دروس في النقد والبلاغة
الدرس الثامن: الخبر الأدبي
اقرأ النص الآتي وهو وداع مؤثر لَا لقاء بعده، مِن جنديٍّ أسيرٍ إلى والديه:
“والديَّ العزيزين:
هذا آخر خِطاب أكتبه إليكما، ففي تمامِ الساعةِ الخامسة صباح غدٍ أكون قد تهيأتُ لمغادرة هذا العالم، ولا تمضي دقائق معدودات حَتَّى أكون قد وصلت إلى العالمِ الآخر بسلامٍ.
لقد حُكم عليَّ بالإعدامِ منذ عشرة أيامٍ، وكل ذنبي أنني لم أُطق أن أرى وطني ذليلًا مهيض الجناحِ، تدنِّس أرضه الطاهرة أقدامُ الأعداءِ، ويعيثونَ فيه فسادًا، مستذلينَ أبناءَه الأعزّاء في غطرسةٍ واستبداد، فلما قدِّر لي أن أقع أسيرًا في أيديهم، لم تشغلني آلامي عن آلام الوطن الحبيب، واستطعت مع أربعة من الزملاءِ مغادرة المعسكر الذي اعتقلنا فيه، محاولين السفر إلى بلادٍ أمينة لنواصل جهادنَا الوطني هناكَ، ولكن محاولتنا باءت بالخيبة، وأعدنا إلى الأسرِ، فالمحاكمة، فالحكم بالإعدام.
إِنَّ الموتَ لا يُخيفني، وإني أستقبله راضي النفس، مرتاح الضمير؛ إذ لم أفرط في حَقِّ وطني، ولولا إِشفاقي من وقعِ النبأ على قلبيكما الرقيقين، لأكدتُ لكما أنني أنتظرُ ساعتي الأخيرة، وأنا فرح فخور، إذ أشعر بقرب خلاصي إلى الأبد من عناء شعوري بذُلِّ بلادي وعجزها عن الخلاصِ.
- موضوعات ذات صلة:
- دروس في النقد والبلاغة الدرس الثاني: تناسق الكلمة
- دروس في النقد والبلاغة الدرس الثالث: السجع
على أنني أعتقد تمام الاعتقاد، وأرجو أن يكون ذلك اعتقادكما أيضًا، أنني لن أموت، فليس في استطاعة الأعداء إِلَّا أن يقتلوا جسدي وحده، أَمَّا روحي فإِنَّها على الرغمِ من أنوفهم باقية خالدة، ومهما يكن من شأنها في عالم الأرواحِ، فهي أبدًا لن تنسي الوطن، ولن تنسي الأهل والأصدقاء.
ولست أحب أن تنسياني، ولكني أحب ألَّا يكون ذكركما لي مثار حزنٍ ولوعة وحسراتٍ، لقد رأيتُ في حياتي كثيرًا من الآباءِ والأمهات، قد ذهب فَقْدُ أبنائهم بكلِّ آمالهم في الحياةِ، وعاشوا بعدهم في يأسٍ وأسًى وآلام.
ولكن الشأن في حالتي مختلف جِدًّا؛ لأنَّ فقدكما إياي تحيطُ به هالة جميلة من الجهاد والتضحيةِ من أجلِ الوطنِ والإنسانية والحرية، ومن حق ذكراي عليكما أن تفخرَا بها وأن تُحيطاها بإطارٍ منَ الصبرِ الجميل والإيمان الكامل بقضاءِ اللهِ.
اغفر لي يا أبي، واغفري لي يا أمي مَا عسى أن أكون قد أخطأت فيه معكما، وإذا شئتما أن تكونَ روحي سعيدة في آخرتها حريصة على أن ترفرف حولكما إلى النهاية، فتقبلا انتقالها من عالم الفناء إلى عالم البقاء بما تستحقه من التكريم والاحتفال، وقولا في دعائكما من أجلي: شكرًا لله شكرًا لله، لقد عاشَ ولدنَا شجاعًا شريفًا، واختتَم حياته بأحسنِ مَا تختم به حياة.
والآن وداعًا يا أبي، ووداعًا يا أمي، والله معكما، ومع كل المجاهدين الصابرين”.
ماذا قصد إليه هذا الجندي الشجاع من كتابته؟! هل تراه أراد أن يبلغ أبويه خبرَ الموتِ الذي قسم له ليس غير؟ فإِن يكن هذا مقصده فماذا دعاهُ أن يكتبَ خطابًا طويلًا!
إِنَّ الخِطَابَ صورة كشفت عَن نفس جندي ملكته الشجاعة، وملأ قلبه البر بأبويه، وحاول مخلصًا أن يثير في نفسيهما عزاءً قويًّا عن فقدهِ، وأن يوصيهما بصبرٍ جميلٍ وإيمانٍ متينٍ يستعينانِ بهما على احتمالِ رزءٍ عظيم.
هذا الخِطاب نموذج للتعبير الأدبي، والتعبير الأدبي لا يقصد به صاحبه أن يفيد السامعين مَعْنًى إفادَةً ساذجة كمثل ما تجده حينَ تخبر أخاك بعودَةِ زملائك من سفرهم.
وإِنَّما يبتكرُ الأديبُ من الجمل التي نُطلق عليها كلمتي الخبر والإنشاءِ ما يعبر به عن إحساسه المرهف، ويلتمس ما يؤثِّر في نفوسنَا.
التعبير الذي ينقل الإحساس هدف الكاتب والشاعر من وراء الخبر والإنشاء، ولنتأمل القطعة الأدبية التي اخترناها لتبرز هذا المعنى عَن الخبر:
بدأ الجندي بقوله: “هذا آخر خطاب أكتبه إليكما ..”، وهذه عبارة لا تكلِّف فيها، فما غايتها؟!
- موضوعات ذات صلة:
- دروس في النقد والبلاغة الدرس الثاني: تناسق الكلمة
- دروس في النقد والبلاغة الدرس الأول: الأسلوب
إذا لم تحط بالمقامِ الذي كتبت فيه العبارة، كنت خليقًا بأن تقولَ: إنه يبلغ أبويه خبرًا من الأخبارِ، ولكنا إذا قرأنَا عنوان القطعةِ، ثم بدأنا نتابعها أدركنَا أن هذه العبارة الوجيزة على خلوِّها من الأناقة تؤدِّي إلى جانب الخبر اليسير عواطف مندفعة متنوعة جياشة، ونحنُ لا نستطيع أن نحدد معالمها تحديدًا تامًّا إِلَّا إذا أخذنَا نستوفي حظوظنا من المساق بما فيه من كشفٍ وإيضاح.
ونمضي في قراءة الفقرة الأولى، فنجد الكاتب مجالدًا هادئ النفس شاعرًا بسلامٍ رائعٍ.
ويستوقف نظرنا في الفقرة الثانية قوله: “لقد حكم عليَّ بالإعدام منذ عشرة أيَّامٍ”، وقد عَبَّرَ عَن هذا المصير المحزن تعبير المستخف الذي يتعجّل الفرار من آلام أسر ذليل.
وانظر إلى قوله: “ولست أحب أن تنسياني”، فإِنَّه يعبِّر عن سعادتهِ في العالم الآخر حينما يشعر بأن والديه يذكرانه ويبتهلانِ إلى الله تعالى أن يجزيَه خيرًا من إخلاصهِ في الذَّودِ عن الوطن والشرف.
وهو يحس بأنَّ روحه معلقة بهما في عالمهما الثاني، لكنه اختصرَ هذا كله لئلا يثير في قلبي والديه حزنًا.
وفضلًا على ذلكَ، فإِنَّه آثرَ أن يعبِّر عن أمنتيه الحبيبة بعد أن يطمئن إلى أن نفس والديه قد امتلأت اطمئنانًا ورضًا.
ثم أتبع عبارته السالفة بقولهِ: “ولكني أحب ألَّا يكون ذكركما لي مثار لوعة وحزن وحسرات”، ففي هذا الاستدراك يرجو الابن البار من والديه أن يتجملا بالصبر والإيمان، وألا تذهب نفساهما عليه حسرات، وقد وقعت هذه العبارة موقعًا حسنًا من قوله: “ولست أحب أن تنسياني”.
وقبلَ أن نترك هذا الخِطاب البليغ ندعو أنفسنا إلى تأمُّل قوله: “ولكن محاولتنا باءت بالخيبة، وأعدنا إلى الأسرِ، فالمحاكمة، فالحكم بالإعدامِ”، فهنا أخفى الجندي مشاعر غير قليلة ولم يقتصر على أن نقل إلى والديه خبرَ القبض عليه ومحاكمته، والقضاء عليه بالموتِ كما يدل ظاهر العبارة، وإِنَّمَا هَوَّنَ في الأحداثِ المفاجئة المفزعةِ، وساقها مساقَ الأمر الهيِّنِ الذي لم يترك في نفسهِ صدًى عميقًا.
ولقد احتال على إثارة معاني التقوي والصبر والعزاء بأساليب مختلفة، وبلغ ذروة ما أراد حينما طلب إلى والديه أن يقولا: “لقد عاش ولدنا شجاعًا شريفًا، واختتم حياته بأحسن ما تختتم به حياة”، فإِنَّ هذا القول أبعث على الرضا، وقد أشارَ الابن فيه إلى الشجاعة والشرف والفداء، وآثر أن يجعل من هذه المعاني قوام رسالتهِ وآخر مَا يطرأ على عقل والديهِ حَتَّى يضمن لها الاستقرار والثبات.
وَلَعَلَّكَ تذكر مَا قلْنَاهُ من قبل من إخفاء الجندي مشاعر غير قليلة، وليس هذا مبالغًا فيه، بل اقرأ متمهلًا متأنيًا قوله: “على أنني أعتقدُ تمامَ الاعتقادِ، وأرْجو أن يكونَ ذلك اعتقادكما أيضًا أنني لن أموت”، فهذه العبارة قصد بها أن يعزِّي نفسه، وأن يصرفها عن تمثُّل المناظر البشعة التي سيساق إليها بعدَ قليلٍ، ثُمَّ اتخذ من هذا المعنى وسيلة لمواساةِ والديه، وتشجيعهما على احتمال النكبة فيه، وكل أولئكَ في تمامِ تصويرِ الشجاعَةِ الفَذَّة.
وخلاصةُ المقامِ: إنَّ من واجب القارئ أن يتابع في يقظةٍ وصحوٍ نشأة المعاني التي يلم بها الأديب، وأن يرْقب تطورها واكتمالها، حَتَّى يراها في الصورة التي أرادها لها صاحبُها، وعلى نفس النسق الذي ارْتضاه.
وكثيرًا مَا يخلع المقام على الجُمل آثارًا ومشاعرَ لا نظفر بها إذا حُرمت الجمل من سياقها، فالخنساء –مثلًا – تقول:
وَإِنَّ صَخرًا لَوالِينا وَسَيِّدُنا وَإِنَّ صَخرًا إِذا نَشتو لَنَحَّارُ وَإِنَّ صَخرًا لَمِقدامٌ إِذا رَكِبوا وَإِنَّ صَخرًا إِذا جاعوا لَعَقَّارُ |
والمعنى المتبادل في البيتين المديح والتمجيد، ولكنك إذا قرأت البيتين في القصيدة التي ترثي بها الشاعرة أخاها، أضفيتَ على هذا المجدِ ما أَحسَّت به هي من لوعة وأسى حين يذكر الأحياء مآثرَ أمواتهم.