نايف ناصر المنصور
لغتنا العربية وأهميتها للشريعة (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنَّ العربية هي اللغة التي اختارها الله لهذا الدين، قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الزخرف: 3]، وغيرها من الآيات التي ذكرها سبحانه والتي تدل على الارتباط الوثيق بين القرآن واللغة العربية، السبب الذي دعاني للكتابة عن ذلك، وأن أذكر: أهمية اللغة العربية وفضلها، وحكم تعلمها من قِبَلِ المسلمين؛ الأفراد عامة، وطلبة العلم خاصة، ومدى ارتباط علوم اللغة العربية بدراسة علوم الشريعة؛ حيث إن اللغة العربية تعتبر من الأدوات الرئيسة في فهم نصوص وأحكام الشريعة، ولأن القرآن الكريم هو المصدر الأول الذي تفرعت منه العلومُ الشرعية من تفسير وفقه وقراءات وأصول، وارتبطت به بدايات تأسيس علوم اللغة العربية من نحو وبلاغة وصرف، فقد حرص علماء السلف على دراسة اللغة العربية باعتبارها اللغة الصحيحة الفصيحة التي تتضمن عقائد وأحكام القرآن الكريم، الأمر الذي جعل علم العربية جزءًا من العلم الشرعي.
قال ابنُ كثيرٍ: “لأنَّ لغة العرب أفصحُ اللغات، وأَبْيَنُها، وأَوْسَعُها، وأكثرُها تَأْدِيةً للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أُنزل أشرفُ الكتب بأشرفِ اللغات“[1].
وقال أبو بكر الشَّنْتَرِيني في مقدمة كتابه (تَنْبِيه الألباب)[2]: فإنَّ الواجبَ على كل مَن عَرَف أنه مخاطَبٌ بالتَّنزيل، ومأمورٌ بفَهم كلامِ الرسول صلى الله عليه وسلم، غير معذور بالجهل بمعناهما، ولا مُسَامَحٍ في تَرْك العمل بمقتضاهما – أن يَتقدَّمَ فيَتعلَّم اللسان الذي أَنزل اللهُ به القرآنَ؛ حتى يَفهم كلامَ الله، وحديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذْ لا سبيل لفَهمِهما دون معرفة الإعراب، وتمييزِ الخطأ من الصواب.
أهمية اللغة العربية:
يعتبر الهدف الأساسي من وجود علوم اللغة العربية هو الحفاظ على النص القرآني، والحرص على صيانته من كل تحريف أو تبديل، وعصمة ألسنة الناس من اللحن والخطأ، كما أن وجودها مهمٌّ لغير العرب من المسلمين لتعلُّم القرآن وفهم معانيه ومعرفة أحكام الشريعة، وقد بيَّن ذلك ابن جني على سبيل المثال وهو يعرِّف النحو حيث قال: علمٌ به يلحق من ليس من أهل العربية بأهلها في الفصاحة، وإن شذ بعضهم عنها رُدَّ به إليها[3]، وقد صرح الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات أن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية فلا يفهمها حقَّ الفهم إلا من فهم اللغة حقَّ الفهم؛ لأنهما سيان في النمط[4].
وتتكون علوم اللغة العربية من اثني عشر فنًّا، مجموعة في قول الناظم:
نحوٌ وصرفٌ عَروضٌ ثمَّ قافيةٌ
وبعدَها لُغَةٌ قَرْضٌ وإنْشَاءُ
خطٌّ بَيانُ معانٍ معْ مُحاضَرةٍ
والاشتقاقُ لها الآدابُ أَسماءُ[5]
وهذه الفنون قد ساهمت في إيصال اللغة العربية بشكل أسهل وميسر، وساعدت على تقريب العلم الشرعيِّ لطلابه، وتتميز اللغة العربية أيضًا عن غيرها بأنها لغة الدين الإسلامي، فالقرآن الكريم نزل باللغة العربية؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2].
ولقد أدرك السلف رضوان الله عليهم أهمية اللغة العربية وأنها وسيلة مهمة لفهم كلام الله، فهذا الإمام الشافعي رحمه الله يقول عنه زوجُ ابنته: “أقام الشافعي علمَ العربية وأيامَ الناس عشرين سنة، فقلنا له في هذا، فقال: ما أردت بهذا إلا الاستعانة للفقه“[6]، وعُرف عنه مقولته الشهيرة في أهمية اللغة العربية وقدر من يعرفها: “أصحاب ُالعربية جِنُّ الإنس، يُبصرون ما لم يبصرْ غيرُهم“[7]، وقال أيضًا: “من تبحر في النحو اهتدى إلى كل العلوم“[8].
وقال الزمخشري رحمه الله: فليس هناك علم من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها، وعلمي تفسيرها وأخبارها، إلا وافتقاره إلى العربية بيِّنٌ لا يُدفع، ومكشوف لا يتقنع، وكذلك الكلام في معظم أبواب أصول الفقه مبني على علم الإعراب. اهـ[9].
وقال مالك بن أنس رحمه الله: “لو صرت من الفهم في غاية، ومن العلم في نهاية؛ لأن ذلك يرجع إلى أصلين: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل إلى الرسوخ فيهما إلا بمعرفة اللسان العربي، فلو أن الرجل يكون عالمًا بسائر العلوم، جاهلًا به، لكان كالساري، وليس له ضياء” اهـ[10].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه” اهـ[11].
وقال ابن خلدون رحمه الله في الفصل الخامس والأربعين من مقدمته في علوم اللسان العربي: “أركانه أربعة، وهي: اللغة، والنحو، والبيان، والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة؛ إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونقَلَتُها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغاتهم، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة” اهـ[12].
وقال السيوطي رحمه الله تعالى في شرح ألفيته: “وقد اتفق العلماء على أن النحو يحتاج إليه في كل فن من فنون العلم، ولا سيما التفسير والحديث” اهـ[13].
فهذه النقولات عن علماء الأمة من أهل الشريعة واللغة وعلم الاجتماع عبرت عن اتفاقهم على أهمية اللغة العربية وتعلمها للوصول إلى فهم القرآن ومعرفة أحكامه.
سبب نشأة علوم اللغة العربية:
كانت سبب نشأة علوم اللغة العربية ومبتدؤها في ظهور علم النحو، وذلك في الحادثة التي ظهر فيها اللحن في قراءة القرآن في قصة الأعرابي الذي استقرأ الناس فأقرأه رجل الآية التالية: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3] قرأها بكسر اللام من (رسوله)، فقال الأعرابي: إن يكن الله قد برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فبلَغ عمرَ بن الخطاب ذلك فدعاه وقال له: ليس هكذا يا أعرابي، بل هي (ورسولُه)، فقال الأعرابي: أنا أبرأ ممن برئ الله ورسولُه منهم، فأمر عمر أن لا يُقرئ القرآنَ إلا عالمٌ بالعربية[14].
ويرجع سبب ذلك أيضًا إلى ضعف اللغة العربية في العالم الإسلامي والعربي على وجه الخصوص، فتعلُّمُ اللغة العربية في أغلب الدول العربية والإسلامية ليس بالأهمية مقارنة بغيره من العلوم التطبيقية الأخرى، وفي حين تعليمها للطلاب يكون ذلك بدون ربطها بمصادرها الرئيسة كالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وعدم بروز عنصر التشويق بها، وبيان أهميتها في مراحل الحياة في المخاطبة والحوارات وبيان أنها رمز وثقافة للشعوب، وكذلك لجوء القطاعات التعليمية إلى تعلم اللغات الأجنبية في المدارس على حساب اللغة العربية، ونتيجة لتفشي العامية في المجتمع العربي عبر وسائل الإعلام وما يصدر منها على كافة الأصعدة من برامج إخبارية وحوارية ومسلسلات، وما ينتج عن ذلك من هدم لفهم اللغة العربية واللسان العربي.
وإن وجود هذا الضعف في اللغة العربية في العالم واستمراره دون علاج، سوف يؤدي إلى فقدان الهُويَّة العربية، وانقطاع الرابطة بين الدول العربية، إن لم يتعامل معه أصحاب القرار في مؤسسات التعليم بشكل مناسب؛ لمواجهة هذا الضعف والتغلب عليه، ورفع مستوى تدريس اللغة العربية لدى الطلاب في التعليم وفي مجالات الحياة العامة.
فضل اللغة العربية وحكم تعلمها:
يكفي باللغة العربية كونها لغة القرآن الكريم “كلام الله عز وجل الذي أنزله على نبيِّه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم”، المحفوظ إلى يوم الدين ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، والذي ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].
ووصفها شاعر النيل حافظ إبراهيم في أبيات:
وَسِعْتُ كتابَ الله لفظًا وغايةً
وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظَاتِ
فكيفَ أضِيقُ اليومَ عن وصْفِ آلةٍ
وتنسيقِ أسماءٍ لمُخترعاتِ
أنا البَحْر في أحشَائه الدُّرُّ كامِنٌ
فهلْ سَألوا الغوَّاصَ عن صَدَفاتي
كذلك يلخص هذا الفضلَ قولُ الثعالبي عن اللغة العربية أبلغ تعبير فيقول: “من أحَبَّ الله تعالى، أحبَّ رسوله محمدًا، ومن أحب الرسول العربيَّ أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية، ومن أحب العربية عُني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام، وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه، واعتقد أن محمدًا خير الرسل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة؛ إذ هي أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها، إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة التي هي عمدة الإيمان، لكفى بها فضلًا يحسن أثره، ويطيب في الدارين ثمره“[15].
وفي حكم تعلّمها يقول الرازي: “اعلم أن معرفة اللغة والنحو والتصريف فرضُ كفاية؛ لأن معرفة الأحكام الشرعية واجبةٌ بالإجماع، ومعرفة الأحكام بدون معرفة أدلتها مستحيل، فلا بد من معرفة أدلتها، والأدلةُ راجعة إلى الكتاب والسنة، وهما واردان بلغة العرب ونحوِهم وتصريفهم، فإذًا توقف العلم بالأحكام والأدلة، ومعرفة الأدلة تتوقف على معرفة اللغة والنحو والتصريف، وما يتوقف على الواجب المطلق، وهو مقدور المكلَّف، فهو واجب“[16].
[1] تفسير ابن كثير (4/ 313) المحقق: محمد حسين شمس الدين، الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون – بيروت
[2] تنبيه الألباب، أبو بكر محمد الشنتريني، تاريخ النشر: 01/ 01/ 1995.
[3] الخصائص لابن جني ( 1/ 35).
[4] الموافقات للشاطبي (5/ 53).
[5] حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (1/ 24).
[6] الفقيه والمتفقه؛ الخطيب البغدادي: 2/ 41.
[7] آداب الشافعي ومناقبه؛ الرازي: 150.
[8] شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي (231).
[9] المفصل في علم الإعراب، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (18).
[10] روضة الإعلام، لابن الأزرق المالكي (1/ 311-312).
[11] الإيمان، لابن تيمية (111).
[12] مقدمة ابن خلدون (1 / 753-764).
[13] المطالع السعيدة في شرح الفريدة 1/ 74.
[14] تفسير القرطبي (1/ 24).
[15] فقه اللغة وسر العربية، للثعالبي (15).
[16] المزهر في علوم اللغة وأنواعها (136).