دروس في النقد والبلاغة (الدرس الرابع: الجناس)
الدرس الرابع: الجناس
(1) قال تعالي: ﴿ ويومَ تقومُ الساعةُ يُقسمُ المجرمونَ ما لبِثوا غيرَ ساعَةٍ﴾.
(2) قالَ تعالي: ﴿ وجئتُّكَ مِن سبأٍ بنبأٍ يقينٍ ﴾.
(3) قالَ تعالي: ﴿ ذلكم بما كنتم تفرحونَ في الأرضِ بغيرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنتم تمرحونَ ﴾.
(4) قالت الخنساء:
إِنَّ البكاء هو الشفاء *** من الجوي بينَ الجوانح
(5) قالَ الشاعر:
نسيم الروض في ريحِ شمال *** وصوب المزن في راحٍ شَمول
(6) قال الشاعر:
ولم أر كالمعروفِ تُدْعَى حقوقُه *** مغارِمَ في الأقوامِ وهي مغانِم
نُلاحظِ في المثال الأوَّل أَنَّ كلمة (الساعة) استعملت مرتين بمعنيين مختلفين، وإيراد الكلام على هذا الوجهِ يُسمي (جِناسًا).
وللجِناس صورة أخري واضحة في الأمثلة الأخرى، حيث يختلف اللفظان اختلافًا مَا في عدد الحروف (الجوي – الجوانح)، ونوعها (سبأ – نبأ، تفرحونَ – تمرحونَ، ريح – راح، شَمال – شَمول، مغارم – مغانم)، وإِذَا اختلفت الكلمتان في نوعِ الحروفِ أو عددها سُمّى الجِناس (ناقصًا).
وَإِذَا استعملت كلمة في معنيين متغايرينِ سُمّي ذلكَ جناسًا (تامًّا).
ولنتأمل في بعضِ النماذج السالفةِ:
في المثال الأوَّل يُقصد بالساعةِ الأولي:
البعث المفاجئ، والساعة الثانية: زمنًا قصيرًا. والبعث صورة هائلة مفزعة مفاجئة تخيل إلى المجرم لما يشغله من أهوالها أَنَّه لم يقض في حياتهِ الدنيا إِلَّا زمنًا قصيرًا. لذلكَ نتجَ عَن استعمال لفظ الساعة في كل من المعنيين أثرَ المفاجأة، وهو لا يتم لو أخذ التعبير صورة أخري مثل: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمونَ مَا لبثوا لحظة).
وفى النموذج الثاني:
تري كلمة (النبأ) مستقرة متمكنة، وهي بلا ريب أشد ملائمة من كلمة (الخبر)، فالنبأ خبر ذو شأنٍ وله قوة وفيه غرابة، ومن المؤكد أَنَّ الجناس يذكي هذه المعاني، فهذا الرنين الصوتي ذو وقعٍ ملائم لحالِ قائلهِ، بل يكاد يفصح عن لهجة القائل ونبراتهِ الدالة على انفعالهِ بالخبر العظيم، فالجناس دَلَّ على نوع الخبر ومانتهِ من نفس صاحبهِ.
وهذان الجانبان يغذوانِ المعني.
أَمَّا الجناس في النموذج الثالث
فيعبر عَن عجب المفسدين ورضاهم عن فسادهم ويصور غلوهم وإسرافهم.
والخنساء في النموذج الرابع
تحكي حزنها وآلامها، وفى مجال الحزن تنساق كلمتا (الجوي – والجوانح) كما تتابع المفاجأة وآثارها في وصف البعثِ، وفى التشابه بينَ (الجوي – الجوانح) إيحاء بتغلغل الحزن وتعمّقه في نفسها وجسدها، وقد أعطي تقارب الكلمتين المتجانستين –خاصّة– للحزن صفة الغلبة على الجوانح واستبدادهِ بها.
والخلاصة
أَنَّ الجناس كالسجعِ يزيد أداء الكلام لمعناه حسنًا، وخبره ما عبر عن معني لا يتم دونه.
الالوكة