النصب بغير إضمار أن عند جماعة من البصريين
النصب بغير إضمار أن عند جماعة من البصريين
نسَب البطليوسي[1] وأبو البركات ابن الأنباري[2] والرضي[3] – إلى أبي عمر الجرمي (ت225هـ) أنه ذهب إلى أن المضارع المنصوب بعد واو المعية منصوب بالواو نفسها، وذكروا أنه لم يقُل بهذا غيره من البصريين، لكن الذي يظهر أن القول بنصب المضارع بغير إضمار (أن) لم يكن غريبًا عند البصريين أنفسهم، فضلًا عن الكوفيين، فالطبري يقول في إعراب قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 42]، أن المضارع (وتكتموا)؛ إما أن يكون “مجزومًا على العطف، أو منصوبًا على المعنى الذي يسميه النحويون صرفًا”[4].
فالطبري وإن يُعد من أتباع الكوفيين، أوحى بعبارته المذكورة العامة إلى أن نصب المضارع (تكتموا) في هذه الآية لم يكن محصورًا عند الكوفيين.
وقد وجدتُ الزجاج تطرَّق إلى إعراب هذه الآية، وذكر عن المضارع نفسه أنه “يصلح أن يكون نصبًا… ومذهب الخليل وسيبويه والأخفش وجماعة من البصريين أن جميع ما انتصب في هذا الباب فبإضمار (أن)”[5].
فلفظه “وجماعة من البصريين” إشارة واضحة منه إلى أن هناك من غير هذه الجماعة مَن قال بالنصب بغير إضمار (أن).
كما أن الزجاج مع أنه ينقل مذهب البصريين الشائع[6]، أجاز نصب المضارع في قوله تعالى: ﴿ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ﴾ [البقرة: 188]، بالواو، أو بمعنى الصرف[7]، وذكر أن فتح المضارع في قوله تعالى: ﴿ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142]، كان “على النصب بالواو”[8].
وذكر أبو جعفر النحاس أنك إذا قلت: لا تضرب زيدًا وتأخذَ ماله، نصبت (تأخذ) بواو الصرف[9]، وذكر الزجاجي – وهو بصدد إعراب المضارع المنصوب بعد الواو – “أن جميع ما انتصب من الجوابات بالفاء والواو، فإنما تُنصب لمخالفته الثاني الأول، وأنه لا يمكن عطفه عليه”[10].
بل قد صرَّح بوجوب نصب المضارع بالواو نفسها، في نحو: لا تأكل السمك وتشربَ اللبن، فقد جعل الواو والفاء ناصبتين للفعل في جواب الأمر، والنهي، والتمني والعرض، والنفي والاستفهام والدعاء[11].
وذكر البطليوسي: “أن ظاهر كلام أبي القاسم هذا، يوهم أن الواو تنصب الفعل المستقبل بنفسها دون إضمار (أن) وكذلك قال في كتابه الموضوع في معاني الحروف… وهذا صريح مذهب الكوفيين”[12].
وكذلك نفى الحيدرة اليمني أن يكون المضارع منصوبًا بـ(أن) مضمرة، وأكد أنه منصوب بالواو نفسها[13]، كما أنه نفى أن تكون هذه الواو واو عطفٍ، بل قال عن واو (وتأتي مثله)، و(وتشرب اللبن): إن “أصل هذه الواو على تقدير: وأن أفعل، فحُذفت (أن) وأُقيمت الواو مقامها، فدلت عليها، وأَصرفت العمل إلى نفسها، فصارت العاملة دون (أن)؛ لأنه لا يجوز إعمال الحروف محذوفة”[14].
مما سبق ذكره يتضح أن نصب المضارع بواو المعية ذاتها، أو بمعنى الصرف أو الخلاف، أي: نصبه بغير إضمار (أن) – لم يقل به الجرمي وحده كما نُسب إليه، وبهذا المذهب تكون هذه الطائفة من النحويين البصريين أيَّدوا صراحةً أن واو المعية هنا قد دخلت على جملة فعلية حقيقية، ليست مصدرًا مؤولًا بمنزلة المفرد لتجريدها من إضمار (أن) المصدرية.
وهكذا نرى أن فكرة مجيء المفعول معه جملة، باتت ليست أمرًا غريبًا أو شاذًّا، أو لم يقل به إلا صدر الأفاضل، بل هذا ما استُنبِط من أقوال جمهور النحاة، وما دل عليه وتضمَّنه مذهب الكوفيين، وجماعة من البصريين.
المصدر الألوكة
[1] الحلل، ص254-255.
[2] الإنصاف 2/ 555.
[3] شرح الرضي 4/ 54.
[4] تفسير الطبري 1/ 569.
[5] معاني القرآن وإعرابه 1/ 94.
[6] معاني القرآن 1/ 406.
[7] معاني القرآن 1/ 246.
[8] معاني القرآن 1/ 486.
[9] التفاحة في النحو، ص19.
[10] الجمل للزجاجي، بتحقيق أبي شنب، ص203.
[11] حروف المعاني، ص38-39، والجمل بتحقيق أبي شنب ص198، وبتحقيق الحمد، ص187، والزجاجي في الجمل صرح بنصب المضارع بالواو ونفسها في نحو: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، إلا أنه أجاز نصبه بإضمار أن في نحو: ولبس عباءة وتقر عيني.
[12] الحلل، ص254-255.
[13] كشف المشكل، ص544.
[14] المصدر نفسه، ص547.
