اشتراك المفضل في ثورة إبراهيم (2)
المؤلف: المفضل بن محمد بن يعلى بن سالم الضبي (المتوفى: نحو ١٦٨هـ)
المحقق: إحسان عباس
طلب إلى المفضل أن يزوده بكتب يتسلى بها ويطرد ما يعتريه من ضيق صدر أثناء وحدته، فأتاه المفضل بشيء من أشعار العرب، فاختار منها قصائد – عددها سبعون – وكتبها مفردة في كتاب، فأخذها المفصل وصدر بها اختياره وزاد عليها قصائد أخرى[1]. وتحاول هذه الرواية أن تجد ما يؤيدها عن طريقين أولهما: إبراز دور إبراهيم في حفظ الجيد من الشعر والتمثل به – كما أشرت من قبل – حتى أنه نال إعجاب المفضل نفسه، وثانيهما أنها منقولة عن أبي عكرمة الضبي) ؛ بل إن إقرار المفضل بدور إبراهيم يأخذ سياقاً أشد حين يتأدى على النحو الآتي: ((قال العباس بن بكار الضبي، قلت للمفضل الضبي: ما أحسن اختيارك للأشعار، فلو زدتنا من اختيارك، فقال: والله ما هذا الاختيار لي، ولكن إبراهيم بن عبد الله بن حسن استتر عندي فكنت أطوف وأ ” ود إليه بالأخبار فيأمرني ويحدثني، ثم حدث لي خروج إلى ضيعتي أياماً فقال لي: اجعل كتبك عندي لأستريح إلى النظر فيها، فجعلت عنده قمطرين فيهما أشعار وأخبار، فلما عدت وجدته قد علم على هذه الأشعار، وكان أحفظ الناس للشعر وأعلمهم به، فجمعته وأخرجته فقال الناس: اختيار المفضل)) [2].
وليس من العسير أن نجعل الروايتين متكاملتين، ونقول أن لإبراهيم الفضل في ((التأشير)) على تلك القصائد، وأن المفضل وجد الفرصة سانحة حين كان يؤدب المهدي ليلقيها عليه، وأن أبا جعفر المنصور كان يجهل القصة، فلما سمع قصيدة المسيب واستحسنها اقترح القيام باختيار قصائد جياد يحفظها ابنه، فطابق ذلك ما كان لدى الفضل، ولا تصادم بين الروايتين إلا في إشارة المنصور إلى اعتماد شعر المقلين، إذ كيف طابق هذا ما كان إبراهيم نفسه قد فعله؟ إن مثل هذا التطابق يبدو مستغرباً. فإذا حذفنا هذه الإشارة التي تفسر طبيعة المفضليات – كما عرفت من بعد – تسنى للروايتين تكامل تام.
وفي أيام المهدي ظل المفضل مقرباً ممن تلميذه بالأمس، فهو يدخل على المهدي فيستنشده الشعر؛ دخل عليه ذات مرة وعنده عبد الله بن مالك الخزاعي، فقال المهدي: أنشدني أربعة أبيات عليهن قبل أن تجلس، فأنشده[3]:
فقال المهدي: هذا، وأشار إلى عبد الله بن مالك [7]. وقد نال من المهدي أيضاً توثيقاً عاماً، وقصة ذلك أن عدداً من العلماء كانوا مجتمعين في دار المهدي بعيساباذ فخرج الحاجب إليهم واستدعى المفضل من بينهم للمثول بين يدي الخليفة فغاب عنهم بعض الوقت ثم خرج في صحبة الحاجب، ومعهما حماد الراوية، وعلى قسمات المفضل إمارات السرور والنشاط، وفي وجه حماد إنكسار وغم، ثم خرج حسين الخادم فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، (وكان المهدي قد استحلفه بالإيمان المغلظة عن أبيات نسبها إلى زهير بن أبي سلمى فأقرّ بأنه وضعها) ووصل المفضل بخمسين ألفاً لصدقه وصحة روايته، فمن أراد أن يسمع شعراً جيداً محدثاً
فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل [8].
ويستدل من أسفه على الهادي وتمثله ببيتين من الشعر عند وفاته، بأنه كان على علاقة طيبة به [9].
وتتوثق علاقته بالرشيد، فنراه يذهب إلى مكة في صحبته، وعند منصرفهما سنح ذئب، فسأله الرشيد، ما أحسن ما قيل في الذئي فأنشده قول الراجز:
أطلاس يخفي شخصه غباره *** في فمه شفرته وناره
فقال الرشيد: أحسن الشاعر، ولكني أحفظ ما هو أحسن من هذا فإن جئت به فذلك خاتمي، فقال المفضل: لعل أمير المؤمنين يريد:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ال؟ *** منايا بأخرى فهو يقظان هاجع [10]
فقال الخليفة: ما طرح هذا لسانك إلا لذهاب خاتمي، ورمى به إليه[11].
وتجيء هذه الرواية على نحو آخر، فلا يرد شيء عن سنوح الذئي، ولا ينشد المفضل قول الراجز، ومكان اللقاء مجلس للرشيد، لعله في بغداد، يحضره جحظة البرمكي، وتضيف الرواية تقدير قيمة الخاتم وأنها ألف وستمائة دينار، وتضيف عنصراً هاماً إلى القصة: وذلك أن أم جعفر زوج الرشيد سمعت بما جرى للخاتم فاشترته من المفضل بالقيمة نفسها، وأعادته إلى الرشيد قائلة: ((قد كنت وكان المهدي قد سأل المفضل عن قول زهير ((دع ذا وعد القول في هرم)) كيف يقول: ((دع ذا)) ولم يسبق شيء، فكان من جواب المفضل أن الرواية وردت كذلك، وأنه يعلل ذلك بأن زهيراً كان يفكر في قول ثم اضرب عنه وقال: ((دع ذا..)) فلما سال حماداً قدّم قبل البيت أربعة أبيات من صنعه ونحلها زهيراً. أراك تعجب به)) ولكن الرشيد أعاده إلى الضبي وقال: خذه، وخذ الدنانير فما كنا نهب شيئاً فنرجع فيه[12].
ويبدو بعض أسئلة الرشيد له نوعاً من الأحاجي، فقد استدعاه يوم خميس بكراً، فلما عليه وجد الأمين عن يمينه والمأمون عن يساره والكسائي بين يديه باركاً يطارحهما معاني القرآن، وبعد أن سلم أمره بالجلوس وقال له: كم اسم في ﴿ سيكفيكهم الله ﴾ فقال: ثلاثة، اسم الله تبارك وتعالى، واسم النبي صلى الله عليه وسلم، واسم الكفرة، فالياء والكاف والفاء والكاف المتصلات بالسين لله عز وجل والكاف المتصلة بالهاء للنبي والهاء والميم للكفرة، فوافق ما قاله قول الكسائي أيضاً [13].
وامتد به هذا المجلس نفسه فسأله عن معنى قول الفرزدق:
نقل هاماً لم تنله سيوفنا *** بأسيافنا هام الملوك القماقم
ثم عن معنى قول الفرزدق أيضاً:
أخذنا بآفاق السماء عليكم *** لنا قمراها والنجوم الطوالع
فكان من توجيه المفضل لمعنى القمرين أنهما حقاً الشمس والقمر كما قال الكسائي، ولكن الشمس ترمز إلى إبراهيم الخليل والقمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأما النجوم الطوالع فهي أمير المؤمنين وآباؤه من الخفاء المهديين، فسر الرشيد وأجازه بعشرة آلاف درهم، ثم وضع له مريساً وللكسائي كرسياً، وأخذا يستمعان معه إلى الشعراء الذين دخلوا عليه في ذلك اليوم ومنهم العماني الراجز ومنصور النمري وغيرهما [14].
ويستدعيه الرشيد ذات يوم أيضاً رجاء الحصول لديه على شيء من ((الرياضة الذهنية)) ويسأله أن يلقي عليه بيتاً يحتاج إلى مقارعة الفكر في استخراج خبيئه، فيقول له المفضل: ((أتعرف بيتاً أوله أعرابي في شملته، هاب من نومته، كأنما صدر عن ركب جرى في أجفانهم الوسن فركد، يستفزهم بعنجهية البدو وتعجرف الشدو، وآخره مدني رقيق قد غذي بماء العقيق؟)) فقال الرشيد: لا أعرفه، فقال المفضل: هو بيت جميل:
ألا أيها الركب النيام ألا هبوا … (ثم أدركته رقة المشوق فقال)
أسائلكم هل يقتل الرجل الحب. … واتخذ الرشيد عندئذ دور السائل في هذه المباراة، وقال المفضل: هل تعرف أنت الآن بيتاً أوله أكثم بن صيفي في أصالة الرأي ونبل العظة، وآخره ابقراط في معرفته بالداء والدواء؟ فقال المفضل: قد هولت عليّ، فليت شعري بأي مهر تفترع عروس هذا الخدر؟ قال: بإصغائك وإنصافك، وهو قول الحسن ابن هانئ:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء *** وداوني بالتي كانت هي الداء[15]
فإذا قبلنا بالروايات التي تصور علاقته بكل من الهادي والرشيد، صح لدينا أن تاريخ وفاته ب؟ ((١٦٨)) [16] خطأ واضح، لأن الهادي نفسه بويع سنة ١٦٩ وتولى الرشيد الخلافة في السنة التالية. وأقرب إلى الصواب قول من قال إنه توفي سنة ١٧١هـ؟[17]. وجاء في الطبري: ((ذكر الضبي أن شيخاً من النوفليين قال: دخلنا على عيسى بن جعفر؟)) (ثم قص قصة خروج يحيى بن عبد الله، وكان ذلك سنة ١٧٥ والخبر أورده الطبري في أحداث سنة ١٧٦) فإن كان الضبي هو المفضل، فإنه قد أدرك ثورة يحيى أو لعله تجاوز بداياتها بقليل.
المصدر: أمثال العرب ت إحسان عباس
[1] مقاتل الطالبيين: ٣٣٨ – ٣٣٩، ٣٧٣ وشرح النهج ٣: ٣٠٨.
[2] انباه الرواة ٣: ٣٠٤ والمزهر ٢: ٣١٩.
[3] الشعر للشماخ، ديوانه: ٨٠.
[4] تعقب البكري رواية ((يجر شواء)) وقال إن رواية الجماعة: ((وجر شواءٍ)) ، انظر السمط: ٥٩٠ والتنبيه على أوهام أبي علي: ٨٢.
[5] المزلج: الذي لم يتم حزمه.
[6] الشيزي: الجفان.
[7] نور القبس: ٢٧٢ – ٢٧٣ وأمالي القالي ١: ٢٦٢.
[8] معجم الأدباء ١٩: ١٦٥ – ١٦٦
[9] انباه الرواة ٣: ٣٠٣ والبيتان هما:
خلت إلا من الذئب البلاد
تحمل أهلها عنها فبادروا
فكانت أمة بلغت مداها
لكل زروع مزرعة حصاد
|
[10] في النجوم الزاهرة: ٢: ٦٩ يقظان نائم؛ والبيت لحميد بن ثور في ديوانه: ١٠٥.
[11] نور القبس: ٢٧٤.
[12] تاريخ بغداد: ١٣: ١٢٢ وأنساب السمعاني ٨: ٢٣٥ وانباه الرواة ٣: ٢٩٨ والنجوم الزاهرة ٢: ٦٩ والبلغة: ٢٦٢.
[13] نور القبس: ٢٧٢ ومجالس العلماء: ٣٥ والبصائر ٧٢: ٥٠ وغاية النهاية ٢: ٣٠٧ والمزهر ٢: ١٨٩.
[14] تفصيل هذا في مجالس العلماء: ٣٧ – ٤١ وانظر المزهر ٢: ١٩٠.
[15] الشعر والشعراء ١٩ – ٢٠.
[16] ميزان الاعتدال ٤: ١٧١ ولسان الميزان ٦: ٨١ وغاية النهاية ٢: ٣٠٧ (ولم تؤرخ وفاته معظم المصادر الأخرى، وفي الفهرست ترك موضع الوفاة بياضاً) .
[17] النجوم الزاهرة ٢: ٦٩ ولا أدري من أين نقل ذلك.