كتبه: د. فتوح أحمد خليل
العدول ما يكون بسبب الخلاف للتراكيب النحوية
ومن العدول ما يكون بسبب الخلاف النحوي؛ كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} برفع “الصابئين”، وهو معطوف على اسم (إنّ) المنصوب.
قال السمين “قوله تعالى: {وَالصَّابِئُونَ}: الجمهور على قراءته بالواو، وكذلك هو في مصاحف الأمصار، وفي رفعه تسعة أوجه:
أحدها: وهو قول جمهورِ أهلِ البصرة: الخليل[1]، وسيبويه[2]، وأتباعِهما –أنه مرفوع بالابتداء، وخبرُه محذوفٌ لدلالةِ خبر الأول عليه، والنيةُ به التأخيرُ[3]، والتقدير: إنَّ الذين آمنوا والذين هادُوا والصابئون كذلك[4].
قال الخليل: ” وكذلك قرؤوا: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}، ثم قرؤوا[5]: {وَالْجُرُوحُ قِصَاصٌ}[6]، وأقول: مهما كان توجيه النحاة وخلافهم فالمعنى واضح.
أو بسبب الصنعة النحوية، فيُعْدَل عن القياس، ما جاء في قوله تعالى:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}، ذلك أن الصنعة النحوية توجب إفراد الفعل: (أسرَّ)[7]، قال سيبويه: ” وأما قوله جلّ ثناؤه: ” وأسَرّوا النّجوى الذين ظلموا ” فإنما يجيء على البدل، وكأنه قال: انطلقوا فقيل له: مَن؟ فقال: بنو فلان. فقوله جلّ وعزّ: ” وأسَرّوا النجوى الذين ظلموا ” على هذا فيما زعم يونس، وقال الخليل ـ رحمه الله تعالى ـ: فعلى هذا المثال تجري هذه الصفات. وكذلك شابٌّ وشيخٌ وكهلٌ، إذا أردتَ شابّينَ وشيخينَ وكهلينَ. تقول: مررتُ برجلٍ كهلٍ أصحابه، ومررتُ برجلٍ شابٍّ أبواه، وقال الخليل رحمه الله: من قال أكلوني البراغيث أجرى هذا على أوله فقال: مررت برجل حَسنيْن أبواه، ومررتُ بقومٍ قُرَشيّينَ آباؤهم”[8].
أو بسبب إطالة الكلام؛ لأن من شأن العرب، إذا طال الكلام: أن يغيِّروا الإعراب والنَّسق[9]، قال الخليل: ” إذا طال كلام العرب بالرفع نصبوا، ثم رجعوا إلى الرفع”[10]، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى:{ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ }، وقد ذهب السمين إلى أنَّ النصب هنا على المدح”[11]، وهذا ما ذهب إليه الخليل في كتاب (الجمل)؛ حيث قال: “وزعم يونس النحوي أنَّ نصب هذا الحرف على المدح…، قالت خِرْنق بنت هَفَّان:
لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الذينَ هُمُ سُمُّ العُدَاةِ وآفَةُ الْجُزْر النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ والطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الأزْرِ[12] |
وكما يكون النصب على المدح؛ فقد يكون على الذم أو الشتم، ومن ذلك ما ذهب إليه كل من الخليل والسمين في قوله تعالى: { حَمَّالَةَ الحطب}، قال السمين: ” وقرأ العامةُ {حَمَّالَةُ} بالرفع، وعاصمٌ بالنصبِ[13]؛ فقيل: على الشَّتْم”[14]، وهو عين ما قال به الخليل[15].
و قد يكون النصب على الترحم، وهو نوع من وجوه النصب، قال به السمين في استشهاده بقول الْهُذَلِيّ:
وَيَأوِي إلَى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ = وَشُعْثًا مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِي[16]
وقال به الخليل في الجمل[17]، حيث نصب (شعثًا) و(مراضيع) على الترحم[18].
ومن العدول تذكير المؤنث، وهو باب واسع جدًا في لغة العرب؛ ” لأنه ردّ فرع إلى أصل، لكن تأنيث المذكر أذهب في التنكير والإغراب”[19]، ومنه قوله تعالى: { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}، قال السمين: “فحذف التاءَ منْ “عشر”، وهي مضافةٌ إلى الأمثال وهي مذكرةٌ، ولكنْ لَمَّا جاورت الأمثالُ ضميرَ المؤنث أَجْرى عليها حكمَه، وكذلك قول جرير:
لَمَّا أتى خبرُ الزبيرِ تواضعتْ = سورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ[20]
وقولهم: “ذَهَبَتْ بعضُ أصابِعه” يعني أنَّ “سور” مذكرةٌ” و”بعض أيضًا كذلك، ولكنْ لَمَّا جاروا المؤنثَ أُعْطيا حكَمه”[21]، وهذا ما ذهب إليه الخليل في قوله: ” السور مذكر، وإنما أنث لأن السور من المدينة[22].
ومن العدول أن يجيء المفرد بمعنى الجمع، ومنه قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ }، قال السمين: “ولمَّا كان كلُّ خَصْمٍ فريقًا يَجْمَعُ طائفةً؛ قال: (اختصَمُوا) بصيغة الجمع كقولِه: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ} فالجمعُ مراعاةً للمعنى”[23]، وهذا ما ذهب إليه الخليل في قوله: “الخَصْم: واحدٌ وجميعٌ، قال الله عزّ وجلّ: {وهل أتاك نَبَأُ الخَصْم إذ تَسَوَّروا المِحْراب}؛ فجعلَه جَمْعًا”[24].
مواضيع ذات صلة:
أو يخاطب الواحد بلفظ الاثنين، كقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}، وفي ذلك ذهب الشيخ السمين إلى أن المأمور واحد، وإنما أتى بضميرِ اثنين، دلالةً على تكرير الفعل كأنه قيل: أَلْقِ أَلْقِ[25]، ثم ذهب إلى ما قال به الخليل، وهو أن الله تعالى أراد أَلْقِيَنْ بالنونِ الخفيفة، وأبدلت ألفًا إجراءً للوَصْلِ مُجْرى الوقفِ، ويؤيِّده قراءةُ الحسنِ “أَلْقِيَنْ” بالنونِ[26]، وقيل: العرب تخاطِبُ الواحدَ مخاطبةَ الاثنين تأكيدًا كقولِ سويد بن كراع:
فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا بْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ = وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعَا[27]
ومن العدول إطلاق الشيء والمراد غيره، ومن ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}، وقد ذهب الشيخ السمين إلى أنَّ المراد: كرَّات فهو من إطلاق لفظ التثنية والمراد الجمع، وهذا كقولهم: “لَبَّيْك، وسَعْديك، وحنانَيْك، ودَواليك، وهذاذَيْك، لا يُريدون بهذه التثنيةِ شَفْعَ الواحدِ، إنما يريدون التكثيرَ أي: إجابةً لك بعد أخرى”[28]، وهذا ما ذهب إليه الخليل، حيث قال: ” وأما قولك: لبيك إنما يريدون قربًا ودنوًّا، على معنى إلباب بعد إلباب، أي قرب بعد قرب؛ فجعلوا بدله لبيك، ويقال: ألب الرجل بمكان كذا وكذا؛ أي: أقام”[29].
ومن العدول طرح الحركة الإعرابية، وذلك في نحو قوله تعالى: { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}، ومعلوم أن النحاة لا يجوزون إسكانَ حركةِ الإِعرابِ إلا في ضرورة الشعر، ورُوِي عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركةَ ويختلِسُها[30]، قال السمين: ” وهذا هو الحقُّ”. وحكي عن أبي عمرو إسكانُ الميم، ووجهه أنَّ الحركة لم تكن إلاَّ خلسةً خفيفةً، فظنَّها الرَّاوي سُكُونًا، والإسكانُ الصَّريحُ لحنٌ عند الخليل وسيبويه[31]؛ لأنَّ الحركة الإعرابية لا يُسَوَّغ طرحها إلاَّ في ضرورة الشِّعْرِ[32]، وهذا ما قال به الخليل في قولِ امرئ القيس:
فَاليْومَ أشْرَبْ غَيْرُ مُسْتَحْقِبٍ = إثْمًا مِنْ اللَّهِ وَلاَ وَاغِلِ[33]
ومن العدول حذف الفعل، وهو أمر يعتمد على السياق اللغوي، ومن ذلك ما ذهب إليه الشيخ السمين عند تعرضه لقوله تعالى: {غير المغضوب} من أن نَصْبَ “غيرَ” بإضمار أعني[34]، ومن حذف الفعل أيضًا ما فسره في قوله تعالى:{فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ}؛ حيث ذهب إلى أن قوله تعالى: {خَيْرًا لَّكُمْ} منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ واجبِ الإضمار؛ تقديره: وأتوا خيرًا لكم، وهو مذهب الخليل وسيبويه[35]، وفي قول النابغة:
إذَا تَغَنَّى الحَمَامُ الوُرْقُ هَيَّجَنِي = وَلَوْ تَسَلَّيْتُ عَنْهَا أمَّ عَمَّار[36]
رأى السمين أن الخليل ـ رحمه الله ـ قدر في نصب (أمَّ عمار) فعلا على معنى (هيجني)؛ فذكرتُ أم عمار”[37]، ومعنىكلام الخليل، أن الشاعر إنما نصب (أم عمار) بفعل دلّ عليه السياق اللغوي (أو سياق الموقف).