كتبه: الشيخ محمد الطنطاوي
المحقق: أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل
تمهيد:
نشأت اللغة العربية في أحضان جزيرة العرب خالصة لأبنائها مذ ولدت نقية سليمة مما يشينها من أدران اللغات الأخرى.
لبثت كذلك أحقابا مديدة كان العرب فيها يغدون ويروحون داخل بلادهم على ما هم عليه من شظف العيش، غير متطلعين إلى نعيم الحياة وزخارفها فيما حولهم من بلاد فارس والروم وغيرها، وإن دفعتهم الحاجة إليها حينا، وتبادل المنافع حينا آخر.
على أنه كان في أسواقهم الكثيرة التي تقام بينهم طوال العام غناء أي غناء في عيشتهم البدوية القانعة، ومن أشهرها عكاظ “بين نخلة والطائف” كانت تقام شهر شوال[1]، وبعده مجنة “بمر الظهران” من أول ذي القعدة إلى عشرين، وبعده ذو المجاز “خلف عرفة” إلى أيام الحج.
ولقد كان في هذه الأسواق فوق ما تضمه من مرافق الحياة ومتطلبات المعيشة منتديات للأدب، يعقدون فيها المجامع ذات الشأن يتبارى فيها مداره الخطباء[2]، ومفوهو الشعراء من القبائل المتنائية الأصقاع، يعرضون فيها مفاخراتهم ومنافراتهم ومعاظماتهم وكل ما يعن لهم في جيد الخطب وبديع الشعر[3].
عاد ذلك كله على اللغة بتثبيت دعمائها وإحكام رسوخها وجودة صقلها وبقيت كذلك متماسكة البنيان غير مشوبة بلوثة[4] الأعجام، إلى أن سطع نور الإسلام على ما حول الجزيرة العربية بالفتوحات الإسلامية ودخل الناس في دين الله أفواجا ثم تتابعت الفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين، فوصلت في عهد سيدنا عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- شرقا إلى نهري السند وجيحون، وغربا إلى الشام ومصر، فكان من الطبعي هبوط العرب ومعهم عشائرهم وعمائرهم[5] إلى هذه الأمصار التي افتتحوها ودخلت تحت حوزتهم، وبحكم الفتح قد كثر تملكهم للموالي في البلاد المفتوحة عنوة.
كما كان من الطبعي تقاطر الوافدين من هذه الأمصار المفتوحة إلى الجزيرة العربية، إذ فيها المدينة المنورة حاضرة الإسلام، ومقر الخلفاء الراشدين وعلية الدولة. وفيها مكة المكرمة، وبها الكعبة المشرفة التي يؤمها كل من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وهكذا ازداد هذا النزوح من الجانبين كلما توالت الفتوحات تترى في عهد بنى أمية، فلقد بلغت الفتوحات في عهدنا شرقا الهند والصين وشمالا سيبريا، وغربا ما وراء جبال البرانس بالأندلس، وجنوبا السودان، كما امتدت إلى جزائر البحر الأبيض المتوسط، فهذه المملكة المترامية الأطراف كانت تخفق عليها الراية الإسلامية التي تآخى تحت ظلها الجميع “الأحمر والأسود”، وامحت بينهم فوارق الجنس والوطن، ودينهم الإسلام وكتابهم القرآن ولغتهم العربية.
وكان أثرا لهذه الفتوحات من لدن كانت أن اختلط العرب بغيرهم اختلاطا مستمرا في البيوت والأسواق، والمناسك والمساجد، وتصاهروا واندمجوا في بعضهم حتى تكون منهم شعب واحد اجتمع فيه الصريح والهجين، والمقرف[6] والعبد، اقتضى كل أولئك أن يستمع بعضهم من بعض وأن يتفاهموا في كل ما يتصل بهم ولغة التخاطب الوحيدة بينهم في كل ما يحيط بهم هي العربية، فكان لزاما على غير العربي أن تكون لغته العربية مهما عالج في ذلك وعانى، كما كان لزاما على العربي أن يترفق بغير العربي ويتريث معه في التخاطب، ضرورة التعاون بين الطرفين فكل منهما يسمع من الآخر، والسمع سبيل الملكات اللسانية فما اللغة إلا وليدة المحاكاة وما يصل إلى السمع.
وبطول هذا الامنزاج تسرب الضعف إلى نحيزة العربي وسليقته، على أن غير العربي كان ينزع قسرا عنه إلى بني جلدته، وإن طال لبثه بين ظهراني العرب، فقد كان في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- صهيب يرتضخ الرومية، وسلمان الفارسية، وبلال وسحيم عبد بني الحسحاس الحبشية.
وتولد من هذا كله أن اللغة العربية تسرب إليها اللحن، ووهنت الملاحظة الدقيقة التي تمتاز بها وهي اختلاف المعاني طوعا لاختلاف شكل آخر الكلمة، فإن هذه الميزة كانت موفورة لديهم وهم يعبدون عن مخالطة سواهم من ذوي اللغات الأخرى التى خلت منها.
ولقد كان هذا النوع أول اختلال طرأ على اللغة العربية، منذ كان الإسلام، وكان الموالي والمتعربون، وطفق يزداد رويدا رويدا ما طال الزمن وتفسحت رقعة الإسلام.
المصدر: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة
[1] في القاموس “عكاظ كغراب سوق بصحراء بين نخلة والطائف كانت تقوم هلال ذي القعدة وتستمر عشرين يوما تجتمع قبائل العرب فيتعاكظون أي يتفاخرون ويتناشدون” وفي المصباح “وكان يقام فيها “عكاظ” السوق في ذي القعدة نحوا من نصف شهر ثم يأتون موضعا دونه إلى مكة يقال له: سوق مجنة فيقام فيه السوق إلى آخر الشهر ثم يأتون موضعا قريبا منه يقال له: ذو المجاز فيقام فيه السوق إلى يوم التروية “ثامن ذي الحجة” ثم يصدرون إلى منى” اهـ.
[2] المدره: السيد الشريف، والمقدم في اللسان والسيد عند الخصومة والقتال.
[3] أخبار أسواق العرب وأماكنها مبسوطة في معجم ما استعجم للبكري، ومعجم البلدان لياقوت، وصفة جزيرة العرب للهمداني، ومع التوزيع في أجزاء الأغاني، وفي الجزء الأول من بلوغ الأرب للألوسي فصل ضاف فيها.
[4] اللوثة بالضم الحبس في اللسان.
[5] العمائر: جمع عمارة، والعمارة: أصغر من القبيلة، أو الحي العظيم.
[6] الصريح: من أبواه عربيان، والهجين: من أبوه عربي لا أمه، والمقرف: من أمه عربية لا أبوه، لأن الإقراف من قبل الأب والهجنة من قبل الأم.
اخترنا لكم