أقوال العلماء في التضمين (1)
التعريف بالمصطلح:
(أ) – في علم المعاني يطلق على الاقتباس.
(ب) – في علم العروض يطلق على عيب من عيوب القافية.
(ج) – في علم اللغة يطلق على الإيداع والإدخال تقول: ضمن الشيء: أودعه إياه كما تودع الوِعَاء المتاع والميتَ القبرَ قال ابن الرقاع: أوكت عليه مضيقا من عواهنها … كما تضمن كشح الحرة الحبلا يُطلق في علم النحو على إشراب فعل معنى فعل ليعامل معاملته، ويجري مجراه.
أو إيقاع لفظ موقع غيره لتضمنه معناه وللعلماء فيه أقوال:
قال الزمخشري: يضمنون الفعل معنى فعل آخر فيجرونه مجراه ويستعملونه استعماله، مع إرادة معنى المتضمن قال: والغرض في التضمين إعطاء مجموع المعنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ألا ترى كيف رجع معنى ﴿وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾ إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم.
وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في حاشية الكشاف: فإن قيل: الفعل المذكور إن كان مستعملا في معناه الحقيقي فلا دلالة على الفعل الآخر، وإن كان في معنى الفعل الآخر فلا دلالة على معناه الحقيقي. وإن كان فيهما جميعا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز. قلنا: هو في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية. فمعنى ﴿يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾: أي نادما على كذا، ولا بد من اعتبار الحال، وإلا كان مجازاً لا تضميناً، وكذا قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ أي معترفين بالغيب. أ. هـ وقال ابن يعيش: والتحقيق في ذلك أن الفعل إذا كان في معنى فعل آخر، وكان أحدهما يصل إلى معموله بحرف والآخر يصل بآخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه، إيذانا بأن هذا الفعل بمعنى ذلك الآخر، وذلك كقوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ وأنت لا تقول: رفثت إلى المرأة، وإنما: رفثت بها، لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء، وكنت تعدي أفضيت بـ (إلى)، جئت بـ (إلى) إيذانا بأنه في معناه.
وقال ابن النحاس في التعليقة: الفرق بين المضمن معنى الحرف وغير المضمن، أن المضمن معنى الحرف لا يجوز إظهار الحرف معه في ذلك المكان، وغير المضمن يجوز إظهار الحرف معه كما إذا قلنا في الظرف إنه يراد فيه معنى (في) فإنا لا نريد به أن الظرف متضمن معنى (في)، كيف ولو كان كذلك لبني وإنما تعني به أن قوةَ الكلام، قوةُ كلام آخر في ظاهره، وكذلك يجوز إظهار (في) مع الظرف فتقول: (خرجت يوم الجمعة) أي خرجت في يوم الجمعة، ولا تقول في أين وكيف مثلا: هل أين ولا أأين ولا هل كيف، ولا أكيف.
وقال السعد: حقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه. ثم قال: إن الفعل المذكور مستعمل في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية، فقولنا: أحمد إليك فلاناً: أحمده مُنْهِيا إليك حمده، وقول اللَّه تعالى: ﴿يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى﴾ أي يقلبها نادما على. فالفعل المتروك وهو المضمن يعتبر قيدا للمذكور.
واعتُرض عليه بأن في كلامه تناقضا لأن قوله: (مع فعل آخر يناسبه) غير ملائم لقوله: (مع حذف حال) أي اسم لا فعل.
وقال السيد: من شأنهم أنهم يضمنون الفعل معنى فعل آخر فيُجرونه مجراه. فيقولون هيجني شوقاً فعدي إلى مفعولين بنفسه، وإن كان هو يتعدى إلى الثاني بـ (إلى). يقال: هيجه إلى كذا، لتضمنه معنى ذكَر. فإن قلت: إذا كان اللفظ مستعملا في المعنيين معا كان جمعا بين الحقيقة والمجاز، وإن كان مستعملا في أحدهما فلم يقصد به الآخر، فلا تضمين. قلت: هو مستعملفي معناه الحقيقي فقط والمعنى الآخر مراد بلفظ محذوف يدل عليه ذكر ما هو من متعلقاته، فتارة يجعل المذكور أصلا في الكلام والمحذوف حالا كما في قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ كأنه قيل: ولتكبروا اللَّه حامدين على ما هداكم. وتارة يجعل المحذوف أصلا والمذكور مفعولا كما مر من المثال، أو حالا كما يشير إليه قوله: يعترفون به، فإنه لا بد حينئذٍ من تقدير الحال: يعترفون به مؤمنين وإلا لم يكن تضمينا بل مجازا عن الاعتراف.
فاللفظ مستعمل في معناه الأصلي، وهو المقصود أصالة، لكن قصد بتبعيته معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ، ويقدر له لفظ آخر فلا يكون من الكناية ولا الإضمار بل من الحقيقة التي قصد منها معنى آخر يناسبها ويتبعها في الإرادة وحينئذٍ يكون واضحا بلا تكلف. اهـ.
وقال ابن جني: اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر وكان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بآخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه وذلك كقوله: رفثت إلى المرأة إنما تقول: رفثت بها أو معها، لكن لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء، وكنت تعدي أفضيت بـ (إلى)، جئت بـ (إلى) مع الرفث إيذانا وإشعارا أنه بمعناه، وكما جاؤوا بالمصدر فأجروه على غير فعله لما كان فيه معناه نحو قوله: وإن شئتم تعاودنا عوادا ومنه قول اللَّه تعالى: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ وكذلك قوله تعالى: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ أي مع اللَّه وأنت لا تقول سرت إلىزيدِ أي معه، لكن لما كان معناه: من ينضاف في نصرتي إلى الله؟ جاز لذلك أن تأتي هنا بـ (إلى). وكذلك قوله تعالى: ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى﴾ وأنت إنما تقول: هل لك في كذا؟ لكن لما كان ” هذا دعاء من موسى صلوات اللَّه عليه، صار تقديره: أدعوك وأرشدك إلى أن تزكى. وعليه قول الفرزدق: قد قتل اللَّه زيادا عني … لما كان معنى قتله: صرفه، عداه بـ عن. ووجدت في اللغة من هذا الفن شيئا كثيرا لا يكاد يحاط به، ولعله لو جمع أكثره لا جميعه لجاء كتابا ضخما، وقد عرفت طريقه فإذا مر بك شيء منه فتقبله وأْنس به فإنه فصل من العربية لطيف حسن يدعو إلى الأنس بها والفقاهة فيها. أ. هـ وقال في موضع آخر: ومن عادة العرب وسننهم التي يسلكونها أنهم إذا أعطوا شيئا من شيء حكما ما، قابلوا ذلك بأن يعطوا المأخوذ منه حكما من أحكام صاحبه عمارة لبينهما وتتميما للشبه الجامع لهما. اهـ.
وقال السيوطي: إيقاع لفظِ موقع غيره لتضمنه معناه.
وقال ابن هشام: قد يُشربون لفظا معنى لفظ فيعطونه حكمه، وشممى ذلك تضمينا، وفائدته أن تؤدي كلمة مُؤدى كلمتين، ثم ذكر لذلك
أمثلة منها قوله تعالى: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ ضمن معنى (تُحرموه) فعدي إلى اثنين لا إلى واحد و ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ ضمن معنى (تنووه) فعدي بنفسه لا بـ (على). و (لَا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى) ضمن معنى (يُصغون) فعدي بـ (إلى). و ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ ضمن معنى (يميز) فجيء بـ من. قال: وفائدة التضمين أن يدل بكلمة واحدة على معنى كلمتين. وقال في معاني الباء: (وَقَد أَحسَنَ بِي) أي إليَّ وقيل: ضمن أحسن معنى لطف.
وقال ابن القيم: في قول اللَّه تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ يضمنون يشرب معنى يروى فيعدونه بالباء التي تطلبها فيكون ذلك دليلا على الفعلين أحدهما بالتصريح به والثاني بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الاختصار، وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها، وهذا أحسن من أن يقال: يشرب منها فإنه لا دلالة فيه على الري، وأن يقال: يروى بها لأنه لا يدل على الشرب بصريحه بل باللزوم، فإذا قال: يشرب بها، دل على الشرب بصريحه وعلى الري عن طريق الباء فتأمله.
وقال السيوطي: المتضمن معنى شيء لا يلزم أن يجري مجراه في كل شيء، ومن ثم جاز دخول الفاء في خبر المبتدأ المتضمن معنى الشرط نحو: الذي يأتيني فله درهم وامتنع في الاختيار جزمه عند البصريين ولم يجيزوه إلا في الضرورة وأجاز الكوفيون جزمه تشبها بجواب الشرط ووافقهم ابن مالك.
قال أبو حيان: ولم يسمع من كلام العرب الجزم في ذلك إلا الشعر.
زعم بعضهم أن التضمين بالمعنى الذي ذكره السعد، وهو جَعْل وصف الفعل المتروك حالا من فاعل المذكور، يسمى تضمينا بيانيا وأنه مقابل للنحوي وقيل: إن التضمين من باب المجاز، ويعتبر المعنى الحقيقي قيداً وهذا الذي اعتبره الزمخشري. فعلى مذهب السعد يقال: ولا تأكلوا أموالهم ضامّيها. وعلى مذهب الزمخشري: ولا تضموها إليها آكلين.
وقيل: التضمين من الكناية، لفظ أريد به لازم معناه. والجمع بين الحقيقة والمجاز إنما يتأتىعلى قول الأصوليين: إن قرينة المجاز لا يُشترط أن تكون مانعة.
أما على قول البيانيين: فيشترط أن تكون القرينة مانعة، فقيل: التضمين حقيقة ملوحة لغيرها، وقيل: التضمين من باب المجاز، وقيل: التضمين من باب الكناية.
قال ابن تيمية: والعرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف، تقوم مقام بعض كما يقولون في قوله تعالى: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) أي مع نعاجه و ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ أي مع الله. ونحو ذلك … والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمن فسؤال النعجة يتضمن جمعها وضمها إلى نعاجه وكذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ ضمن معنى يزيغونك ويصدونك وكذلك قوله: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ ضمن معنى نجيناه وخلصناه. وكذلك قوله: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ ضمن يروى ونظائره كثيرة.
وقال الزركشي: التضمين إعطاء الشيء معنى الشيء وتارة يكون في الأسماء وفي الأفعال وفي الحروف فأما في الأسماء فهو أن تضمن اسما معنى اسم لإفادة معنى الاسمين جميعا كقوله تعالى: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) ضمن حقيق معنى حريص ليفيد أنه محقوق يقول الحق وهو حريص عليه. وأما الأفعال فأن تُضمن فعلا معنى فعل آخر ويكون فيه معنى الفعلين جميعا، وذلك بأن يكون الفعل يتعدى بحرف فيأتي متعديا بحرفآخر ليس من عادته التعدي به، فيحتاج إما إلى تأويله أو تأويل الفعل ليصح تعديه به. واختلفوا أيهما أولى، فذهب أهل اللغة وجماعة من النحويين إلى أن التوسع في الحرف، وأنه واقع موقع غيره من الحروف أوْلى. وذهب المحققون إلى أن التوسع في الفعل وتعديته بما لا يتعدى لتضمنه معنى ما يتعدى بذلك الحرف أوْلى لأن التوسع في الأفعال أكثر. مثاله: قوله تعالى: ﴿عَيْنًا يشَرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ ضمن يشرب معنى يروى لأنه لا يتعدى بالباء فلذلك دخلت الباء، وإلا فيشرب يتعدى بنفسه وأريد باللفظ الشرب والري معا فجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد، وقيل: التجوز في الحرف وهو الباء فإنها بمعنى (مِنْ) وقيل: لا مجاز أصلا، بل العين ها هنا إشارة إلى المكان الذي ينبع منه الماء لا إلى الماء نفسه، نحو نزلت بعين فصار مكانا يشرب به.
وعلى هذا ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ قال الراغب: وهذا بخلاف المجاز، فإن فيه العدول عن مسماه بالكلية، ويراد به غيره كقوله تعالى: (جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) فإنه استعمل أراد في مقاربة السقوط لأنه من لوازم الإرادة، وأن من أراد شيئا فقد قارب فعله، ولم يرد باللفظ هذا المعنى الحقيقي الذي هو الإرادة ألبتَّةَ، والتضمين أيضا مجاز لأن اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا، والجمع بينهما مجاز خاص يسمونه بالتضمين تفرقة بينه وبين المجاز المطلق.
وقال الزركشي: يراعى في التعدية المحذوف. الرفث إلى: الإفضاء.