استعمال الفعل المتعدي لازمًا
بين الزمخشري وابن هشام والشاطبي
قال الزمخشري (ت538هـ) -رحمه الله- في أساس البلاغة (2/134) مادة (ك س ر): “وكسر الطائر جناحيه كسرًا: ضمهما للوقوع. وبازٍ كاسر، وعقاب كاسر. وقد كسر كسورًا إذا لم تذكر الجناحين. وهذا يدلّ أن الفعل إذا نُسيَ مفعوله، وقصد الحدث نفسه، جرى مجرى الفعل غير المتعدّي”.
وقد نقل الزبيدي (1205هـ) النص بتمامه في تاج العروس (14/37) مادة (ك س ر).
وهذا النص يفيد أن الفعل المتعدي إذا قُصِد به الإخبارُ عن مجرَّدِ وقوع الحدث، ونُسي المفعول به لعدم الاهتمام به، فإنه يصير كالفعل اللازم يكتفي بفاعله، ولا يتطلب مفعولا به.
أي أن موطن البحث في مسألتنا هذه-كما يتبين من نص الزمخشري السابق ذكره- هو: عدم إتيان المتكلم بالمفعول به مع الفعل المتعدي، لأن قصده متوجه إلى الحدث ذاته الذي أحدثه الفاعل، ولا يقصد إلى ذكر المفعول به.
وبهذا تفترق هذه المسألة عن مسألة التضمين، لأن التضمين يعطي الفعل المتعدي معنى فعل آخر لازم، وبالتالي يقصر عمل الفعل على رفع الفاعل، بعد أن اكتسب معناه الجديد.
أما في مسألتنا هذه فالفعل المتعدي هو هو، محتفظ بمعناه، ولم يضمن معنى فعل آخر، غاية الأمر أنه اكتفى بالمرفوع فقط.
وهنا سؤال يطرح نفسه: هل هذا الرأي يصلح قاعدة قياسية، بحيث يمكن استعمال الفعل المتعدي مع الاستغناء عن المفعول به، إذا كان غرض المتكلم من الكلام تسليط الاهتمام على الحدث نفسه؟
وهل صرح أحد من النحاة بأن هذه قاعدة قياسية؟
والإجابة: أنه يبدو أن النحاة متفقون على أنه يجوز حذف المفعول به إذا لم يضر حذفه، كما قال ابن مالك في الألفية:
وحذف فضلة أجز إن لم يضر | كحذف ما سيق جوابا أو حصر |
وقد أورد النحاة صورًا يمتنع فيها حذف المفعوله به، وهي:
• أن يكون نائبًا عن الفاعل لأنه صار عمدة كالفاعل.
• أن يكون متعجبًا منه؛ نحو ما أحسن زيدًا.
• أن يكون مجابًا به ك (زيدًا) لمن قال من رأيت؟
• أن يكون محصورًا؛ نحو: ما ضربت إلا زيدًا.
• أن يكون عامله قد حُذف؛ نحو: خيرًا لنا وشرًّا لعدونا.
• إذا كان المبتدأ غير (كل)، والعائد المفعول نحو: زيد ضربته، فلا يقال اختيارا: زيد ضربت بحذف العائد ورفع زيد.
وكما قلنا فالسؤال حول جواز استعمال الفعل المتعدي فعلا لازمًا إذا كان غرضنا منحصرًا في ذكر الحدث فقط، هو أسهل ما في المسألة، أما الصعب فيها فهو: إذا استعملنا الفعل المتعدي لازمًا، فهل نقول: إن المفعول به محذوف؟ أو لا داعي لتقدير مفعول به؟
لحسن الحظ فإن الزمخشري تناول المسألة في كتاب آخر له هو ” المفصل ” (ص79)، وزادها إيضاحا وتفصيلا أثناء الكلام على حذف المفعول به، فقال: “وحذف المفعول به كثير. وهو في ذلك على نوعين: أحدهما: أن يحذف لفظًا، ويراد معنى وتقديرًا.
والثاني: أن يجعل بعد الحذف نسيًا منسيًا؛ كأن فعله من جنس الأفعال غير المتعدية، كما ينسى الفاعل عند بناء الفعل به.. “.
وضرب أمثلة على هذا النوع الثاني فقال: “من الثاني قولهم: فلان يعطي ويمنع، ويصل ويقطع”.
ثم أكد ابن يعيش على كلام الزمخشري (1/419-420)، وزاد المسألة إيضاحًا وتبيينًا، فقال: “وحذفُه (أي المفعول به) على ضربين:
أحدهما: أن يُحذف وهو مرادٌ ملحوظٌ، فيكون سقوطُه لضرب من التخفيف، وهو في حكم المنطوق به.
والثاني: أن تحذفه مُعرِضًا عنه ألبتّةَ، وذلك أن يكون الغرضُ الإخبارَ بوقوع الفعل من الفاعل من غير تعرُّضِ لمن وقع به الفعلُ، فيصير من قبيلِ الأفعال اللازمة، نحو: ظَرُفَ، وشَرِقَ، وقَامَ، وقَعَدَ..
ثم أورد أمثلة على هذا النوع من الحذف فقال: “والثاني: قولهم: “فلان يُعطِي ويمنع، ويضُرّ وينفَع، ويصِل ويقطع”، والمراد: يعطي ذَوِي الاستحقاق، ويمنع غيرَ ذَوِي الاستحقاق، وينفع الأَودّاءَ، ويضرّ الأعداءَ، إلّا أنّه حُذف، ولم يكن ثمَّ موصولٌ يقتضى راجعًا، ولم يكن المرادُ إلّا الإخبارَ بوقوعِ الفعل من الفاعل لا غيرُ، فصار كالفعل اللازم في الإخبار بوقوع الفعل من الفاعل”.
ويتأكد من كلام ابن يعيش-رحمه الله- ما سبق أن قلناه من أن هذه المسألة تختلف عن تضمين الفعل المتعدي معنى فعل لازم.
وقد تابع الزمخشري على هذا الرأي عدد من النحاة واللغويين، نذكر منهم: أبو السعادات بن الأثير (ت606هـ) في “البديع” (1/138)، والمطرزي (ت610هـ) في “المغرب في ترتيب المعرب” (ص344)، وابن الحاجب (ت646هـ) في “الأمالي” (ص251)، وابن مالك (ت672هـ) في “شرح التسهيل” (2/161-162)، وابن هشام في المغني (6/355) وما بعدها.
وفي ظني أن جميع هؤلاء الأعلام إنما أكلوا على مائدة الزمخشري حتى بشموا، ثم لم يشكروا الرجل أو حتى يودعوه بسلام، ولكنا سوف نخلي سبيلهم، ونمسك بيد ابن هشام؛ لأنه عمد في “المغني” (6/355) إلى نقل رأي الزمخشري السابق، مع تصرف في العبارة، ولم يعزه إلى الزمخشري، والعجيب أن أيًّا من شراح “مغني اللبيب” أو المحشين عليه (الدماميني، والشمني، والأمير، والدسوقي) لم يتنبه إلى هذا النقل، كما أن السيوطي -على سعة اطلاعه- نقل كلام ابن هشام في “الأشباه والنظائر” (2/427)، ولم يتنبه إلى كونه منقولا عن الزمخشري.
والأكثر طرافة من ذلك أن ابن هشام لم يكتف بنقل القاعدة عن الزمخشري بل إنه حينما أراد توضيح رأيه بالأمثلة ذهب إلى كشاف الزمخشري، وامتار منه بعض الأمثلة دون أن يدفع الثمن، إلا أن في هذه المرة صاده الدكتور عبد اللطيف الخطيب، وبين أن كلامه مأخوذ من الكشاف.
ولننقل كلام ابن هشام وندع القارئ يحكم بنفسه إن كان كلامه مأخوذًا من الزمخشري أو لا، حيث قال-رحمه الله-: “بيان أنه قد يظن أن الشيء من باب الحذف وليس منه:
جرت عادة النحويين أن يقولوا: يحذف المفعول اختصارا واقتصارا.
ويريدون بالاختصار الحذف لدليل، وبالاقتصار الحذف لغير دليل، ويمثلونه بنحو ﴿ كلوا واشربوا ﴾، أي أوقعوا هذين الفعلين..
والتحقيق أن يقال: إنه تارة يتعلق الغرض بالإعلام بمجرد وقوع الفعل من غير تعيين من أوقعه أو من أوقع عليه، فيجاء بمصدره مسندًا إلى فعل كون عام، فيقال: حصل حريق أو نهب.
وتارة يتعلق بالإعلام بمجرد إيقاع الفاعل للفعل، فيقتصر عليهما، ولا يذكر المفعول، ولا ينوى؛ إذ المنوي كالثابت، ولا يسمى محذوفًا؛ لأن الفعل ينزل”.
فأنت-عزيزي القارئ- إذا قارنت آخر كلام ابن هشام وجدته عين كلام الزمخشري، ولكن مع تصرف في العبارة، بيد أن ابن هشام كان أكثر وضوحًا في أن ذلك الاقتصار لا يسمى حذفًا.
ومن هذا النص يتبين أن ابن هشام-رحمه الله- يوافق الزمخشري في أن الفعل المتعدي إذا أريد من استعماله مجرد الدلالة على حدوث الحدث من الفاعل، دون الاهتمام بمن وقع عليه الحدث (المفعول به)، فإنه لا حاجة بنا إلى تقدير مفعول، ولا نقول: إن المفعول به محذوف، لأنه لم يقصد أصلا في الكلام.
وقد تلقف ناظر الجيش (ت778هـ) في شرح التسهيل (ص1764) رأي ابن هشام في أن قصر الفعل اللازم على فاعله عند إرادة التنبيه على مجرد الحدث فقط، لا يسمى حذفًا، وطول التقرير في ذلك، فكان مما قاله: “قول بعض النحاة: إن المفعول به في قولنا: فلان يعطي ويمنع- محذوف، لأننا لن نحذف شيئا؛ ولكن لم يذكر للفعل مفعولا؛ وفرق بين حذف الشيء وعدم ذكره؛ فإن الحاذف يقدر المتعلق فيتقيد الفعل به؛ لأن المقدر في حكم المذكور، أما إذا لم يقصد المتكلم متعلقا؛ بل قصد الإخبار بوقوع الفعل دون نظر إلى متعلق، فلا شك أنه لا يقدر شيئا، وإذا لم يقدر فلا حذف”.
أي أن ناظر الجيش شايع ابن هشام في رأيه بأن قصر الفعل المتعدي على مفعوله عند إرادة التنبيه على مجرد الحدث، ليس من باب الحذف، لأن المفعول به لم يذكر أصلا، وهناك فرق بين الحذف وعدم الذكر.
فقول القائل: اللهم تقبل صلاتي التي صليت. المفعول به في الفعل الأخير محذوف، لأنه منوي في الكلام.
أما سؤال السائل لآخر: هل صليت؟ يريد الاستفهام عن مجرد وقوع حدث الصلاة من عدمه، ودون الاهتمام بنوع الصلاة، فليس ههنا مفعول به محذوف.
لكن رأي ابن هشام وناظر الجيش في التفرقة بين الحذف وعدم الذكر لم يعجب الشاطبي (ت790هـ)، الذي نقل رأي ابن هشام في “المقاصد الشافية” (3/160)، وخطأه بعد أن سخر منه سخرية لاذعة، حيث يرى الشاطبي أن الصحيح في تعريف الحذف في اصطلاح النحاة أنه عدم ذكر ما حقه أن يُذكَر، سواء أكان منويًّا في الكلام أم غير منوي، فأي كلام غير مذكور، وكان حقه أن يذكر، يُسَمَّى حذفًا في اصطلاح النحاة.
وهذا ما يجرنا إلى تحقيق مفهوم الحذف عند النحاة، وهو ما سوف نحاوله في مقال لاحق، حتى لا يطول مقالنا هذا أكثر من ذلك.
ولكن قبل الختام، وتتميما للفائدة، نذكر الأغراض البلاغية لاستعمال الفعل المتعدي لازما، وقد أوردها السيوطي في ” الهمع ” (2/13) ولخصتها من كلامه، وهي:
1-الإيذان بالتعميم نَحْو ﴿يُحيِ وَيُمِيتُ﴾ [الْبَقَرَة: 258] يُعْطي وَيمْنَع ويصل وَيقطع.
2- بَعض الْأَغْرَاض المشتركة مع حذف الْفَاعِل، مثل:
أ- الإيجاز فِي ﴿واسمعوا وَأَطيعُوا﴾ [التغابن: 16].
ب- المشاكلة فِي ﴿وَأَن إِلَى رَبك الْمُنْتَهى وَأَنه هُوَ أضْحك وأبكى﴾ [النَّجْم: 42، 43].
ج- الْعلم فِي ﴿فَإِن لم تَفعلُوا وَلنْ تَفعلُوا﴾ [الْبَقَرَة: 24].
د- الْجهل فِي قَوْلك ولدت فُلَانَة وَأَنت لَا تَدْرِي مَا ولدت.
هـ- عدم قصد التَّعْيِين فِي ﴿وَمن يظلم مِنْكُم نذقه عذَابا﴾ [الْفرْقَان: 19].
و- التعظيم فِي ﴿كتب الله لأغلبن أَنا ورسلي﴾ [المجادلة: 21].
ز- الْخَوْف فِي أبغضت فِي الله، وَلَا تذكر المبغوض خوفًا مِنْه.