – لإظهار غرض التعظيم الناشئ من الخلود الأبدي الذي لا فناء بعده ولا زوال، ولعل إيثار الإضافة إلى: (الخلد) هنا؛ لأن السياق المتقدم يحمل حديثًا عن المكذبين والمعاندين الذين آثروا الحياة الدنيا الفانية على الباقية الخالدة [8].
وقد تضاف: (جنات) إلى: (المأوى)، وذلك في موضوعين اثنين من القرآن الكريم؛ أحدهما بصيغة الجمع في قوله تعالى: ﴿ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 19]، فإضافة التعظيم ناشئة هنا من صفة الملاذ والإيواء التي يتمتع بها النازلون بها، وهو تصوير للجنة في حالتها من صفة الملاذ والإيواء التي يتمتع بها النازلون، وقيل: سميت بذلك؛ لِما روى عن ابن عباس قال: يأوي إليها أرواح الشهداء، وقيل: هي عن يمين العرش[9].
وقد تأتي الإضافة التفخيمية في الحديث عن الجنة بالإضافة إلى (عدن)، وذلك لبيان مزية خاصة وفضل دائم، فمصدر التعظيم والتفخيم في هذه الإضافة يأتي من كلمة: (عدن) التي تعني الإقامة الأبدية الدائمة، فلا تحول عنها ولا زوال، وهذا من شأنه أن يبعث السكينة في النفس والطمأنينة في القلب إذا علم النازل بها أنه مقيم بلا رحيل، وهذه الإضافة قد تأتي للإخبار والبيان دون تفصيل نحو قوله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 72].
بَلاَغَةُ التَّعْرِيفِ بِالإِضَافَةِ في مَشَاهِدِ النَّارِ:
جاءت التراكيب الإضافية في مشاهد النار في مواضع كثيرة من آيات القرآن الكريم، فأضيف (أصحاب) إلى (النار) وإلى (المشأمة) وإلى (الشمال)، على غرار ما مرَّ من إضافة (أصحاب) إلى (الجنة)، وإلى (الميمنة) وإلى (اليمين)؛ لتبرز المشاهد المتقابلة في وضوح وقوة وجلاء وتتجلى مواقف الفريقين في مشاهد حية مشخصة في ذهن القارئ والسامع.
وقد جاءت كلمة (أصحاب) مضافة لغير ما سبق، فتغيُّر المواقف يتبعه تغيُّر الأساليب واستدعاء الألفاظ اللازمة لإبراز معاني المشهد وجزئياته، “فالألفاظ إمَّا أن تدل بمنطوقها أو بفحواها أو بمفهومها، أو باقتضائها وضرورتها، أو بمعقولها المستنبط منها، قلت: فالأول دلالة المنطوق، والثاني دلالة المفهوم، والثالث دلالة الاقتضاء، والرابع دلالة الإشارة[10].
فجاءت كلمة (أصحاب) مضافة إلى (الجحيم)؛ كما في قوله: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [المائدة: 10]، وقال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [المائدة: 86]، أصحاب الجحيم ملازموه، والجحيم جهنم، وأصل الجحيم: النار العظيمة تجعل في حفرة ليدوم لهيبها.
وقد تضاف كلمة (أصحاب) إلى (السعير)، لإبراز غرض التهويل الناشئ من استعارها؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]، وقوله تعالى: ﴿ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِير ﴾ [الملك: 11]، فالإضافة تبرز هول المشهد الاستعاري للنار التي “أوقد عليها فاستعرت والتهبت التهابًا لم يكن لها قبل[11]، فكان أهلها في صحبتها وملازمتها، فلا ينفكون عنها، ولا تنفك عنهم كما يلازم الصاحب صاحبه.
المراجع:
• البقاعى- نظم الدرر- دار الكتاب الإسلامى – القاهرة.
• أبو حيان_ البحر المحيط- تحقيق د.عبد الرازق المهدى – ط1- دار إحياء التراث العربي -بيروت -2002.
• الدامغانى – الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز- تحقيق عربى عبدالحميد – ط1- دار الكتب العلمية – بيروت – 2003.
• السعدى_تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان – تحقيق: عبد الرحمن اللويحق – ط1-دار ابن حزم – بيروت-2003.
• السيوطي – معترك الأقران في إعجاز القرآن – تحقيق أحمد شمس الدين_ط1_دار الكتب العلمية – بيروت – 1988.
• ابن عاشور – التحرير والتنوير – دار سحنون – تونس.