دروسٌ في النقد والبلاغة
الدرس الحادي عشر: الأمر
تقدَّمَ- في الدرس العاشر- أَنَّ الاستفهامَ قد يُعبِّر عَن طلب الفَهْم وحده، وكذلكَ الأمر، قد يُعبِّر عَن طلب الفعل، لا يتجاوزه إلى غرضٍ آخر؛ فحينما يقول الوالد لولدهِ: “أحضِرْ لي ملابسي” يبدو هنا الأمر طلبًا صريحًا لا يكتنفه شيء، ودعوة الصديق صديقَه إلى انتظارِهِ حَتَّى يفرغ من كتابة رسالتهِ في قولهِ: “انتظرني حتى أُتِمَّ رسالتي” تبدو خالصةً للطلب الذي نُسمِّيه (التماسًا)؛ تأدُّبًّا في التعبيرِ.
لكن الأمر قد يُفصِح بمعونة القرائن عن أغراضٍ أدبيَّة، ولنتأمل في قول الله تعالى على لسانِ نبيِّه نوح عليه السلام: ﴿ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ [هود: 42]، فالطلب هنا يتضمَّن التعبير عن المشاعر التي تختلج بنفس الأب وهو يرى ابنَه على وَشْك الوقوع في الهلاكِ، والتردِّي في الموتِ كافرًا لا يؤمن، وهذه المشاعر مزاج من الخَوْفِ والقَلَق والحنان والحرص على أَن يحيا الابنُ حياةً رُوحيَّةً بريئةً من شوائبِ الكفر والعصيان.
- موضوعات ذات صلة:
- دروس في النقد والبلاغة الدرس الثاني: تناسق الكلمة
- دروس في النقد والبلاغة الدرس الثالث: السجع
والمريض يقولُ للطبيبِ: “صِفْ لي دواءً فإِنِّي أشعرُ بأنِّي متعب”، وفي وسعنا أن نتصوَّر أشياءَ كثيرةً حولَ هذا الالتماس، فالالتماس يُثير المقاومة المخذولة، ويجتمع فيه الألم وطلب النجدة، وقد يجد المريض راحةً في أن يُسلم نفسه إلى سواه!
وهكذا يُفصِح الاستعمالُ الأدبيُّ للطلبِ عَن معانٍ وراءه؛ بل رُبَّما كَانَ الطلب في ذاتهِ غير ملائمٍ، فإذا قلت لشخصٍ تافهٍ: “اطلب المجد فَإِنَّكَ عليه قادر(!)”، كَاَن هذا تحقيرًا له خاليًا من المعنى الحقيقي للطلبِ، وإذا قالَ الشجاعُ لجبانٍ: “أقْدِمْ إِليَّ أقتلْك” كَانَ هذا تهديدًا سافرًا ولم يكن فيه طلبٌ لشيءٍ.
وإذا سألَ الإنسان ربَّه حَاجةً فإننا لا نُسمِّي سؤاله طلبًا؛ وإِنَّما نجعله (دعاءً)، والدعاء يتضمَّن شعور العبد بعجزهِ وتقاصره وفقرهِ إلى الله تعالى، ويتضمَّن إلى جانبِ ذلكَ حُسْنَ الظنِّ بالله تعالى وفيضِ رحمتهِ.
وَلِكُلِّ دُعاءٍ مقامٌ، والمؤمل واليائس كِلاهما يدعو الله، فليسَ الدعاء حالًا واحدة.
والكاتب يحتاجُ إلى التلطُّفِ في استعمالِ الأمر، وخاصة في مقامِ النُّصْح والإرْشادِ، فإِنَّ تكرُّرَه قد يُعطي الكلامَ صفةَ الوعظِ الثقيل، ويحول دونَ الأثر المرجوِّ؛ لذلكَ كانت جودة الشعر الأخلاقي رهينةً بحسن استعماله والمزاوجةِ بينَ إظهاره وإخفائهِ، ولبيان ذلكَ نقتطف القطعة التالية من قصيدةٍ لشوقي بعنوان “دمشق”:
يا فِتيةَ الشامِ شُكْرًا لا انقِضاءَ لَهُ=لو أَنَّ إِحسانَكم يَجزيهِ شُكرانُ
ما فوقَ راحاتِكُم يومَ السَّماحِ يَدٌ=ولا كأَوْطانِكُم في البِشْرِ أوطانُ
خَميلةُ اللهِ وشَّتْها يَداهُ لكم=فهل لها قَيِّمٌ منكم وجَنَّانُ
شَيدوا لها المُلكَ وابنوا رُكْنَ دولتِها=فالمُلكُ غَرسٌ وتجديدٌ وبُنيانُ
لو يُرجعُ الدهرُ مفقودًا له خَطَرٌ=لآبَ بالواحدِ المبْكيِّ ثَكلانُ
المُلكُ أَنْ تَعمَلوا ما اسْتَطَعْتُمو عَمَلًا=وأن يَبينَ على الأَعمالِ إتْقانُ
المُلكُ أَن تُخرَجَ الأَموالُ ناشِطةً=لمطلَبٍ فيه إصلاحٌ وعُمرانُ
المُلكُ تحتَ لِسانٍ حَولَه أَدَبٌ=وتحتَ عَقْلٍ على جَنْبَيهِ عِرفانُ
المُلك أن تَتَلاقَوا في هوى وَطَنٍ=تَفَرَّقَتْ فيه أَجناسٌ وأَديانُ
نصيحةٌ مِلْؤها الإِخلاصُ صادِقةٌ=والنُّصْحُ خالِصُه دِينٌ وإِيمانُ
والشِّعرُ ما لم يَكُن ذِكْرى وعاطِفةً=أو حِكمَةً فهو تَقطيعٌ وأَوزانُ
ونَحنُ في الشَّرقِ والفُصْحى بنو رَحِمٍ=ونحنُ في الجُرْحِ والآلام إِخوانُ
استعانَ شوقي في نصيحتهِ بأساليبَ متفرقةٍ، ينبغي أن نتبيَّنَ صلةَ الأمر بها، فهو الأداة المتبادرة لهذا المعنى.
لم يستعمل الشاعر صيغة الأمر في هذه الأبياتِ سوى مرةٍ واحدةٍ في البيت الرابع، ثُمَّ آثرَ أساليبَ أخرى غيرها.
- موضوعات ذات صلة:
- دروس في النقد والبلاغة الدرس الثاني: تناسق الكلمة
- دروس في النقد والبلاغة الدرس الأول: الأسلوب
شكر الشاعر لفِتية الشامِ مُخلصًا وهيَّأَ بذلكَ لجوِّ الصِّدْق، وحبَّبَ إليهم نفسه، فذكَّرهم بِأعَزِّ ما يملكونَ وهو الوطن الجميل، وفي هذا النور الصادق الذي يحمل إلى النفسِ أعذبَ المشاعر الفطريَّة أقبَلَ على النصيحة المرجوَّة، فاختطفَ منها جزءًا في البيتِ الثالثِ حينَ قالَ: “فهل لها قيِّم منكم وجنَّان”.
فوطنكم يا فتية الشامِ أبدعته يدُ اللهِ، وهل يجد منكم من يتولى شئون نضارتهِ حَتَّى يبقى على الأيَّامِ مَزْهوًّا.
وهو إِنَّمَا عني شيئًا آخر، هل منكم من يحفل بحاجاتِ وطنهِ الاجتماعية والسياسية؟ لكنه تلطَّف لذلكَ مؤثرًا الاستفهام البليغ الذي مَهَّدَ لَهُ.
استمال شوقي نفوسَ المخاطَبين في رِفْقٍ وأناةٍ، فعدَلَ عن الأمر إلى الاستفهامِ، وجعلَ موضوع الاستفهام معنًى غير سافر سفورًا تامًّا، فأثار الشوق إلى استجلائهِ، وأقبل على الأمر الأدبيِّ مُريدًا به النصح، وخصَّ به مِلاك العقول كله، وهو بناء الدولة بناءً متينًا، وعَزَّزَ النُّصْحَ فقفَّاهُ بتذييلٍ حسنٍ: “الملك غرس وتجديد وبنيان”.
الملك دأب على العمل ورعاية ساهرة، هذه حقيقة عامَّة يُضفيها إلى النصحِ بالأمر في الشطر الأوَّلِ ليقع في النفسِ مَوْقع القَبُول.
وفي الأبيات التالية استنهض شوقي المخاطَبينَ مبتغيًا لذلكَ قرائن مختلفة، وهو يعلم أَنَّ الشرقيين كانوا- إلى عهدٍ قريب- يظنُّونَ أنَّ خيرَ زمانهم أوَّلُهُ، وقد يُظَنُّ أَنْ يقول لهم: “لا تبكوا بكاء الثكالى”؛ لكنه رجعَ عن النهي لحدَّتِهِ وقسوتهِ، ولئلا يُضفي على كلامِهِ صفةَ الاتِّهام الصريح، فخيَّل إليهم أنه يُفكِّر مع نفسهِ في حالٍ أخرى، وساق معناه مساقًا بعيدًا عنهم أوَّلَ وهلةٍ، قريبًا منهم حينما يتأمَّلونه في تروٍّ.
يقصد شوقي من وراء ذلكَ إلى إغراء السامعين بالتأمُّل، فإنَّ الانتصاح تأمُّل ومراجعة، ثم محاولة إصلاح متردِّدة أو دائبة، وإذا تأمل المنتصح نفسه دونَ أن يشعر الناصح بأنه يتدخل تدخُّلًا سافرًا عامدًا في شأنهِ انتبه إلى العيب في نفسهِ وأقبلَ عليها بالتهذيب والعلاج.
تلطَّف شوقي في بناءِ الإرشادِ بالأمر الأدبيِّ، وتجنَّبَ المواجهةَ في البيت التالي، ثم عادَ إلى المخاطَبين في قوله: “الملك أن تعملوا ما استطعتمو عملًا..” لم يقل لهم: اعملوا لأنَّ الملك يطلب إليكم إعدادًا وبناءً؛ وإِنَّمَا بنى طلبه بناءَ الشيءِ المُحقق المسلَّم بصحتهِ لا جِدَال فيه، فأخرجَ معانيه أحيانًا مخرجَ الحكمةِ أو المثَل الذي يردِّده كل إنسانٍ: “الملك تحتَ لسان حوله أدب”.
وبذلكَ يخفُّ وقعه عَلَى السامعِ؛ إذْ لَا يشعر بأنَّ الأديبَ يُوجِّه إليه سهامَ التقويم والإرشاد.
واستعمالُ الأمرِ في معرض النصيحة يحسن ما تهيأ له الجو المناسب، والتكرار مُمِل في كثيرٍ من الأحيانِ، فما بالكَ إذا كانَ النصح بصيغة الأمر الصريحِ.
ويكون الأمر بصيغٍ متعددة:-
(1) فعل الأمر.
(2) المضارع المقرون بلام الأمر؛ كقولك: “لِتَقُلْ خيرًا أو لتصمت!”.
(3) واسم فعل الأمر، كما في قوله تعالى: ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105].
(4) والمصدر النائب عن فعل الأمر، كقولك: “رفقًا بالضعفاءِ”.
والأمر الصريح بصيغة “افْعَل” أكثرها حِدَّة، والسِّرُ في ذلكَ أن الطلب فيها سافر، وإذا كَان غير مقصودٍ تمامًا في الاستعمال الأدبيِّ؛ فإنَّ ظِلَّه يُخيِّم على النفسِ من قرب أو بعد.
وحسبنا أن توازن بين فعل الأمر والمضارع المقرون بلامِ الأمر، فلا ريبَ في أَنَّ الصيغة الثانية أقربُ إلى الودِّ، وآثرُ بالرِّفقِ واللين مهما يكن الموضوع الذي تشترك فيه، ولو قصدت إلى التعجيز أو التهديد أو السخرية لكانَ المعنى أخفَّ موقِعًا في المضارعِ منه في الأمرِ الصريحِ.