فصل اللّحن
وَمن الأضداد اللّحن يُقَال للخطأ لحن وللصواب لحن فَأَما كَون اللّحن على معنى الْخَطَأ فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى شَاهد وَأما كَونه على معنى الصَّوَاب فشاهده قَوْله تَعَالَى ﴿ ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل ﴾ مَعْنَاهُ صَوَاب القَوْل وَصِحَّته وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي يُقَال لحن الرجل يلحن لحنا إِذا أَخطَأ ولحن يلحن إِذا أصَاب وَقَالَ غَيره يُقَال للصَّوَاب اللّحن واللحن وَقَالَ مُعَاوِيَة للنَّاس كَيفَ ابْن زِيَاد فِيكُم قَالُوا ظريف على أَنه يلحن قَالَ فَذَاك أظرف لَهُ ذهب مُعَاوِيَة إِلَى أَن معنى يلحن يفْطن ويصيب وَعَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ تعلمُوا اللّحن فِي الْقُرْآن كَمَا تتعلمونه.
قَالَ أَبُو بكر فَيجوز أَن يكون اللّحن فِي الحَدِيث الصَّوَاب وَيجوز أَن يكون الْخَطَأ لِأَنَّهُ إِذا عرف الْقَارئ الْخَطَأ عرف الصَّوَاب.
وَعَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ تعلمُوا الْفَرَائِض وَالسّنة واللحن كَمَا تتعلمون الْقُرْآن فَيجوز أَن يكون اللّحن الصَّوَاب وَيجوز أَن يكون الْخَطَأ يعرف فيتجنب.
وَحدث يزِيد بن هَارُون بِهَذَا الحَدِيث فَقيل لَهُ مَا اللّحن فَقَالَ النَّحْو وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز عجبت لمن لاحن النَّاس كَيفَ لَا يعرف جَوَامِع الْكَلم.
أَرَادَ بلاحن فاطن فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة كَانَ ابْن عَبَّاس يعلمنَا لحن الْكَلَام وَقَالَ لبيد
(متعوذ لحن يُعِيد بكفه … قَلما على عسب ذبلن وَبَان) // كَامِل //
فاللحن الْمُصِيب الفطن يُقَال رجل لحن ولاحن من الفطنة وَالصَّوَاب وَرجل لاحن من الْخَطَأ لَا غير وَقَالَ الْقِتَال
(وَلَقَد لحنت لكم لكيما تفقهوا … ووحيت وَحيا لَيْسَ بالمرتاب)
وَقَالَ ابْن أَحْمَر يصف صحيفَة كتبهَا
(وتعرف فِي عنوانها بعض لحنها … وَفِي جوفها صمعاء تبلي النواصيا)
الصمعاء الداهية واللحن ايضا يكون بِمَعْنى اللُّغَة قَالَ شريك عَن ابي اسحق عَن أبي ميسرَة فِي قَول الله عز وَجل (سيل العرم) العرم المسناة بلحن الْيمن أَي لغتهم
وَقَالَ بعض الْأَعْرَاب عَليّ بن عميرَة الْجرْمِي
(وَمَا هاج هَذَا الشوق إِلَّا حمامة … تبكت على سمراء خضر قيودها) // طَوِيل //
(هتوف الضُّحَى مَعْرُوفَة اللّحن لم تزل … تقود الْهوى من مسعد ويقودها) // طَوِيل // وَقَالَ الآخر يذكر حَمَامَتَيْنِ
(باتا على غُصْن بَان فِي ذرى فنن … يرددان لحونا ذَات ألوان)
وَأنْشد أَبُو الْعَبَّاس لمَالِك بن أَسمَاء بن خَارِجَة فِي جَارِيَة لَهُ
(وَحَدِيث ألذه هُوَ مِمَّا … تشتهيه النُّفُوس يُوزن وزنا)
(منطق صائب وتلحن أَحْيَانًا … وَخير الْكَلَام مَا كَانَ لحناً)
وَقَالَ أَرَادَ ب تلحن تصيب وتفطن وَأَرَادَ بقوله مَا كَانَ لحنا مَا كَانَ صَوَابا وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة اللّحن فِي هَذَا الْبَيْت مَعْنَاهُ الْخَطَأ وَهَذَا الشَّاعِر استملح من هَذِه الْمَرْأَة مَا يَقع فِي كَلَامهَا من الْخَطَأ
وَقَالَ أَبُو بكر وَقَوله عندنَا محَال لِأَن الْعَرَب لم تزل تستقبح اللّحن من النِّسَاء كَمَا تستقبحه من الرِّجَال ويستملحون البارع من كَلَام النِّسَاء كَمَا يستملحونه من الرِّجَال وَالدَّلِيل على هَذَا قَول ذِي الرمة يصف امْرَأَة
(لَهَا بشر مثل الحريرومنطق … رخيم الْحَوَاشِي لَا هراء وَلَا نزر)
فوصفها بِحسن الْكَلَام واللحن لَا يكون عِنْد الْعَرَب حسنا إِذا كَانَ بِتَأْوِيل الْخَطَأ لِأَنَّهُ يقلب الْمَعْنى وَيفْسد التَّأْوِيل الَّذِي يقْصد لَهُ الْمُتَكَلّم وَقَالَ قيس بن الخطيم يذكر امْرَأَة أَيْضا
(وَلَا يغث الحَدِيث مَا نطقت … وَهُوَ بفيها ذُو لَذَّة طرف) // منسرح //
(تخزنه وَهُوَ مشتهى حسن … وَهُوَ إِذا تَكَلَّمت أنف)
فَلَو كَانَت هَذِه الْمَرْأَة تلحن وتفسد ألفاظها لكَانَتْ عِنْد هَذَا الشَّاعِر الفصيح غثة الْكَلَام وَلم تسْتَحقّ عِنْده وَصفا بجودة الْمنطق وحلاوة الْكَلَام وَقَالَ كثير
(وَكنت إِذا مَا زرت ليلى بأرضها … أرى الأَرْض تطوى لي وَيَدْنُو بعيدها)
(من الخفرات الْبيض ود جليسها … إِذا مَا انْقَضتْ أحدوثة لَو تعيدها) فخبر هَذَا بِصِحَّة ألفاظها
وَلم تزل الْعَرَب تصف النِّسَاء بِحسن الْمنطق وتستملح مِنْهُنَّ قرض الشّعْر وَالْقُدْرَة
عَلَيْهِ فَمن ذَلِك عمات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأشعارهن فِي رثاء عبد الْمطلب ومنهن قتيلة بنت النَّضر قتل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَاهَا صبرا يَوْم بدر وَلما انْصَرف من بدر كتبت إِلَيْهِ فِي أَبِيهَا قبل إسْلَامهَا
(يَا رَاكِبًا إِن الأثيل مَظَنَّة … من صبح خَامِسَة وَأَنت موفق) // كَامِل //
(مَا كَانَ ضرك لَو مننت وَرُبمَا … من الْفَتى وَهُوَ المغيظ المحنق)
(النَّضر أقرب من أسرت قرَابَة … وأحقهم إِن كَانَ عتق يعْتق)
(أمحمد ياضنء كل نجيبة … فِي قَومهَا والفحل فَحل معرق)
فَلَمَّا بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَكَى حَتَّى أخضل الدُّمُوع لحيته وَقَالَ لَو بَلغنِي شعرهَا قبل أَن أَقتلهُ لعفوت عَنهُ
ومنهن تماضر أُخْت ذِي الرمة ومنهن جنوب بنت العجلان ومنهن
عمْرَة أُخْتهَا ومنهن حَلِيلَة بنت مرّة ومنهن بنت أياس بن مصاب الْعجلِيّ ومنهن الوافدة ومنهن هِنْد ابْنة الأوقص ومنهن ضباعة بنت عَامر ابْن قرط ومنهن صَفِيَّة بنت ابي مسافع وَأُخْتهَا ومنهن الفارعة بنت مُعَاوِيَة بن قُشَيْر ومنهن عمْرَة بنت عَمْرو بن قيس ومنهن جداية بنت خَالِد بن جَعْفَر ومنهن أم الْهَيْثَم ومنهن سعاد بنت شَدَّاد ومنهن ربيعَة بنت حميضة العذرية ومنهن أمينة الطائية ومنهن نعْمَة بنت عتاب بن سعد ومنهن أم طريف ومنهن أم حَنْبَل ومنهن سعيدة أُخْت الأحزم بن قَارب ومنهن حَيَّة امْرَأَة من بني ثعل ومنهن ام حسان ومنهن أم حَكِيم ومنهن عفراء ابْنة مَالك العذرية ومنهن محبوبة بنت مطر بن الأخشن ومنهن عنبة
بنت عفيف بن عَمْرو بن أمرئ الْقَيْس ومنهن كبيشة أُخْت عَمْرو بن معد يكرب ومنهن أم ثَوَاب ومنهن فَاطِمَة الْخُزَاعِيَّة ومنهن السلكة أم السليك ومنهن أم قيس الضبية ومنهن الخرنق بنت هفان القيسية ومنهن هِنْد ابْنة النُّعْمَان بن بشير الْأنْصَارِيّ ومنهن مَيْسُونُ بنت بَحْدَل الْكلابِيَّة ومنهن بثينة ومنهن ليلى الأخيلية ومنهن عفراء بنت مهاصر
وَأما الخنساء بنت عَمْرو بن الشريد الشاعرة السلمِيَّة فَقدمت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ قَومهَا فَأسْلمت مَعَهم وَذكروا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يستنشدها ويعجب بشعرها فَكَانَت تنشده وَهُوَ يَقُول هيه يَا خناس ويوميء بِيَدِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلما قدم عدي بن حَاتِم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسلم وحادثه فَقَالَ يَا رَسُول الله إِن فِينَا أشعر النَّاس وأسخى النَّاس وأفرس النَّاس قَالَ سمهم قَالَ أما أشعر النَّاس فامرئ الْقَيْس بن حجر وَأما أسخى النَّاس فحاتم بن سعد يَعْنِي أَبَاهُ وَأما أَفرس النَّاس فعمرو بن معد يكرب فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ كَمَا قلت يَا عدي أما أشعر النَّاس فالخنساء بنت عَمْرو وَأما أسخى النَّاس فمحمد يَعْنِي نَفسه وَأما أَفرس النَّاس فعلي بن أبي طَالب
وَقد ذكر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْمُعَلَّى بن عبد الله الْأَزْدِيّ فِي كتاب التراقيص كل امْرَأَة من الْعَرَب رقصت ابْنهَا وَهُوَ صَغِير بشعرها وَذكر الصولي أشعار خلفاء بني الْعَبَّاس وَبَعض نِسَائِهِم وَقد عمل ابْن المغربي أَيْضا مثل ذَلِك وَلأبي الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ كتاب جمع فِيهِ مَا للإماء والشواعر
وَقَالَ ابْن المعتز فِي كتاب طَبَقَات الشُّعَرَاء أسامي الْجَوَارِي مِمَّن نسبن إِلَى الشّعْر وشهرن بِهِ وعرفن مِنْهُنَّ عريب جَارِيَة الْمَأْمُون وَكَانَت ماجنة ظريفة فائقة الْجمالصَبِيحَة مليحة لم يكن فِي عصرها أحد آدب مِنْهَا وَلَا أشعر وَلَا أعلم بأخبار النَّاس وأيامهم وَلَا أحفظ للسير والنوادر وَالْملح مِنْهَا وَكَانَت راوية لأشعار الْجَاهِلِيَّة الجهلاء وأشعار المخضرمين والإسلاميين وأشعار الْمُحدثين تهذها هَذَا وتفسرها بغرائبها ومعانيها وَكَانَت مطبوعة ظريفة حافظة لفنون الْآدَاب وَكَانَ الْمَأْمُون قد شغف بحبها لبراعتها فِي الْأَدَب وَغَيره فَكَانَ لَا يصبر عَنْهَا ومنهن خنساء جَارِيَة هِشَام المكفوف وَكَانَت بارعة الْأَدَب فصيحة مفوهة شاعرة مفلقة ماجنة ظريفة عَالِمَة بالأخبار والأسمار ظريفة نبيلة فِي نَفسهَا كَثِيرَة النَّوَادِر وَلم يقاومها أحد فِي الْكَلَام كَانَت من أعلم النَّاس بالْكلَام تضع لسانها حَيْثُ شَاءَت وتقطع جَمِيع من يكلمها وَكَانَت مَشْهُورَة مَعْرُوفَة وَأعْطِي هِشَام بهَا الرغائب فَامْتنعَ من بيعهَا لحسن أدبها وفصاحتها وبيانها وَحسن شعرهَا ولطفها وَكَانَ أَصْحَاب الْكَلَام يَجْتَمعُونَ عِنْدهَا ويتناظرون فَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي شَيْء إِلَّا تحاكموا فِيهِ إِلَيْهَا وتحكم وتقضي فَينفذ حكمهَا وَيقبل قَضَاؤُهَا كَانَت تمدح الْخُلَفَاء والوزراء والأشراف والملوك فَكَانَ هِشَام يَأْخُذ صلات الْمُلُوك وجوائزهم حَتَّى جمع من ذَلِك مَالا كثيرا وَمن محدثي الشُّعَرَاء من النِّسَاء عنان جَارِيَة الناطقي وَكَانَت من ألطف النَّاس وأظرفهم وأشعرهم مطبوعة وَكَانَت من معرفَة الْغَرِيب والنحو بِمحل رفيع عَالِمَة بالأنساب عارفة بأيام النَّاس كَثِيرَة النَّوَادِر وَالْأَخْبَار وَذكر عَمْرو بن عبد الله الْكُوفِي أَنه قَالَ شهدتها وَقد اجْتمع عِنْدهَا أدباء النَّاس وشعراؤهم وَأَصْحَاب النَّحْو والغريب وَأهل الْأَخْبَار والأنساب فَمَا جرى فِي ذَلِك الْمجْلس من هَذِه الصنوف الَّتِي ذكرتها إِلَّا وَجدتهَا أَكثر مِنْهُم وأحفظ قَالَ وَلَقَد سَمعتهَا تَقول حفظت من سير النَّاس ألف مُجَلد وَلَا أدع بَيْتا لجاهلي وَلَا مخضرمي وَلَاإسلامي سمعته إِلَّا حفظته وَكَانَ أَبُو نواس وَمُسلم بن الْوَلِيد وَأَبَان بن عبد الحميد اللاحقي وَأَشْجَع السّلمِيّ وَسلم الخاسر وَغَيرهم من نظرائهم يَجْتَمعُونَ عِنْدهَا فَكَانَت تناقضهم ويناقضونها ونوادرهم باجتماعهم عِنْدهَا كثير وَكَانَت تمدح آل برمك فتجيد وَأعْطِي الناطقي بهَا مَالا كثيرا فَامْتنعَ من بيعهَا قَالَ وَمَا علمنَا أَن جَارِيَة بلغت فِي الْأَدَب والمعرفة وَالْبَيَان والفصاحة وَقَول الشّعْر مَعَ مَا جمعت إِلَى هَذِه الْخلال من الذكاء والظرف مبلغها وَذكرت فِي الشرق والغرب عِنْد الْمُلُوك والأشراف وتحدثوا عِنْدهم بنوادرها وشعرها فَكتب من شعرهَا ونوادرها فِي الْبلدَانِ مَالا يُحْصى وَمن النِّسَاء سكن جَارِيَة مَحْمُود الْوراق وَكَانَت من أعذب النَّاس ألفاظا وأشعر النَّاس وأجودهم مَعَاني وأحكمهم رصفا وَأَحْسَنهمْ وَصفا عَالِمَة بالأخبار والأنساب عارفة بأيام النَّاس مناظرة فِي الْكَلَام فائقة فِيهِ لَا يكلمها أحد إِلَّا قطعته وَكَانَ مَحْمُود مَعَ براعة أدبه وَحسن شعره ومعرفته بفنون الْآدَاب وبصره بجيد الشّعْر وردئيه وَمَا كَانَ رزق من الْحِكْمَة يَقُول رُبمَا وَالله تتقاصر إِلَيّ نَفسِي فِي مناظرتها لِأَنَّهَا تَأتي من بَدَائِع الْكَلَام وَمن الِاحْتِجَاج بِشَيْء لم يسمع بِمثلِهِ من أحد من الْعلمَاء الَّذين نسبوا إِلَى الْكَلَام وَعرفُوا بِهِ فَأَقُول يَا سُبْحَانَ الله من ايْنَ هَذِه الفطنة التقية الْخَالِصَة فأبقى مبهوتا
وَكَانَت تمدح الْمُلُوك والأشراف وَكَانَ مَحْمُود ضَعِيف الْحَال لَا يكَاد يقومبمؤونتها فَكَانَ يَقُول لَهَا يَا سكن أَنْت فِي جمالك ونبلك وأدبك وأخلاقك على هَذِه الْحَالة وَأَنا مقتور عَليّ وَلست أقوم بواجبك وَوَاللَّه مَا شَيْء من عرض هَذِه الدُّنْيَا أثر عِنْدِي من النّظر إِلَيْك وَمن الْقرب مِنْك فَتَقول سكن يَا مولَايَ أما إِذا كَانَ الْأَمر عل مَا تَقول فإنني أَصْبِر مَعَك وأتجزأ بقليلك وَلَا أكلفك مَالا تُطِيقهُ قَالَ فغبرا بذلك زَمَانا فِي ضيق وضنك بعيشهما يقاسيان الْأَمريْنِ من ضيق الْعَيْش وَسُوء الْحَال حَتَّى كادا يشرفان على الفضيحة وَكَانَ قد أعطي بهَا عشرَة آلَاف دينا وحديثهما فِي أحوالهما وأخبارهما مَشْهُور
وَمن النِّسَاء عَائِشَة بنت عبد الله العثمانية وَكَانَت خرجت على السُّلْطَان وَكَانَت من أهل مَكَّة وَلم يكن فِي زمانها أحد أشعر وَلَا أحسن أدبا وَلَا أَكثر علما مِنْهَا وَكَانَت من أنبل النِّسَاء وأعفهن ورعة يابسة الْوَرع دينة وعمدت إِلَى رجل من آل أبي طَالب فأخرجت إِلَيْهِ مَالا وأمرته وأمرته أَن يجمع الرِّجَال ومحاربة بني الْعَبَّاس فَجمعت جموعا كَثِيرَة وَفرقت أَمْوَالًا جليلة وَخرجت تحارب بِنَفسِهَا وَكَانَت من أشعر أهل زمانها وَأَشْعَارهَا مدونة مَرْفُوعَة فحاربت مرّة بعد أُخْرَى وَقتلت جمَاعَة وَقتلت وَكَانَت عَائِشَة بن عبد الله هَذِه تصف قدميها من أول اللَّيْل إِلَى الصَّباح تصلي وَرُبمَا جمعت فِي اللَّيْلَة الْوَاحِدَة الْقُرْآن وَلم ير أحد إِلَى يَوْم النَّاس هَذَا أَشد اجْتِهَادًا مِنْهَا وَمن الْجَوَارِي فضل الشاعرة وَكَانَت شاعرة مفلقة مقتدرة أديبة بارعة الْأَدَب كَامِلَة فصيحة نبيلة لَطِيفَة وَكَانَت تعشق سعيد بن حميد الْكَاتِب وأنفقت عَلَيْهِ أَكثر من ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَكَانَت من الْأَدَب بِمَنْزِلَة رفيعة ودرجة سنية عارفة بأخبار النَّاس وأيامهم تنشد أشعار الشُّعَرَاء فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام وَتعلمتَفْسِير ذَلِك وتسوق أَيَّام الْعَرَب سوقا بأشعارها وحروبها وَمَا جرى فِيهَا وَكَانَت تشعر وَتقول فِي الْغَزل والعشق وَكَانَت قد حبب إِلَيْهَا اللَّهْو وَالشرَاب وَلها فِي الْغَزل وَالشرَاب أشعار كَثِيرَة مدونة وَقد كتبنَا قصَّتهَا وقصة سعيد بن حميد الْكَاتِب وَمَا جرى بَينهمَا فِي مَوْضِعه من هَذَا الْكتاب وسنأتي عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله قَالَ حَدثنِي الْقَاسِم بن عبد الله الْحَرَّانِي قَالَ كنت عِنْد سعيد بن حميد الْكَاتِب ذَات يَوْم وَقد فصد وأتته هَدَايَا فضل الشاعرة ألف جدي وَألف دجَاجَة وَألف طبق رياحين وَطيب وَغير ذَلِك فَكتب إِلَيْهَا إِن هَذَا الْيَوْم يَوْم لَا يطيب سروري إِلَّا بحضورك وَكَانَت من أحسن النِّسَاء ضربا بِالْعودِ وأملحهن صَوتا فَأَتَتْهُ فَضرب بَينهَا وَبَينه حِجَابا وأحضر ندماءه فِي ذَلِك الْيَوْم وَوضعت الموائد وجيئ بِالشرابِ فَلَمَّا شربنا أقداحا أخذت عودهَا فغنت بِهَذَا الشّعْر وَالشعر لَهَا وَالصَّوْت والأبيات هَذِه
(يَا من أطلت تفرسي … فِي وَجهه وتنفسي) // مجزوء الْكَامِل //
(أفديك من متدلل … يزهى بقتل الْأَنْفس)
(هبني أَسَأْت وَمِمَّا أَسَأْت … بلَى أقرّ أَنا المسي)
(أحلفتني أَلا أسارق … نظرة فِي مجْلِس)
(فَنَظَرت نظرة عاشق … اتبعتها بتفرس)
(ونسيت أَنِّي قد حَلَفت … فَمَا يُقَال لمن نسي)
قَالَ فَمَا أَتَى يَوْم كَانَ أقرّ لعَيْنِي من ذَلِك الْيَوْم
قَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن عِيسَى حضرت لَيْلَة مَعَ جمَاعَة من إخْوَانِي فَأَنْشد أحدهم لامْرَأَة فاستحسناه وتحرر بَيْننَا أَن نعمر ليلتنا بأشعار النِّسَاء فَلم ننشد تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا شعر امْرَأَة
وَهَذَا يدل على كثرتهن ووفور عدتهن وَتعذر حصرهن وَعدم الْإِحَاطَة
بشعرهن وَإِنَّمَا اعتمدنا فِي هَذَا الْفَصْل الْإِشَارَة إِلَى شائعة وإيراد الْيَسِير من مشهوره وذائعه
وَمن قدر على قَول الشّعْر حكم لَهُ بِمَعْرِِفَة أَكثر الْإِعْرَاب وتجنب اللّحن وَكَيف يكون الْخَطَأ مستحسنا وَالصَّوَاب مستحسنا وَالْعرب تقرب المعربين وتنتقص اللاجنين وتبعدهم فعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ مر بِقوم يرْمونَ نبْلًا فعاب عَلَيْهِم فَقَالُوا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّا قوم متعلمين فَقَالَ لحنكم أَشد عَليّ من سوء رميكم سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول رحم الله امْرأ أصلح من لِسَانه وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا نحل وَالِد وَلَده أفضل من أدب حسن وَقَالَ الْعَبَّاس للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا الْجمال فِي الرجل يَا رَسُول الله قَالَ اللِّسَان وَقَالَ أَيْضا جمال الرجل فصاحة لِسَانه وَقَالَ أجمل الْجمال الفصاحة وَقَالَ تعلمُوا الْعَرَبيَّة فَإِن الله مخاطبكم بهَا يَوْم الْقِيَامَة وَكَانَ ابْن عمر يضْرب بنيه على اللّحن وَلَا يَضْرِبهُمْ على الْخَطَأ قَالَ العتبى عَن أَبِيه اسْتَأْذن رجل من جند الشَّام لَهُ فيهم قدر على عبد الْملك ابْن مَرْوَان وَهُوَ يلْعَب بالشطرنج فَقَالَ يَا غُلَام غطها هَذَا شيخ لَهُ جَلَاله ثمَّ أذن لَهُ فَلَمَّا كَلمه وجده يلحن فَقَالَ يَا غُلَام اكشفها فَلَيْسَ للاحن حُرْمَة وَقَالَ حَمَّاد بن سَلمَة مثل الَّذِي يطْلب الحَدِيث وَلَا يعرف النَّحْو مثل الْحمار عَلَيْهِ مخلاة لَا شعير فِيهَا وَلَقَد أصَاب بعض الْأَشْرَاف حَيْثُ يَقُول نعْمَة الْجَاهِل كروضة على مزبلة وَفِيمَا يرْوى أَن بَعضهم رأى شَابًّا لَا أدب لَهُ وَعَلِيهِ خَاتم ذهب فَقَالَ حمَار عَلَيْهِ لجام من ذهب وَقَالَ بَعضهم أيرضى أحدكُم إِذا تكلم أَن يكون مثل عَبده وَكَيف ترْضونَ أَن تكون أَلْسِنَتكُم معوجة وأحدكم لَا يرضى أَن يكون الْحذاء الَّذِي فِي رجله إِلَّا فِي نِهَايَة الاسْتقَامَة وَأي عُضْو أولى أَن يحرس منالزلل من عُضْو كرمه الله إِذْ أنطقه بتوحيده وَهَذَا بَاب طَوِيل إِن اسهبنا فِيهِ انقطعنا من ذكر مَا نَحن إِلَى شَرحه أحْوج مِمَّا يُوَافق الْكتاب وَكله يدل على أَن اللّحن تستقبحه الْعَرَب فِي جَمِيع الْأَحْوَال من كل ذكر أَو أُنْثَى وَهَذَا مُسْتَوفى فِي كتابي الْمُسَمّى مُنْتَهى الأرب فِي مُبْتَدأ كَلَام الْعَرَب
المصدر: اتفاق المباني وافتراق المعاني