مسائل نحوية متنوعة (6)
مسألة [٤٧]
ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما جرى من الأسماء التي هي من الأفعال وما أشبهها من الصفات التي ليست بفعل نحو الحسن والكريم، قال وقال بعض العرب: قال فلانة، وهو فيما ذكر قليل في الحيوان والآدميين خاصة.
قال محمد: [بن يزيد] وهذا خطأ، لم يوجد في قرآن ولا كلام فصيح ولا شعر، ولكنه يجوز في الموات أن تقول: أعجبني دارك، لأن الدار ليس تحتها معنى تأنيث ولا تذكير، وإنما يجري على اسمها، ولا فصل بينها وبين قولك: منزل، فمن ذلك قوله جل وعز: {فمن جاءه موعظة من ربه} لأن الموعظة والوعظ واحد، وكذلك {وقال نسوة} لأنه تأنيث الجماعة “والجماعة” والجميع سواء، ولم يجز هذا في الحيوان لأن معناه التأنيث، ولو سميت امرأة أو شاة أو كلبة باسم مذكر (قلبته إلى التأنيث) لمعناهن، ألا ترى أنك لو سميت امرأة بـ (قاسم) و (جعفر) لقلت جاءتني قاسم، وجاءتني جعفر، وكذلك جميع الحيوان لتأنيث المعنى، وقال جرير:
لقد ولد الأخيطل أم سوء … ……….
لأن الأم في الأصل صفة، ولأنه قد فصل بينهما وبين الفعل.
قال أحمد: [بن محمد] هذا كلام ظاهر الفساد بين الاختلال، وذلك أنه حكى عن سيبويه أنه روى عن بعض العرب، قال فلانة، ثم خطأه في ذلك، وهذا موضع التكذيب فيه أشبه من التخطئة، لأنه ليس بقياس قاسه فيرد عليه ويخطأ فيه، وإنما ذكر أن بعض العرب قال ذلك، فإن كانت التخطئة لمن قال ذلك من العرب فهذا رجل يجعل كلامه في النحو أصلا وكلام العرب فرعا، فاستجاز أن يخطئها إذا تكلمت بفرع يخالف أصله، وذكر عن سيبويه أن قال فلانة قليل، ثم قال: وهذا لا يجوز، لأنه لم يوجد في قرآن ولا شعر ولا /٦٢/ كلام فصيح، فلو وجد مثله في قرآن أو كلام فصيح لما نسبه إلى الضعف “والقلة”، فأما الشعر فهو قد أنشد بيت جرير، وقد مثل سيبويه حذف التاء من فعل المؤنث في مذهب من أجاز ذلك بأحسن تمثيل، وهذا الذي للنحوي أن يفعله، وهو أن يمثل ويعتل لما جاء عن العرب، فأما أن يرده فليس ذلك له، وزعم أن حذفهم التاء من فعل المؤنث كحذفهم علامة التثنية من فعل الاثنين، وكذلك الجميع إذا قلت: قام أخواك، وقام إخوتك، فلما كان ذكر اسم الاثنين يغني عن إلحاق الفعل علامة التثنية، كذلك كان ذكره اسم المؤنث يغني عن إلحاق علامة التأنيث في الفعل.
فإن قال قائل: إن العرب قد تسمي المذكر باسم المؤنث والمؤنث بالمذكر، قيل له: وقد تسمي الواحد باسم الاثنين واسم المجتمع كقولهم: أبانان وعرفات لموضع.
مسألة [٤٨]
قال: ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب إجراء الصفة فيه في بعض المواضع أحسن، وقد يستوي إجراء الصفة على الاسم وأن تجعله خبرا فتنصبه، ذكر النحويون الذين قالوا: مررت بامرأة آخذة عبدها فضاربته، فقالوا: انتصب لأن القلب لا يجوز.
قال محمد: وهذا لعب من قول النحويين، ولكنه أحتج عليهم يبيت لا حجة فيه، وهو قول حسان:
ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم … وفينا نبي عنده الوحي واضعه
ذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم- عنده الوحي واضع الوحي عنده، وإنما المعنى، وفينا نبي الوحي واضع عنده ما صنعتم، أي: لا يخفى صنيعكم لأن الوحي، قد خبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أحمد: الذي ذهب إليه محمد بن يزيد في هذا البيت هو الوجه الجيد، فأما ما ذهب إليه سيبويه فإنما يكون البيت حجة عليه لا على المعنى الأجود، وليس يمتنع، ألا ترى أن المسألة التي استشهد بها تحتمل أيضا وجهين، وهي قوله في إثر هذا البيت: (ومما يبطل القلب زيد (أبو قائم أخو) عبد الله مجنون به، إذا جعلت الأخ صفة والجنون من زيد بأخيه، فهذا نص قوله، وهو دليل على أنه لم يذهب عليه الوجه الآخر، لأنك قد ترفع الأخ بالابتداء، وتجعل مجنونا خبرا، والهاء /٦٣/ عائدة على زيد، وكذلك البيت يحتمل هذا الوجه إذا أراد به الشاهد لهذا المعنى جعله على هذا التأويل، وليس هذا بشاهد قاطع ولا مقصور على معنى واحد.
والتأويل الذي ذهب إليه سيبويه يؤول في المعنى إلى ما تأوله محمد، إلا أن قول محمد أبين وأوضح، لأنه يجيز ولم يضطره الاستشهاد إلى شر الوجهين، وإنما قولنا: إنه يؤول في المعنى إلى التأويل الآخر، لأنه إذا وضع الوحي عنده، وما صنعتم منه، يعني من الوحي، فقد وضع ما صنعوا عنده، وإذا رد عليه مثل هذا وهو يحتمل (التأويل وينساغ) في التفسير وجب أن يرد عليه البيتان اللذان استشهد بهما في باب (ما) وهما قول الأعور “الشني”.
هون عليك فإن الأمور … بكف الإله مقاديرها
فليس يآتيك منهيها … ولا قاصر عنك مأمورها
لأنه استشهد بهذين البيتين لمسألة لا تجوز البتة، وهي قولك: ما أبو زينب ذاهبا ولا مقيمة أمها، فجعل الضمير عائدا على زينب، ولم يجعله عائدا على الأب الذي هو اسم (ما)، فلذلك لم يجز تصب الخبر المقدم. لأن (ما) تقدم خبرها ارتفع، وليس بجائز تقديم خبرها ونصبه، وسيبويه علمنا ذلك في هذا الباب بعينه، فلم يجهل هذا وإنما أتى به تمثيلا، كأنه أرانا المعنى الذي لا يجوز فيما جاء جائزا في ليس.
المصدر: الانتصار لسيبويه على المبرد