أقوال العلماء في التضمين (2)
أقوال العلماء في التضمين (2)
وقال الزركشي: يراعى في التعدية المحذوف. الرفث إلى: الإفضاء. أتوا على: أشرفوا. يرد بإلحاد: يُهمّ،
ثم قال: ولم أجد مراعاة الملفوظ إلا في موضعين:
أحدهما؛ ﴿يُقَالُ لَه وُ إِبرَاهيمُ﴾ على قول ابن الضائع: أنهضمن يقال معنى ينادي، وأورد على نفسه كيف عدي باللام والنداء لا يتعدى به، وأجاب: بأنه روعي الملفوظ به وهو القول: قلت له.
الثاني: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾ فإنه قد يقال: كيف يتعلق التكليف بالمرضع؟ وأجيب: بأنه ضمن حرم: المعنى اللغوي وهو المنع فاعترض كيف عدي بـ (على) والمنع لا يتعدى به؟ وأجيب بأنه روعي الملفوظ به وهو: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾ ثم نقل قول القاضي أبي بكر في كتابه إعجاز القرآن: هو حصول معنى فيه من غير ذكر له باسم أو صفة هي عبارة عنه ثم قسمه إلى قسمين: أحدهما ما يفهم من البنية كقولك: معلوم، فإنه يوجب أنه لا بد من عالم، والثاني من معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به كالصفة، فضارب يدل على مضروب. قال: والتضمين كله إيجاز وذكر أن ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ من باب التضمين لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله أو التبرك باسمه.
وفي كلام ياسين بن زين الدين العليمي في حاشيته على شرح التصريح على التوضيح ثمانية أقوال في التضمين:
الأول: أنه مجاز مرسل لأن اللفظ استمعل في غير معناه لعلاقة وقرينة.
الثاني: أن فيه جمعا بين الحقيقة والمجاز لدلالة المذكور على معناه بنفسه وعلى معنى المحذوف بالقرينة.
الثالث: أن الفعل المذكور مستعمل في حقيقته لم يُشرب معنى غيره – كما جرى عليه صاحب الكشاف – ولكن مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر المناسب بمعونة القرينة اللفظية كما ذكر السعد.
وقال السيد: ذهب بعضهم إلى أن اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي فقط، والمعنى الآخر مراد بلفظ محذوف يدل عليه ما هو من متعلقاته. وفيما مثل به جعل المحذوف أصلاً والمذكور مفعولا كـ أحمد إليك فلاناً أي أُنهي إليك حمده، يعني أن المذكور يدل على ذلك، كما يدل على الحال، وقد أراد السيد بيان وجه آخر ليفيد أن ذلك أمر اعتباري لا ينحصر فيما قاله السعد.
الرابع: أن اللفظ مستعمل في معناه الأصلي، فيكون هو المقصود أصالة، ولكن قصد بتبعيته معنى آخر، فلا يكون من الكناية ولا الإضمار.
الخامس: أن المعنيين مرادان على طريقة الكناية، فيراد المعنى الأصلي توصلا إلى المقصود، ولا حاجة إلى التقدير إلا لتصوير المعنى.
السادس: أن المعنيين مرادان على طريق عموم المجاز.
السابع: أن دلالته غير حقيقية ولا تجوز في اللفظ، وإنما التجوزُ في إفضائه إلى المعمول، وفي النسبة غير التامة. ونقل ذلك عن ابن جني وقال: ألا ترى أنهم حملوا النقيض على نقيضه فعدوه بما يتعدى به، كما عدوا (أسر) بالباء حملاً على (جهر)، و (فَضُل) بـ عن حملاً على (نَقَص) وقد علق هذا القول على الصحة.
الثامن: أنه لا بد في التضمين من إرادة معنيين في لفظ واحد على وجه يكون كل منهما بعض المراد، وبذلك يفارق الكناية فإن أحد المعنيين تمام المراد، والآخر وسيلة إليه، وهذا اختيار ابن كمال باشا وقد علق هذا القول على الثبوت.
وقال الدسوقي: مشيرا إلى قول ابن هشام (وفائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين) ظاهر في أن الكلمة تستعمل في حقيقتها ومجازها والجمع بين الحقيقة والمجاز إنما يتأتى على قول الأصوليين: إن قرينة المجاز لا يشترطأن تكون مانعة، أما على قول البيانيين فيشترط أن تكون القرينة مانعة فقيل: التضمين حقيقة ملوحة لغيرها.
وقال الصبان على الأشموني: إن التضمين النحوي إشراب كلمة معنى أخرى بحيث تؤدي المعنيين، والتضمين البياني تقدير حال تناسب الحرف وتمنع كون التضمين النحوي ظاهراً عن البياني، للخلاف في كون النحوي قياسياً وإن كان الأكثرون على أنه قياسي، كما في ارتشاف أبي حيان دون البياني.
وقال ابن كمال باشا: في رسالة له في التضمين: فالتضمين أن يقصد بلفظ معناه الحقيقي ويلاحظ معه معنى لفظ آخر يناسبه ويدل عليه بذكر شيء من متعلقات الآخر كقولك: أحمد إليك فلانا، فإنك لاحظت فيه مع الحمد معنى الإنهاء ودللت عليه بذكر صلته أعنى كلمة (إلى) كأنك قلت: أُنهي حمده إليك، وإنما أطلقت اللفظ لينتظم الاسم، فإن التضمين لا اختصاص له بالفعل، أفصح عن ذلك صاحب الكشاف في سورة الزخرف حيث قال في تفسير قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾ وضمن اسمه تعالى معنى وصف، فلذلك علق به الظرف في قوله: في السماء وفي الأرض كما تقول: هو حاتم في طيءٍ، حاتم في تغلب، على تضمين معنى الجود الذي اشتهر به، كأنَّك قلت: هو جواد في طيءٍ جواد في تغلب.
ولغفوله عن هذا قال الفاضل التفتازاني: وحقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه، وتبعه الفاضل الشريف حيث قال: التضمين أن يُقصد بلفظ فعل معناه الحقيقي. والقاعدة في التضمين أن يراد الفعلان معا قصداً وتبعاً لأن أحدهما مذكور بذكر صلته، ولأن ذكر الصلة غير لازم للتضمينكما إذا ضمن اللازم معنى المتعدي، وتكون تعديته قرينة للتضمين، وبالجملة لابد في التضمين من إرادة معنيين من لفظ واحد على وجه يكون كل واحد منهما بعض المراد فبه تفارق الكناية، فإن أحد المعنيين فيها تمام المراد والآخر وسيلة لا يكون مقصوداً أصالة، وبما قررناه اندفع ما قيل: الفعل المذكور إن كان في معناه الحقيقي فلا دلالة على الفعل الآخر، وإن كان في معنى الفعل الآخر فلا دلالة على المعنى الحقيقي، وإن كان فيهما جميعا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز.
وقال الأستاذ حسين والي: والتضمين مبحث ذو شأن في العربية، وللعلماء في تخريجه طرق مختلفة فقال بعضهم: إنه حقيقة، وقال بعضهم: إنه مجاز، وقال آخرون: إنه كناية. وقال بعضهم: إنه جمع بين الحقيقة والمجاز على طريقة الأصوليين، لأن العلاقة عندهم لا يشترط فيها أن تمنع من إرادة المعنى الحقيقي، وقد وجدوا مخرجا من هذا فقالوا: التضمين حقيقة ملوحة لغيرها.
وقال الأستاذ محمد الخضر حسين: للتضمين غرض هو الإيجاز، وللتضمين قرينة هي تعدية الفعل بالحرف وهو يتعدى بنفسه أو تعديه بنفسه وهو يتعدى بالحرف. وللتضمين شرط هو وجود مناسبة بين الفعلين، وكثرة وروده في الكلام المنظوم والمنثور تدل على أنه أصبح من الطرق المفتوحة في وجه كل ناطق بالعربية متى حافظ على شرطه، فالكلام الذي يشمل على فعل عدي بحرف وهو يتعدى بنفسه، أو عدي بحرف وهو يتعدى بغيره يأتي على وجهين:
الوجه الأول: ألا يكون هناك فعل يناسب الفعل المنطوق به حتى تخرج الجملة على طريقة التضمين، ومثل هذا نَصِفه بالخطأ والخروج عن العربية ولو صدرت عن العارف بفنون الكلام.
الوجه الثاني: أن يكون هناك فعل يصح أن يقصد المتكلم لمعناه مع معنى الفعل الملفوظ، وبه يستقيم النظم، وهذا إن صدر ممن شأنه العلم بوضع الألفاظ العربية، ومعرفة طرق استعمالها، حُمل على وجه التضمين الصحيح كما قال سعد الدين التفتازاني: فشمرت عن ساق الجد إلى اقتناء ذخائر العلوم. والتشمير لا يتعدى بـ (إلى) فيحمل على أنه قد ضمن شمر معنى (الميل) الذي هو سبب التشمير عن ساق الجد. من هنا نعلم أن من يُخطئ العامة في أفعال متعدية بنفسها، وهم يعدونها بالحرف مصيب في تخطئته، وليس معنى هذا أن التضمين سائغ للعارف بطرق البيان دون غيره، إنما أريد أن العارف بوجود استعمال الألفاظ لا نبادر إلى تخطئته متى وجدنا لكلامه مخرجا من التضمين الصحيح.
وذكر أبو البقاء في كتابه الكليات عن بعض العلماء أن التضمين ليس من باب الكناية ولا من باب الإضمار بل من باب الحقيقة إذا قصد بمعناه الحقيقي معنى آخر يناسبه ويتبعه في الإرادة، وذكر عن بعضهم أن التضمين إيقاع لفظ موقع غيره لتضمنه معناه وهو نوع من المجاز. ومن هذا الفن في اللغة شيء كثير لا يكاد يحاط به. فقوله هذا يوحي بأن التضمين قياسي وليس بسماعي.
والتضمين إلحاق مادة بأُخرى لتضمنها معناها باتحاد أو تناسب. وظاهر من هذا أن الكلمة تستعمل في حقيقتها ومجازها ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ أي يمتنعون بالحلف عنهم. وليس حقيقة الإيلاء الإ الحلف،فاستعماله في الامتناع عن الوطء هو طريق المجاز، من باب إطلاق السبب على المسبب وبذلك جمع بين الحقيقة والمجاز.
على رأي علماء الأصول: إن قرينة المجاز لا يشترط أن تكون مانعة بخلاف رأي البيانيين أنها مانعة فقالوا: التضمين حقيقة ملوحة بغيرها. فالتضمين من خلال النظريات الدلالية المعاصرة يحسن أن نتناوله بشيء من المرونة في تفسير اللفظ، فاللغة حياة، وألا نأخذ المعنى المعجمي المصبوب في قوالب جامدة فمعنى اللفظ يتعاون عليه السياق والمقام ولهذا السبب فرق علماء الأصول عند استنباط الأحكام بين نوعين من دلالة اللفظ. الدلالة الوضعية كما تواضع عليها علماء اللغة، والدلالة الإطلاقية أو الأصولية. فاللغة لا تنفرد بالدلالة دون تدخل قصد المتكلم ومقام البيان.
التضمين إذاً مجلى من مجالي الفكر تظهر فيه قدرة الألفاظ على اختزان المعاني، فاللفظ قد يشمل على معانٍ كثيرة، والتضمين يومئ إلى واحد منها أو أكثر بلمحة تدل عليه وفي التلويح غنى عن التصريح. وقد يَنشد المتكلم معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الدال عليه، بل بلفظ هو تبيعه أو رديفه، فإذا دل على التابع أبان عن المتبوع.
المصدر: التضمين النحوي في القرآن الكريم