بَاب حُرُوف النصب
(٣ – بَاب حُرُوف النصب)
وَاعْلَم أَن حُرُوف النصب على مَا ذكرنَا تَنْقَسِم قسمَيْنِ:
قسم [يعْمل] بِنَفسِهِ، وَقسم يعْمل بإضمار (أَن)
وَإِنَّمَا وَجب النصب ب (أَن) وَأَخَوَاتهَا، لِأَن (أَن) الْخَفِيفَة مشابهة ل (أَن) الثَّقِيلَة فِي الصُّورَة وَالْمعْنَى، فَمن حَيْثُ وَجب أَن تنصب تِلْكَ الِاسْم، نصبت هَذِه الْفِعْل، وَمَا ذَكرْنَاهُ من أخواتها مَحْمُول عَلَيْهَا، وَوجه الْحمل: أَن هَذِه الْحُرُوف – أَعنِي (أَن وكي وَإِذن) – تقع للمستقبل كوقوع (أَن) لَهُ، فَلَمَّا كَانَت مشابهة ل (أَن) فِي إِيجَابهَا لكَون الْفِعْل الْمُسْتَقْبل، نصبت لَا غير، كنصب (أَن)
وَقد ذكرنَا فِي الْفَصْل الْمُقدم عِلّة أُخْرَى فِي نصب (أَن)، فأغنى عَن إِعَادَته. وَاعْلَم أَن لـ(إِذن) ثَلَاثَة أَحْوَال:
أَحدهَا: أَن تنصب لَا غير
وَالثَّانيَة: أَن يجوز إلغاؤها وإعمالها
وَالثَّالِثَة: أَلا يجوز إعمالها.
وَالْحَال الأولى: أَن تقع مُبتَدأَة، كَقَوْلِك: إِذن أكرمك
وَالْحَال الثَّانِيَة: أَن تقع وَقبلهَا الْوَاو وَالْفَاء، كَقَوْلِك: أَنا أحبك وَإِذن أكرمك، فَإِن شِئْت رفعت وَإِن شِئْت نصبت فَمن نصب قدر الْوَاو عاطفة جملَة على جملَة، فَصَارَت (إِذن) فِي الحكم كالمبتدأة، فَلهَذَا نصب.
وَمن رفع جعل الْوَاو عاطفة على الْفِعْل الَّذِي قبله، وألغى (إِذن) .
وَإِنَّمَا سَاغَ إلغاؤها لشبهها ب (ظَنَنْت)، إِذْ توسطت بَين الِاسْم وَالْخَبَر، وَهَذَا التَّشْبِيه إِنَّمَا سَاغَ، لِأَن الْعَرَب قد ألغت (إِذن) فِي الْعَمَل كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِذا لَا يلبثُونَ خَلفك إِلَّا قَلِيلا}.
.وَيجوز إِنَّمَا حملهمْ على إلغائها ليَكُون فِي الْحُرُوف الَّتِي هِيَ أَضْعَف من الْأَفْعَال مَا يجوز فِيهِ الإعمال والإلغاء، كَمَا جَازَ فِي الْأَفْعَال الَّتِي هِيَ أقوى، فَلهَذَا جَازَ إلغاؤها وإعمالها.
وَالْحَالة الثَّالِثَة: لَا يجوز أَن تعْمل فِيهَا، وَهِي تقع بَين كلامين لَا بُد لأَحَدهمَا من الآخر، كالمبتدإ وَالْخَبَر، وَالشّرط وَالْجَزَاء، كَقَوْلِك: زيد إِذا يكرمك، وَإِن تأتني إِذن آتِك وأكرمك.
وَكَذَلِكَ إِن وَقعت بَين الْقسم والمقسم بِهِ، كَقَوْلِك: وَالله إِذن لأَقوم.
وَإِنَّمَا ألغيت فِي هَذِه الْمَوَاضِع، لاحتياج مَا قبلهَا إِلَى مَا بعْدهَا، فَجَاز أَن يطْرَح حكمهَا، لاعتماد مَا قبلهَا على مَا بعْدهَا.
وَأما (كي): فللعرب فِيهَا مذهبان:
أَحدهَا: أَن يعملوها فِي الْفِعْل كعمل (أَن)، لما ذَكرْنَاهُ من التَّشْبِيه.
وَالْمذهب الثَّانِي: أَن يجروها مجْرى لَام الْجَرّ، فَيكون النصب بعْدهَا بإضمار (أَن)، وَذَلِكَ (١٣ / أ) أَن بعض الْعَرَب يَقُولُونَ: كيمه، كَمَا يَقُولُونَ: لمه، فَلَمَّا أجريت مجْرى لَام الْجَرّ، لم يجز أَن تعْمل فِي الْفِعْل، فَوَجَبَ أَن تضمر (أَن) بعْدهَا
وَاعْلَم أَنه قد حكى الْخَلِيل – رَحمَه الله – أَن أصل (لن): لَا أَن، وَلكنهَا حذفت، فَبَقيت (لن) تَخْفِيفًا، فَردُّوا ذَلِك عَلَيْهِ بِأَن قَالُوا: إِن مَا بعد (أَن) لَا يعْمل فِيمَا قبلهَا، وَلَو كَانَت (لن) على مَا زعم الْخَلِيل لم يجز: زيدا لن أضْرب، فَتقدم مَا بعد (لن) عَلَيْهَا.وللخليل أَن ينْفَصل من هَذَا بِأَن يَقُول: وجدت الْحُرُوف مَتى ركبت خرجت عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ، فَمن ذَلِك (هَل) أَصْلهَا الِاسْتِفْهَام، وَلَا يجوز أَن يعْمل مَا بعْدهَا فِيمَا قبلهَا، لَو قلت: زيدا هَل ضربت، لم يجز، فَإِذا زيد على (هَل) (لَا) ودخلها معنى التحضيض، جَازَ أَن يتَقَدَّم مَا بعْدهَا عَلَيْهَا، قَوْلك: زيدا هلا ضربت.
فَإِذا كَانَ تركيب الْحُرُوف يُخرجهَا عَن حكم مَا كَانَت عَلَيْهِ قبل التَّرْكِيب، لم يلْزم الْخَلِيل فِي (لَا أَن) الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
إِلَّا أَن قَول الْخَلِيل وَالْجُمْلَة ضَعِيف من وَجه آخر: هُوَ أَن اللَّفْظ مَتى جَاءَنَا على صفة مَا، وَأمكن اسْتِعْمَال مَعْنَاهُ، لم يجز أَن يعدل عَن ظَاهره إِلَى غَيره من غير ضَرُورَة تَدْعُو إِلَى ذَلِك، فَلَمَّا وجدنَا أَن مَعْنَاهَا مَفْهُوم بِنَفس لَفظهَا لم يجز أَن ندعي أَن أَصْلهَا شَيْء آخر من غير حجَّة قَاطِعَة، وَلَا ضَرُورَة.وَيدل أَيْضا على ضعف قَول الْخَلِيل: انه يجوز أَن يَليهَا الْمَاضِي، وَأَن (أَن) لَا يَليهَا إِلَّا الْمُسْتَقْبل، فَعلمنَا أَن حكم (أَن) سَاقِط، وَأَن (لن) حرف قَائِم بِنَفسِهِ وضع للْفِعْل الْمُسْتَقْبل.
فَإِن قَالَ قَائِل: من أَيْن زعمتم أَن (أَن) تضمر بعد (حَتَّى وَاللَّام وَالْفَاء وَالْوَاو وأو)، وَلم تجعلها مقدرَة بعد (إِذن وكي وَلنْ) ؟فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن (لن وَإِذن وكي) تلْزم الْأَفْعَال، وَيحدث فِيهَا معنى، وَإِن كَانَ بعض العوامل قد يَقع عمله بالتشبيه بِاللَّفْظِ دون الْمَعْنى، فَإِذا كَانَ كَذَلِك وَجب أَن يكون حكم هَذِه الْحُرُوف فِي أَنَّهَا عاملة فِيمَا بعْدهَا كَحكم (أَن وَلنْ) لاشْتِرَاكهمَا فِي لُزُوم الْفِعْل، وَأما (حَتَّى وَالْفَاء وَالْوَاو) فالدلالة قد دلّت على أَن (أَن) مضمرة بعْدهَا
وَذَلِكَ أَن (حَتَّى) قد ثَبت حكمهَا أَن تخْفض الْأَسْمَاء، وَلَا يجوز لعامل الِاسْم أَن يعْمل فِي الْفِعْل، فَلَمَّا وجدنَا الْفِعْل بعد (حَتَّى) مَنْصُوبًا وَقد اسْتَقر لَهَا الْخَفْض، وَأمكن أَن تجْعَل فِي هَذَا الْموضع على بَابهَا، بِأَن تقدر بعْدهَا (أَن) ؛لِأَن (أَن) وَالْفِعْل بِمَنْزِلَة الْمصدر، فَتَصِير (حَتَّى) فِي الْمَعْنى خافضة ل (أَن) وَمَا تعلق بهَا، وَجب أَن تقدر (أَن) بعْدهَا، لِئَلَّا يُخرجهَا عَن أَصْلهَا وَعَن أَحْكَام العوامل
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا جعلتم أَصْلهَا النصب للْفِعْل إِذا كَانَ إِظْهَار (أَن) لَا يجوز، إِذْ صَار أَصْلهَا النصب للْفِعْل، احتجتم إِلَى إِضْمَار حرف يخْفض الِاسْم إِذا وَليهَا، كَمَا فَعلْتُمْ فِي إِضْمَار مَا ينصب الْفِعْل؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك:
أَن حُرُوف الْجَرّ من شَأْنهَا أَن تقوم بِنَفسِهَا، وَمن شَرط الْمَحْذُوف أَلا يحذف حَتَّى تقوم دلَالَة على حذفه، فَلَمَّا وجدناهم يَقُولُونَ: ضربت الْقَوْم حَتَّى زيد، ويخفضون، علمنَا أَنَّهَا خافض
فَإِن قَالَ: أَلَيْسَ (١٣ / ب) يحسن أَن تَقول: ضربت الْقَوْم حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى زيد؟
قيل لَهُ: هَذَا لَا يجوز، لأَنا نَكُون قد أضمرنا فعلا وحرفا، وَالْأَفْعَال الَّتِي تصل بِحرف الْجَرّ لَا يجوز إضمارها، فَلهَذَا سقط أَن نقدر الْخَفْض بعد (حَتَّى) بِحرف سواهَا.
وَأما إِضْمَار (أَن) فَلهُ نَظِير، لِأَنَّهُ تَخْفيف بعض الِاسْم، وَبَعض الِاسْم مَوْجُود فِي كَلَامهم، فَلهَذَا كَانَ جعل (حَتَّى) خافضة للاسم أولى من جعلهَا ناصبة للْفِعْل.
وَوجه آخر: أَن (حَتَّى) مَعْنَاهَا وَمعنى (إِلَى) مُتَقَارب، وَقد ثَبت أَن (إِلَى) خافضة، فَيجب أَن تكون خافضة لقربها من (إِلَى) فِي الْمَعْنى
وَأما اللَّام: فَوَجَبَ إِضْمَار (أَن) بعْدهَا لِأَنَّهَا خافضة، وَقد بَينا أَن عوامل الْأَسْمَاء لَا تعْمل فِي الْأَفْعَال، وَيمْنَع هَذَا أَن إِضْمَار (أَن) بعْدهَا حسن، كَقَوْلِك جِئْت لِأَن تقوم، فَدلَّ على أَن النصب بإضمار (أَن) لَا بِاللَّامِ
وَاعْلَم أَن هَذِه اللَّام إِذا كَانَ قبلهَا نفي، لَا يحسن إِظْهَار (أَن) بعْدهَا، كَقَوْلِك: مَا كَانَ زيد ليقوم، وَلَا يحسن: مَا كَانَ زيد لِأَن يقوم.
وَإِنَّمَا لم يحسن ذَلِك، لِأَنَّهُ جَوَاب لِقَوْلِك: كَانَ زيد سيقوم، فَتَقول: مَا كَانَ زيد ليقوم، فَلَمَّا كَانَت جَوَابا لشيئين، و (مَا) حرف لَا يعْمل، أَرَادوا أَن يكون الْجَواب أَيْضا بِحرف لَا يعْمل فِي الْفِعْل، ليشاكل كل الْجَواب مَا هُوَ جَوَاب لَهُ، فَلهَذَا لم يحسن إِظْهَار (أَن).
فَأَما (الْفَاء وَالْوَاو وأو): فحروف عطف، وحروف الْعَطف لَا تعْمل شَيْئا، لِأَنَّهَا لَا تخْتَص بِالدُّخُولِ على الْفِعْل دون الِاسْم، وَلَا بِالدُّخُولِ على الِاسْم دون الْفِعْل، وكل حرف كَانَ على هَذَا السَّبِيل لم يعْمل شَيْئا، فَلَمَّا وجدنَا الْفِعْل بعد هَذِه الْحُرُوف مَنْصُوبًا، علمنَا أَنه انتصب بغَيْرهَا، وَهُوَ (أَن).
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَارَت (أَن) بالإضمار أولى من أخواتها؟
فَفِي ذَلِك وَجْهَان:
أَحدهمَا: أَن (أَن) هِيَ الأَصْل لهَذِهِ الْحُرُوف فِي الْعَمَل لما ذَكرْنَاهُ، فَوَجَبَ أَن يكون الْمُضمر (أَن) لقوتها فِي بَابهَا، وَأَن يكون مَا حمل عَلَيْهَا يلْزم موضعا وَاحِدًا وَلَا يتَصَرَّف.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن (أَن) يَليهَا الْمَاضِي والمستقبل، فَصَارَت أَشد تَصرفا من أخواتها، لِأَنَّهُ لَا يَليهَا إِلَّا الْمُسْتَقْبل، فَلَمَّا حصلت لَهَا مزية على أخواتها فِي الْإِظْهَار كَانَت أولى بالإضمار.
وَأَيْضًا فَإِن (أَن) لَيْسَ لَهَا معنى فِي نَفسهَا، كمعنى (لن وَإِذن وكي)، وَلأَجل أَن نضعها فِي مَعْنَاهَا جَازَ أَن تحذف، وَلم يجز إِضْمَار أخواتها، لِكَثْرَة فائدتها.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل يجوز الْقيَاس على هَذَا حَتَّى يجوز إِضْمَار (أَن) بِكُل مَوضِع؟
قيل لَهُ: لَا.فَإِن قَالَ: فَلم خصت هَذِه الْمَوَاضِع بِهَذَا؟
قيل لَهُ: إِنَّمَا لم يجز إِضْمَار (أَن) فِي كل مَوضِع، لِأَنَّهُ عَامل ضَعِيف، وَلَيْسَ من شَرط الْعَامِل الضَّعِيف أَن يعْمل مضمرا، وَإِنَّمَا جَازَ إضماره فِي هَذِه الْمَوَاضِع لِأَن هَذِه الْحُرُوف والعوامل – أَعنِي (اللَّام وَحَتَّى وأخواتهما) – صَارَت عوضا مِنْهَا، فجرت فِي الْعِوَض مجْرى (الْوَاو) الَّتِي تقع عوضا من (رب)، كَقَوْلِه: وبلد عامية أعماؤه [ وَكَقَوْلِه]: (وبلدة لَيْسَ بهَا أنيس … إِلَّا اليعافير وَإِلَّا العيس) وَكَقَوْلِه: وبلدة قطعتأَي: رب بَلْدَة قطعت، فَلَمَّا صَارَت عوضا من (أَن) حسن حذفهَا.