علم تنزّلات القرآن
«القرآن الكريم، هو كلام الله المنزل من السماء على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم خاتم الأنبياء، المتعبد بتلاوته، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا بالتواتر، الناسخ للشرائع السالفة».
وحتى نتعرف على ماهية النزول القرآني، وما يشتمل عليه من أنواع، فنحن مضطرون إلى أن نعرّف معناه
أوّلا: معنى النزول في القرآن
لقد جاء التعبير بمادة (نزول القرآن) بتصاريف عدّة منها:
قال الله تعالى: ﴿ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾ [1].
وفي السنة قوله صلى الله عليه وسلم: [إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف].
ولكن لا بدّ من العودة إلى معاجم لغتنا العربية، فهي الأساس في تحديد المعاني، فاللغة تقول:
إنّ لهذه الكلمة إطلاقات عدة:
1 – الحلول في مكان. قال تعالى ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ﴾ [2].
2 – انحدار الشيء من علو إلى سفل قال تعالى ﴿ وأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ﴾ [3].
ولا ريب أنّ كلا هذين المعنيين لا يليق إطلاقه على إنزال القرآن، ولا إنزال الله، لأنّه يستلزم الجسمية والمكانية، والله منزّه عن ذلك.
إذا. لا بدّ من الصيرورة إلى المجاز، فبابه واسع، وميدانه فسيح وليكن اختيارنا لتحديد معنى (النزول القرآني) بالإعلام به، إمّا بواسطة جبريل وإمّا، بواسطة ما يدلّ عليه من ألفاظ حقيقية- كإنزاله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
ويكون بين الحقيقة والمجاز علامة لازمة، وهي الإعلام بالشيء.
ثانيا: تنزلات القرآن
ولم يكن نزول القرآن بنمط واحد، وإنّما كان له أنماط ثلاثة:
التنزل الأول: تنزّل إلى اللوح المحفوظ وهذا التنزل له، لم يطّلع على حقيقته أحد، فهو غيب من غيوبه سبحانه، إلّا من أطلعه عليه، وتميّز هذا التنزل بأنه: نزل جملة واحدة.
ولم يتنزل مفرقا.
ودليله قوله تعالى ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [4].
حكمة هذا النزول:
وليس في أفعال الله، ما يوحي بالعبث، وإنّما فعله سبحانه، وفق الحكمة، وما يصلح شأن الخلق، فاللوح المحفوظ، هو السجلّ الجامع لكلّ ما قضى الله وقدّر، وما هو كائن، وما كان، وما سيكون.
فالإيمان به يبعث الطمأنينة في النفس، والثقة بكل ما يصدر عن الربّ سبحانه كما يحمل الناس على الرضا والسكون، تحت سلطان القدر والقضاء.
ومن ثمّ تهون المصيبة، ويقوى صاحبها، ويزداد ثباتا، فيتفانى في الطاعة- مع الرضا- لأوامر ربّه.
قال الله تعالى: ﴿ ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ﴾ [5].
وإذا صدّق الإنسان بهذه العقيدة، فإنّه سيستقيم على الجادّة، ويؤثّر في مجالات الحياة، ما من شأنه إسعاد البشر.
التنزّل الثاني: تنزّل إلى بيت العزّة ثم التنزل الثاني إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، وفي ليلة واحدة، قد وصفت
بالليلة المباركة، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ﴾ [6].
كما وصفت بليلة القدر. قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [7].
وهي من ليالي شهر رمضان. كما قال الله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ … ﴾ [8].
وجاءت السنة لتؤكّد على ما ألمحت إليه الآيات السالفة، في تحديد معنى التنزّل الثاني، وهي سنّة صحيحة.
1 – فقد أخرج الحاكم بسنده .. عن ابن عباس. قال:
[فصل القرآن من الذكر، فوضع في بيت العزّة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم].
2 – وأخرج النسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس أنه قال: [أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة].
ثم قرأ ﴿ وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾ [9].
و ﴿ وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ﴾ [10].
3 – وأخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما، عن ابن عباس قال:
[أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض].
4 – وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود. فقال:
- أوقع في قلبي الشكّ، قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ البقرة/ 185/. وقوله ﴿ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر ﴾/ 1/.
وهذا أنزل في شوال وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم وصفر، وشهر ربيع؟!
فقال ابن عباس: [إنّه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة، ثمّ أنزل على مواقع النجوم [11] رسلا [12] في الشهور والأيام].
ويقول السيوطي عن هذه النصوص: «وهي أحاديث موقوفة على ابن عباس، غير أنّ لها حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما هو مقرّر، من أنّ قول الصحابي ما لا مجال للرأي فيه، ولم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات، حكمه حكم المرفوع» [13]
التنزّل الثالث: تنزّل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم منجّما وهو التنزّل الأخير، وكان من بيت العزّة إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام، فشعّ النور على العالم، واهتدى به من اهتدى وضلّ من ضلّ.
ودليله: قوله تعالى:﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾
[1] الإسراء/ 105/.
[2] المؤمنون/ 29/.
[3] فاطر/ 27/
[4] البروج/ 22/.
[5] الحديد/ 22، 23/.
[6] الدخان/ 3/.
[7] القدر/ 1/.
[8] البقرة/ 185/
[9] الفرقان/ 33/.
[10] الإسراء/ 106/
[11] على مواقع النجوم: مثل مساقطها.
[12] رسلا: رفقا.
[13] الإتقان: (1/ 38).