اشتراك المفضل في ثورة إبراهيم (3)
اشتراك المفضل في ثورة إبراهيم (3)[1]
المؤلف: المفضل بن محمد بن يعلى بن سالم الضبي (المتوفى: نحو ١٦٨هـ)
المحقق: إحسان عباس
كان المفضل طويلاً جميلاً – كذلك وصفه أبو الجواب الأعرابي حين رآه [2] – وكان أقرب إلى الوقار قليل المزح، وإذا حاوله لم يعدم أن يتورط [3]، صدوق اللهجة، ولا يتزيد في الرواية ويكره الانتحال ويزيد كرهاً له ابتعاداً عنه ما كان من حماد الراوية نفسه، فالمفضل يشهد أنه قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده، لأنه كان عالماً بلغات العرب وأسعارها ومذاهب الشعراء فكان يقول الشعر يشبه مذهب الرجل ويدخله في شعره[4] ولذلك أستبعد اتهام أبي عبيدة للمفضل بالوضع. وإذا كان بعض المحدثين قد جرحه في القراءة والحديث، فذلك موقف قلما سلم منه أحد من شيوخه الكوفيين فأحرى ألا يسلم هو، ولعل لاعتناقه المذهب الزيدي دخلاً في ذلك؛ فإذا كان الميدان هو الشعر والخبر فهو موثق في روايته [5]. ومع طول باعه في الرواية فهو لا يقول الشعر ولا يزعم لنفسه القدرة على ذلك، ولما سئل عن ذلك قال: علمي به يمنعني من قوله [6]، وقد أدركه الحرج في أواخر أيامه من روايته لشعر الهجاء وكتبه، فأقبل يكتب المصاحف ويقفها في المساجد تكفيراً عن ذلك [7]؛ ويبدو أنه كان يكرر الذهاب إلى الحج، وأنه كان يقوم بذلك في دور مبكر من حياته، وكان إذا حج نزل عند الأعراب، وأغلب الظن أنه اتخذ هذا طريقه لإتقان اللغة وجمع الألفاظ والاستكثار من الأخبار والروايات، وهو يحدثنا أنه في إحدى المرات نزل على خرقاء صاحبة ذي الرمة، فوجدها امرأة طويلة حسّانةً بها فوه، فتحدث إليها، ولما سألته هل حججت أجاب ((غير مرة)) فداعبته لأنه يحج ولا يزورها مع إنها منسك من مناسك الحج، كما يقول ذو الرمة:
تمام الحج أن تقف المطايا… على خرقاء واضعة اللثام [8] ولعل عطايا الخلفاء مكنته من أن يعيش فوق مستوى الكفاف، وأن يقتني ضيعة، وربما صح أن يقال إنه كان سخياً راعياً لحقوق الجوار، فنراه يهدي بعض جيرانه أضحية، فلا يتلقى من ذلك الجار عليها سوى التعريض اللاذع [9].
وقد جعلته الحياة القائمة على الرواية طلعة كثير التسآل، لا في شؤون الشعر والأخبار بل في أمور الحياة عامة [10]، ويدل حواره مع راوية الكميت (محمد ابن سهل) على أنه لم يكن يرضى بقبول شيء دون محاكمة؛ فقد وصف الكميت الرخمة بالكياسة مخالفاً كل من وصفها بالحمق [11]، فيعلل محمد بن سهل ذلك بأن كيسها يظهر في حفظ فراخها واختيارها المساكن التي لا تبلغها سباع الطير، فيقول المفضل: نحن لا نعرف طائراً ألأم لؤماً ولا أقذر طعمة ولا أظهر موقاً منها، فيرد عليه ابن سهل منكراً حمقها، لأنها تحضن بيضها وتحمي فراخها وتحب ولدها وتقطع في أول القواطع وترجع في أول الرواجع[12]. ولا ينتهي هذا الجدل – فيما يبدو – إلى اتفاق.
وتتفاوت المصادر المبكرة والمتأخرة في تصوير مدى ما كان يحسنه من علوم: فهو عند أبي الطيب اللغوي مختص بالشعر ولم يكن أعلم أهل بلده في اللغة والنحو (ولكن هذا لا ينفي أن له حظاً منهماً) بل إنه أقر – وهذا مستغرب – بأنه لا يحسن شيئاً من الغريب ولا من المعاني ولا تفسير الشعر وإنما يروي شعراً مجرداً [13]، وهو قول تنقضه شواهد متعددة في المصادر كما ينقضه الأزهري بقوله: ((الغالب عليه رواية الشعر وحفظ الغريب [14] وهو عند الزبيدي لا يحسن معنى بيت ولا يضبطه [15]. ونتقدم في الزمن فنجد الخطيب – وعنه ينقل السمعاني والقفطي – يعده ((علامة رواية للآداب والأخبار وأيام العرب)) [16] وقريب من ذلك قول ياقوت ((عالم بالأخبار والشعر والعربية)) [17] – ثم يصبح في المصادر التي جاءت بعد القرن السابع: إماماً في اللغة والنحو، مقرئاً نحوياً موثقاً، علامة في النسب [18]، وهكذا ينعدم التمييز بين ما كان فيه مجلياً وما كان فيه مصلياً وما كان فيه سكيت رهان، وتستوي له ((الإمامة)) في الجميع، ومن الملاحظ أن المصادر المتأخرة (ما عدا كتب رجال الحديث والقراءات) لم تعد تشير إلى دوره في الحديث، سلباً وإيجاباً.
ومن الصعب أن يصدق المرء كيف يمكن لإنسان أن يروي الشعر دون أن يعرف معانيه أو تفسيره (والغريب جزء من ذلك) ثم يتفق له أن يختار ما يمكن أن يعد مجموعة جميلة من القصائد، بل يذهب في تفسيره أحياناً إلى عمق باطني رمزي، كما فعل عندما سئل عن معنى ((القمرين)) في بيت الفرزدق. بل إننا لو حاولنا جمع الشواهد المروية عنه لوجدنا له موقفاً متميزاً في فهم معاني الشعر، فهو يقرأ ((حرج)) بكسر الحاء وسكون الراء، ويقرأ غيره حرج في قول الشاعر:
يتبعن قلة رأسه وكأنه… حرج على نعش لهن مخيم لأنه يرى أن معنى الحرج: ((الخيال)) [19].
ويفسر ((العير)) بمعنى ((الوتد)) في قول الحارث بن حلزة في معلقته:
زعموا أن كل من ضرب العي؟… ر موالٍ لنا وأنا الولاء بينما يرى غيره أن العير قد ينطلق إلى كليب أو قد يعني الحمار[20]. وإذا مر به بيت عمرو بن كلثوم ((وسيد معشر قد توجوه)) قال: إنما سمي سيداً لأنه كان يسودهم في العطاء ويهشم الثريد [21]. ويمر بلفظة ((قيل)) فيقول: هو الملك وجمعه أقيال أو قوال [22]؛ ويوجه دلالة ((معد)) في قول عمرو بن كلثوم ((وقد علم القبائل من معدّ)) بأنه معد بن بكر [23]؛ وإذا تذكرنا أن المفضل يروي عن الأعراب أمثال أبي العدرج وأبي الغول [24] لم نصدق أنه كان يأخذ الشعر دون أن يسألهم عن معانيه. قال تلميذه أبو زيد: كنا يوماً عند المفضل وعنده الأعراب فقلت لهم، قل لهم: يحقرونها فقالوا: شييرة [25]؛ وللمفضل وقفات لغوية واضحة، تدل على اطلاع واسع ومعرفة دقيقة، فهو يقول إن ورى الزند ووري لغتان [26]، وإن الناموس هو الذي يتعرف الأخبار وينقر عنها [27]، ويتحدث عن مراحل عمر الإنسان على النحو الآتي: العرب تقول للغلام إذا بلغ عشر سنين: رمى، أي قويت يده، فإذا بلغ عشرين قالوا: لوى، أي لوى يد غيره، فإذا بلغ ثلاثين قالوا عوى، وعوى أشد من لوى قليلاً، فإذا بلغ أربعين قالوا: استوى، فإذا بلغ الخمسين قالوا: حري أن ينال الخير كله [28].
ثم إن امرءاً يؤلف كتاباً في معاني الشعر لا يمكن أن يقال فيه ((لا يحسن معنى بيت ولا يضبطه))، إلا أن يغلب الخطأ على ذلك الكتاب [29].
وأتجاوز هذه القضية التي لا تتطلب نقاشاً طويلاً [30] لأقول: إن المفضل يمكن أن يعد ناقداً للشعر – من طبقة النقاد الرواة – فهو بحكم مختاراته ناقد ذو ذوق أصيل، وهو في تفضيله لشاعر على آخر يفيء إلى حسه النقدي كذلك؛ قال ابن الأعرابي: سألت المفضل عن الراعي وذي الرمة أيهما أشعر فزبرني وقال لي: مثلك يسأل عن هذا؟! يريد أن الراعي أشعر [31]، وهو إذا ذكر شعراء العصر الأموي قدم الفرزدق تقدمة شديدة [32] وعلل ذلك بأن الفرزدق قال بيتاً هجا في قبيلتين[33] ويرى أن أحسن ما قيل في القسم – دون أن يحاول تعليل ذلك – قول الاشتر النخعي:
بقيت وفري وانحرفت عن العلا *** ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن هند غارة… لم تخل يوماً من نهاب نفوس[34] وذلك قسم فيه من الأغراب الشعري والجدة ما فيه، مما يدل على حس نقدي أصيل.
ولديه مفهوم واضح عن البلاغة، فعندما سأله تلميذه وربيبه ابن الأعرابي عن الإيجاز قال: هو حذف الفضول وتقريب البعيد [35]، ومع ذلك فإنه كان دائم التسآل عن مفهوم البلاغة لدى الآخرين وخاصة الأعراب [36].
وهو – كأقرانه من العلماء الرواة – يستطيع أن يميز المنحول من الأصيل، فإذا مر به هذا البيت المدرج في قصيدة عمرو بن كلثوم:
ليستلبن أبداناً وبيضاً… وأسرى في الحديد مقيدينا قال: ليس هو من هذه القصيدة [37]؛ فإذا غمض عليه المنحول من الصحيح في شعر عدي بن زيد، فذلك ليس غريباً، لا سيما وهو مخلص ((لمدرسة الكوفية)) التي لم تكن تتشدد في قبول الاتساع في رواية الشعر.
ومع هذا الاطلاع الواسع على التراث الشعري، والنظرة الناقدة، فإنه – شأن غيره من الرواة – لم يبرأ من التصحيف؟ والتصحيف في حقيقته يدل على اجتهاد في القراءة والتأويل معاً، وإذا كان مرجوجاً في هذين الأمرين – أعني القراءة والتأويل – فهو لا يدل على جهل الراوي إطلاقاً. وقد أشرت إلى نموذج من تصحيفاته فيما تقدم، أما سائر ما أخذ عليه فيمكن تلخيصه فيما يلي [38].
المصدر: أمثال العرب ت إحسان عباس
[1] تاريخ الطبري ٣: ٦١٦ وانظطر مقدمة المفضليات تحقيق الاستاذين شاكر وهارون: ٢٥ فقد أشارا إلى نص الطبري، واستنتجا أنه توفي سنة ١٧٨.
[2] انباه الرواة ٣: ٣٠٣.
[3] المصدر السابق: ٣٠٠ – ٣٠١.
[4] معجم الأدباء ١٩: ١٦٤ – ١٦٥، ١٠: ٢٦٥.
[5] تاريخ بغداد ١٣: ١٢١ وميزان الاعتدال ٤: ١٧٠ ولسان الميزان ٦: ٨١.
[6] انباه الرواة ٣: ٢٩٩.
[7] المصدر السابق: ٣٠٤ والبلغة: ٢٦٣ وبغية الوعاة ٢: ٢٩٧ ومثل هذا العمل ينسب أيضاً إلى أبي عمرو الشيباني، انظر وفيات الأعيان ١: ٢٠٢.
[8] الشعر والشعراء: ٤٤٠ – ٤٤١ والأغاني ١٧: ٣٣٨ ووفيات الأعيان ٤: ١٣.
[9] بهجة المجالس ١: ١٠٤ – ١٠٥.
[10] من ذلك أنه يلقي أعرابياً فيسأله: من أين معاشك (انظر بهجة المجالس ١: ١٤١) .
[11] وذات اسمين والألوان شتى تحمق وهي كيسة الحويل.
[12] الحيوان ٧: ١٨ والدرة الفاخرة: ١٥٣.
[13] مراتب النحويين: ٧١ وعنه المزهر ٢: ٤٠٥.
[14] تهذيب الأزهري ١: ١٠.
[15] طبقات النحويين: ١٩٣.
[16] تاريخ بغداد ١٣: ١٢١ والأنساب ٨: ٣٨٥ وانباة الرواة ٣: ٢٩٨.
[17] معجم الأدباء ١٩: ١٦٤.
[18] انظر على التوالي: البلغة: ٢٦٢ وغاية النهاية ٢: ٣٠٧ والنجوم الزاهرة ٢: ٦٩ وراجع بغية الوعاة ٢: ٢٩٧.
[19] شرح القصائد السبع الطوال: ٣٢٢.
[20] المصدر السابق: ٤٥٠.
[21] شرح القصائد التسع: ٧٩٤.
[22] المصدر السابق: ٨١٠.
[23] المصدر السابق: ٨٢٦ أي أنه ليس معد بن عدنان.
[24] نوادر أبي زيد: ١٩، ٨٥.
[25] امالي القالي ٢: ٢١٠.
[26] التخليص للعسكري: ٣٤٤.
[27] المصدر السابق: ٦٩٠.
[28] مجالس ثعلب: ٧٨
[29] أشار إلى كتابه هذا الفهرست: ٧٥ وانظر نزهة الألباء: ٣٦ وياقوت ١٩: ١٦٧.
[30] هناك شواهد كثيرة جداً على اهتمام المفضل بالمعاني، انظر مثلاً أمثال أبي عكرمة الضبي: ٢٥، ٦٦، ٧٤.
[31] طبقات النحويين: ١٩٣.
[32] طبقات فحول الشعراء: ٢٩٩.
[33] معجم الأدباء ١٩: ٢٩٩.
[34] نور القبس: ٢٧٤.
[35] البيان والتبيين ١: ٩٧.
[36] المصدر السابق نفسه، وانظر بهجة المجالس ١: ٧١.
[37] شرح القصائد السبع: ٤٢٣.
[38] قد اتبعت في ترتيب هذه الصحيفات العسكري: ١٣٤ وما بعدها لأنه أوسع المصادر في هذه القضية، وانظر التنبيه لحمزة: ٦٩ – ٧٣ والمزهر ٢: ٣٦٣، ٣٦٦، ٣٧١ واللسان (كبر) ونزهة الألباء ٣٦، والخصائص ٣: ٢٨٧، ٣٠٦ درة الغواص: ١٣٥ وأضداد ابن الأنباري: ١٤٥ والمصون: ١٩١ – ١٩٣ والحيوان ٤: ٢٥ – ٢٦.