ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب من الاستفهام يكون الاسم فيه رفعا، ذكر أن قولك: الضارب والشاتم وما أشبه ذلك لا تدخله الألف واللام إلا على معنى الذي فعل، [ولا اختلاف بين النحويين في أنه تدخله على الوجهين جميعا، على الذي فعل] وعلى الذي يفعل، ألا ترى أنك تقول: الضارب زيدا غدا عبد الله كما تقول:
الضارب زيدا أمس عبد الله، قال جرير:
فبت والهم تغشاني طوارقه … من خوف رحلة بين الظاعنين غدا
وهذا أفشى وأوكد من أن يحتج له.
اقرأ أيضا: حالة الكلمة “الإعراب والبناء”
قال أحمد: الأصل في الضارب ما قاله سيبويه: وإنما يعرض له أن يأتي على معنى (يفعل) على حسب الأفعال التي يقع الكلام فيها، وقد وافقه محمد على أنه إذا قال: زيد ضارب عمرو أمس، فهو معرفة لا يعمل في زيد، وإنما كان معرفة لأنه قد وجب وعرف، وليس المستقبل كذلك، لأنه نكرة إذ لم يقع ويجب فيعرف، فإذا أدخلت الألف واللام على ضارب كان أوكد أن يكون معرفة وأولى، إذ كنا ننوي فيه ذلك وليست فيه ألف ولام، فلما دخلت الألف واللام التي للتعريف صار الحدُّ فيه أن يكون معرفة لدخول علم التعريف، وقبل دخوله [كان محتملا للأمرين جميعا بلفظه، فلما دخل علم التعريف، وقبل دخوله] كان المعرفة أولى به، واحتمل الوجه الآخر على حسب ما يعرض في الكلام من المعاني والمجازات والأحوال التي يتخاطب الناس بها، وليس قول سيبويه هذا بقاطع على أنه لا يمكن دخول هذا المعنى فيه على وجه من الوجوه، ألا ترى إلى قول سيبويه في باب “كان”: ولو قلت: ما كان مثلُك أحدا كنت ناقضا، لأنه لا يكون مثله إلا من الناس، فأتى بالكلام على وجهه وحدِّه وأصله، وذكر أن القائل هذا ناقض، ثم أجازه بعد ذلك على التحقير لشأنه والتصغير لأمره.
اقرأ أيضا: المعرف بـ (أل) و بالإضافة
وأما البيت الذي أنشده لجرير بأن ما يجوز وأمثاله على معنى الذي قد رأيتهم يظعنون غدا والذي ظن أنهم يظعنون غدا، فإنما هو على تقدير فعل محذوف قد وجب، لأن الظن بظعنهم قد سلف قبله لتهيئتهم له وتأهبهم له، فصار مقدرا أو مظنونا، وصار ذلك واقعا، أعني التقدير والظن.
اقرأ أيضا: نطق الأصوات نطقًا معيبًا
ومن الدلالة على أن ما قاله سيبويه في الضارب أنه الأصل- أعني أن يكون الذي فعل- قولك: هذا الذي يزورنا ويكرمنا، فيأتي في صلة الذي بالفعل المستقبل وأنت تريد المضيء، كأنك تريد هذا الذي زارنا وأكرمنا، ولا يجوز أن تتأول بالماضي المستقبل فنقول: هذا الذي زارنا، على معنى الذي يزورنا، فلما كان المستقبل ها هنا ينوى به الماضي والماضي لا ينوى به المستقبل، وكان أكثر الكلام على ذلك، علم أنه الأصل وأن غيره داخل عليه لما يعرض فيه.
ومثل ذلك المجازاة، الأصل فيها أن تكون الأفعال مستقبلة، فإن جئت معها بفعل ماض فقلت: إن فعلت فعلت، كان معناه الاستقبال، فالماضي فيها يرجع معناه إلى الاستقبال، والمستقبل لا يرجع معناه إلى الماضي، لأنه الأصل وقد جاء على لفظه.
المصدر: الانتصار لسيبويه على المبرد