الإعراب اللغوي بين التنظيم والتيسير
تختلف معاناةُ الباحثين مع العِلم باختلاف أصولهم وخلفياتهم الثقافية؛ فنظرة أهل اللغة في القرآن تكشِف لهم من حقائقه ما لا يتنبَّهُ له أهلُ الفقه والأحكام، ونظرة أهل الفقه في اللغة وقواعدهم تريهم ما قد يكون غفَل عنه أهل اللغة، ومثله نظرة العربي إلى لغته تختلف عن نظرة الأعجمي في العربية، فلربما تنتقل معاناته التي استقاها من لغته الأمِّ إلى اللغة العربية الوافدة إليه، بما يفتح له آفاقًا ومعانيَ قد يغفل عنها أبناءُ اللغة.
ولعل هذا المقال هو إحدى ثمار قُرب الكاتب من متعلمي العربية من غير العرب، ويناقش فيه مسألة الإعراب في اللغة من خلال جوانبَ تقرِّبُ اللغة إلى ناطقيها ومتعلِّميها، وتجدر أن تكون البداية من خلال شرح معنى الإعراب في المعاجم والقواميس، وهي تشير إلى معنى البيان والإيضاح والإفهام، فأعرَب عن نفسه؛ أي: أبان ما فيها وأظهره، وذكروا له معانيَ أخرى؛ كالتحبُّب، والتغيير، وإزالة الفساد، وبالتأمل يرجح أنها تؤُول إلى المعنى الأول، وهو البيان؛ (انظر: مادة: عرب، في لسان العرب لابن منظور، تاج العروس للزبيدي).
وأمَّا في النَّحو فله عدة معانٍ:
أولها: ما يرادف علم النَّحو وقواعد العربية كلها، ولعل هذا مصطلحُ أئمة القرون الأولى، فورد أن عمرَ بن الخطاب أراد من أبي الأسود أن يعلِّمَ أهل البصرة الإعراب، وكذلك كان الزَّجاج يسمِّي النَّحو إعرابًا.
ثانيها: ما يقابل البناء، فيعرِّفونه بأنه تغييرُ أواخر الكلمات بسبب اختلاف العوامل الداخلة عليها، لفظًا أو تقديرًا، وعليه يكون الإعرابُ أمرًا معنويًّا تكون العلامات دالة عليه، بمعنى أن الكلمة تكون مفعولاً به؛ أي معرَبة، أي منصوبة، والعلامة الفتحة، والأصحُّ فك الارتباط بين الإعراب والعلامة؛ لأنها قد تنفكُّ عنه وينوب عنها غيرها، وعليه يكون جواب سؤال: ما إعراب: زيد قائمٌ؟ أنها معربةٌ مرفوعة، وعلامة رفعها الضمة، والسبب وراء ذلك أنها جملة اسمية من مبتدأ وخبر.
ثالثها: تحليل الجملة اللغوية، وبيان وظائف الأدوات والكلمات فيها من حيث النَّحو والصرف، والتقديم والتأخير، وأحوال البناء والإعراب، والحركات الظاهرة والمقدَّرة، وما سوى ذلك في كتب سُميت بـ: إعراب القرآن للنحاس، وإعراب ثلاثين سورة من القرآن لابن خالويه، ومشكِل إعراب القرآن لمَكِّي بن أبي طالب، ويشبه ذلك قولُ الخضري: إن الإعراب هو تطبيق الكلام على قواعد العربية؛ كأن تقول: ما إعراب (زيدٌ قائمٌ)؟ فزيد مبتدأ، وقائمٌ خبر؛ (انظر: حاشية محمد الخضري على شرح ابن عقيل 1/36).
ومن الواضح أن المعنى الأول سبق المعانيَ الأخرى، وأن الأَولى اعتماد المعاني التي استقرت بعد تحرير وتنقيح المصطلحات، وأما المعنى الثاني والثالث فلقد ارتضاهما النَّحويون المتأخرون، وساروا عليهما معًا في التصنيف، وفي عملية التحليل والإعراب، إلا أنَّ واقع كتب الإعراب يبدو أنها اختطَّت أسلوب الإعراب بالفعل أو الفاعل أو المفعول أو المضاف إليه وغيره أولاً، ثم بيان موقعه الإعرابي بالرفع أو النصب أو الجر، وعلى هذا صُنِّفت كتب النَّحو على المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل والمفاعيل، والحال والتمييز والتوابع، خلافًا للكتب التي صُنِّفت على أن الكلمات إما مبنية أو معربة، وأن أنواع البناء كذا، وأنواع الإعراب هي المرفوعات والمنصوبات والمجرورات، ولعل الأَولى في هذه المسألة هو الخيارُ الأول لا الثاني.
والخلاف في هذه القضية وإن كان اصطلاحيًّا – ولا مشاحة في الاصطلاح – فقد صدَرَتْ عنه نتائجُ سلبية، كان اعتماد النهج الأول يجنِّب اللغة هذه النتائج السلبية، وأذكر هنا عدة نتائج أراها تؤيد انتهاجَ هذا المسلك من مفهوم الإعراب: |
الأُولى: إنَّ فهم القواعد وترتيبها في العقل وبناء تراتبيها المنطقية، يجب أن يقومَ على الوجه السليم الصحيح، وليس مقلوبًا رأسًا على عقب، وتفسير هذا الكلام، أن منطق التعليم عادة يبتدئ بذِكر الحُكم، ثم يستدل عليه بالأدلة، لا العكس، وبذلك تقف القواعد على أقدامها لا على رأسها، بحيث تبنى القواعد على الأدلة، فأن تقولَ: إن الكلمة في هذا السياق منصوبة، والدليل على ذلك كونها مفعولاً، هو الفهمُ المتبادر للأذهان، بعيدًا عن فلسفة العِلَل النَّحوية وفذلكاتها، أما لو تبتدئ بالدليل ثم تعقبه بالحُكم، فلا يحبَّذ؛ إذ لربما تغفُلُ عن الحُكم في إعرابك فتفوت الفائدة منه، وعلى سبيل المثال، في قوله تعالى: ﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4]، إن ﴿ شَيْبًا ﴾ هنا: منصوب؛ لأنه تمييز، فيدرك عقل المتلقي أن الإعرابَ هو النَّصب، وأن حركته الفتحة، وأن دليله على قوله هذا أن موقعَ الكلمة في الجملة هنا التمييز، وبذلك يكون الطالب قد استطاع توظيفَ الكلمة الأولى من إعرابه في صيانة لسانه عن الخلل واللَّحن، وهذا ينقُلُنا إلى النتيجة الثانية.
الثانية: موافقة مصطلح “النَّحو الوظيفي” بمعنى أن يكون تعلُّم النَّحو والقواعد للطالب غير مجرد لذاته؛ وإنما لتحسين لغته المنطوقة والمكتوبة، وتحسين استيعابه وفهمه له؛ فالنَّحو – بالاتفاق – من علوم الآلة، لا العلوم الأصيلة؛ أي إنه وسيلة لا غاية، وهذا يتطلبُ من الدارس أن يدرك أولاً أن الكلمة هنا إعرابها النصبُ أو الجرُّ أو الرَّفع؛ لأنه هو الأثرُ الذي سيظهر في كلامه المنطوق والمكتوب، وما سواه من أمور هي أدلةٌ على إعرابه تلزمه لنفسه فقط؛ فالسامع والقارئ يهتمُّ باستقبال لغة فصيحة البيان، وصحيحة الإعراب، بأكثرَ من اهتمامه بتحليل الجملة وتفصيلاتها الإعرابية، التي قد لا تشغل بالَه بمقدار أهل الاختصاص والمعرفة، وهذا ينقُلُنا إلى النتيجة الثالثة.
الثالثة: التَّطلُّع إلى التسهيل الذي لا يؤثِّرُ في فهم اللغة وحُسن استعمالها، بقدر ما يميِّز بين عمل المختص الذي ينشد فلسفة النَّحو وعلومه، وبين عمل المتكلِّم الذي ينشد الفصاحة والصحة؛ فالطالب عندما يعرف أن موقع الكلمة في جملةٍ ما هو النصبُ أو الجر مثلاً، يكون قد أنجز تِسعين بالمائة من واجبه، وبقي عليه إقامةُ الحجة على قوله، ولعل الأَولى في المراحل الأُولى لتعلُّم العربية أن يكون التركيز على موقع الإعراب فقط، بحيث يستطيع الطالب إنتاجَ جملة عربية فصيحة سليمة معربة – أي بالحركات، وليس بالتحليل اللغوي المشهور – وعندها يكون الدرس قد أثمر غايتَه وهدفه.
ويؤكد هذا الكلام أن هناك وفرةً في أعاريبَ معينة – بمعنى تحديد الدليل على الإعراب – اختلف فيها النحاةُ بما لا أثرَ له في الإعراب – بمعنى الرفع والنصب والجر – كاختلافهم في مسألة تعدُّد الخبر، أو أن للمبتدأ خبرًا واحدًا، والبقية صفات له، والأثر الإعرابي واحد أن الجميع مرفوع، فلو أدرك الدارس أن الجملةَ هنا مرفوعة، فقد حقق الغاية من فهمِه للإعراب، ويشبه ذلك أيضًا اختلاف النحاة في توجيه أعاريب معيَّنة في القرآن، وكلها تصب في الحركة الإعرابية الثابتة فيه بالتواتر، ومنه اختلافهم في قوله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ﴾ [الأحقاف: 15]؛ إذ ذكَر محيي درويش في إعراب ﴿ إِحْسَانًا ﴾ عدةَ وجوه، فقال في كتابه: إعراب القرآن وبيانه، 9/ 176: “وإحسانًا: مصدر منصوب بفعل محذوف؛ أي: وصَّيْناه أن يحسن إليهما إحسانًا، وقيل: هو مفعول به على تضمين وصَّينا معنى: ألزمنا، فيكون مفعولاً ثانيًا، وقيل: بل هو منصوب على أنه مفعول من أجله؛ أي: وصيناه بهما إحسانا منَّا إليهما“.
ومحتوى هذا الكلام لا يُهِم إلا المختصين، أما القارئ فيكفيه معرفةُ إعراب الكلمة بأنها منصوبة، وأن الدليل على ذلك كونها “كذا” على الأرجح.
وهذا هو الجانب الآخر للتسهيل النَّحوي هنا، فمن وجهة نظر الكاتب، يكفي أن يعرف الطالب غير المختص في المراحل التعليمية الأُولى، أن الكلمة منصوبة أو مرفوعة أو مجرورة، وفي مرحلة أكثر تخصُّصًا وتقدُّمًا عليه أن يقدِّم الدليل على ذلك، ثم في المراحل العُليا عليه أن يناقش وجوهَ الأدلة وتنوعها واختلافها وأثرها في اختلاف المعنى، وعليه أن يرجح أقربها للمعنى والسياق.
على أن منطق أبواب الحركات الأصلية والفرعية في الإعراب – كباب الممنوع من الصرف، وجمع المؤنَّث السالم، والمنقوص والممدود، والمضاف لياء المتكلِّم، أو المجرور بحرف جر زائد، أو المرفوع بنزع الخافض – كلها تؤكِّدُ هذا النظر؛ لأنه يتناول وجوه التعبير عن المرفوع في اللغة العربية، دونما اعتبار لكونه فاعلاً أو مبتدأ أو خبرًا، وكذلك المنصوب والمجرور، بل إن منطق اللغات الأخرى التي تمتلك من صفات الإعراب ما يقاربها بالعربية، يقارب ذلك أيضًا، فإنها قد شُرحت ونُظمت على هذا الترتيب، فهم يقسِّمون الجمل إلى مرفوع ومنصوب ومجرور، ويمثِّلون له بالفعل والفاعل والمفعول والتتمة، ثم يتوسعون في تفصيلاتها وشروحها.
فغاية ما ذكر في المقال هو ترجيحُ الخِيار الأول على الثاني في الإعراب، بحيث يكون الإعراب هو حقًّا الرفع والخفض والنَّصب، وأما ما عدا ذلك فهو إشارات وقرائن وأدلة الإعراب، وحبذا لو سار تدريسُ العربية لأبنائها ولغير أبنائها على هذا الترتيب، فيكون بذلك أكثرَ ترابطًا في البناء، وأكثر اتصالاً بمفاهيمِ وقواعد اللغات الأخرى، ومن جهة أخرى أسهل وأقرب للاستخدام والتوظيف، وحبذا لو صُنِّفت كتب تعليم العربية ورُتِّبت على هذا الأساس، وبالأخص كتب غير الناطقين بها، فيكون تصور القواعد وفهمها فيها أسهلَ مأخذًا وأكثر ارتباطًا بالجانب الوظيفي التطبيقي في اللغة.