شروط الحذف في النحو

أ. د. عبدالله أحمد جاد الكريم حسن

شروط الحذف في النحو

الحَذْفُ لُغَةً:

 حَذْفُ الشيء؛ يقال: حَذَفَ ذنب الشيء: إذا قطع طرفه؛ وفرس محذوف الذنب، وزقٌّ محذوف: مقطوع القوائم، وحذف رأسه بالسيف: ضربه فقطع منه قطعة، حذفه يحذفه: أي أسقطه، ومن شعره: أخذه، وبالعصا رماه بها… [1].

الحَذْفُ اصْطِلاحًا:

 قصد به النحاة والعلماء ” حَذْفُ العَامِلِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهِ الإعْرَابِيّ؛ أَوْ هُوَ: إِسْقَاطُ صِيَغٍ – أَلْفَاظٍ – دَاخِلَ التَرْكِيْبِ فِي بعضِ المَوَاقِفِ اللُّغَوِيَّةِ، وهذه الصِّيَغُ التي يَرَى النُّحَاةُ أنَّها محذوفةٌ تَلْعَبُ دَوْرًا في التركيبِ في حَالَتَيّ الذِّكْرِ والإسْقَاطِ، وهذه الصِّيَغُ يُفْتَرَضُ وجُوْدُهَا نَحْوِيًا لِسَلامَةِ التركيبِ وتطبيقًا للقواعِدِ، ثُمَّ هي موجودةٌ ويُمْكِنُ أَنْ تكونَ مَوْجُوْدَةً في مواقِفَ لُغَوِيَّةٍ مختلفةٍ “[2].

وبعضهم يطلق الحذف علي “ما لا يبقى له أثرٌ في اللفظِ “[3]، ويُمْكِنُ أن يُطلق علي ” حذف العامل وتدع ما عمل فيه علي حاله من الإعراب[4]”، ويُمكن القول هنا: إنَّ المحذوفَ شبه معروف على الرُّغم من غيابه؛ ويُمكن تقديره بسهولة لأنَّهُ مفهومٌ من السِّيَاقِ. ويري ابن هشام أنَّ “الحذف الذي يلزم النحوي النظر فيه هو ما اقتضته الصِّنَاعَةُ، وذلك بأنْ يجد خبرًا بدون مبتدأ أو بالعكس، أو شرطًا بدون جزاء أو بالعكس، أو معطوفًا أو معمولاً بدون عامل”[5].

 

 

ويَشْتَرِطُ النُّحَاةُ والعلماءُ شروطًا لوقوع الحذف النحويّ، وتتلخص فيما يلي:

1- وجودُ دَلِيْلٍ مَقَالي: وهو كلام يدل علي المحذوف؛ كما في قوله تعالي: ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا ﴾ [النحل: 30] [6]؛ أي: أنزل خيرًا، فحذف الفعل للدليل المقالي.

2- وجودُ دليلٍ حَالي: وهذا يُفْهَمُ من سياق الكلام وحال المتكلمين؛ كما في قوله تعالي: ﴿ قَالُوا سَلَامًا ﴾[7].

3- وضوحُ المعني وأَمْنُ اللَّبْسِ: وهذا من أهم الشروط التي يجب مراعاتها مع كُلِّ ما يتصل بالنشاط اللغوي وظواهره المختلفة؛ كالاختصار، والاستغناء، والحذف، والتقديم، والتأخير، والتضمين، والحمل بأنواعه، وغير ذلك.

4- ‏‏ألا يكون مُؤكَّدًا: لأنَّ الحذفَ منافٍ للتأكيد إذْ الحذفُ مَبْنِيٌّ على الاختصار والتأكيد مَبْنِيٌّ على الطول، ومن ثَمَّ رَدَّ الفارسيّ على الزَّجَاجِ في قوله في ﴿ إنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ﴾ أنَّ التقدير‏:‏ إنَّ هذان لهما ساحران، فقال‏:‏ الحذف والتوكيد باللام متنافيان وأمَّا حذفُ الشيء لدليلٍ وتوكيده فلا تنافي بينهما؛ لأنَّ المحذوفَ لدليلٍ كالثابت‏.‏

5- ‏ ألا يُؤَدِّي حَذْفُهُ إلى اخْتِصَارِ المُخْتَصَرِ: ومن ثَمَّ لم يُحْذَفْ اسمُ الفِعْلِ؛ لأنَّهُ اخْتِصَارٌ للفِعْلِ‏، وقال ابن جني في المحتسب‏:‏ أخبرنا أبو علي قال‏:‏حذف الحرف ليس بقياسٍ؛ لأنَّ الحروفَ إِنَّمَا دخلت الكلامَ لِضَرْبٍ من الاختصارِ، فلو ذَهَبْتَ تحذفها لكنت مُخْتَصِرًا لها هي أيضًا واختصارُ المُخْتَصَرِ إِجْحَافٌ بِهِ حذف[8].

ويرى ابن هشام أنَّه ” جَرَتُ عَادَةُ النَّحْوِيِّينَ أنْ يقولوا يحذف المفعول اختصارًا واقتصارًا، ويُريدون بالاختصارِ الحذفَ لدليلٍ وبالاقْتِصَارِ الحذفَ لغَيْرِ دَلِيْلٍ، ويمثلونه بنحو: كلوا واشربوا؛ أي: أوقعوا هذين الفعلين “[9].

هذا ويشيعُ الحذفُ ومظاهرُهُ في معظمِ أبوابِ النَّحْوِ العربّي والصرفِ؛ وذلك لأنَّ ” العربَ قد حذفت الجملةَ والمفردَ والحرفَ والحركةَ، وليس من شيءٍ من ذلك إلا عن دليلٍ عليه، وإلا كان فيه ضربٌ مِنْ تَكْلِيْفِ عِلْمِ الغَيْبِ في معرفته”[10]. وتأتي أهميةُ القولِ بالحذف في أنَّه ” أحدُ المَطَالِبِ الاستعمالية؛ فقد يعرض لبناء الجملة المنطوقة أن يحذف أحد العناصر المُكونة لهذا البناء – أو الجملة المكتوبة – وذلك لا يَتِمُّ إلا إذا كان الباقي في بناء الجملة بعد حذفها مُغْنيًا في الدلالة كافيًا في أداء المعنى، وقد يُحذفُ أحدُ العناصرِ؛ لأن هناك قرائنُ معنوية أو مقالية تشير إليه[11]” كما سبق أن ذكرنا، ولذلك يقول ابن جني:”إنَّ العربَ إذا حذفت من الكلمة حرفًا – أو حذفت الكلمة كُلَّهَا – راعت حال ما بقى منه، فإنْ كان مما تقبله أمثلتهم أقروه على صورته “[12]؛ لأن “حذف ما حُذِفَ من الكلمة يبقي منها بعده مثالاً مقبولاً، لم يكن لك بدٌّ في الاعتزام عليه، وإقراره على صورته تلك البتة”[13].

ومن العلماء مَن يربط بين الحذف والاختصار ومنهم مَن يفرِّق بينهما؛ وذلك لأن الاختصار: “وضع صيغة على وزن يسمح به نظام اللغة؛ لتقوم مقام كلام آخر على سبيل الإيجاز، وهو بهذا يختلف عن الحذف الذي هو إسقاط لبعض العناصر المكونة للصيغة أو الكلمة”[14]. وقد امتدح النحاةُ والعلماءُ الحذفَ في اللغة؛ فهو عندهم ” بابٌ دقيقُ المَسْلَك لطيفُ المأخذِ، عجيبُ الأمرِ، شبيهٌ بالسِّحْرِ؛ فإنَّك ترى أنَّ تَرْكَ الذِّكْرِ أَفْصَحُ من الذكر، والصَّمْتَ عند الإفادةِ أزيدُ للإفادةِ، وتجد أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانًا إذا لم تُبِنْ “[15].

أنْوَاعُ الحَذْفِ[16]:

يكثرُ الحذفُ في اللُّغَةِ العربيةِ، وهو أكثرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى في القرآن الكريم “وهو ينقسم قسمين أحدهما: حذف الجمل، والآخر: حذف المفردات، وقد يرد كلام في بعض المواض-ع ويكون مُشتملاً على القسمين معًا، فأما القسم الأول وهو الذي تحذف منه الجمل فإنَّهُ ينقسمُ إلى قسمين أيضًا؛ أحدهما:حذف الجمل المفيدة التي تستقل بنفسها كلامًا؛ وهذا أحسنُ المحذوفاتِ جميعها وأدَلُّهَا على الاختصارِ”([17]) ومن أمثلة الحذف ما يلي:

حذف حرف من الكلمة: لَمْ يَكُ؛ أي: يكون، ولم أَبْلُ،..الخ.

حذف الكلمة من الجملة: ومنه قوله تعالى ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ﴾ [يوسف: 82]  [18].

حذف الجملة بأسرها: قول الرسول الكريم: [التمس ولو خاتمًا من حديد].

حذف أكثر من جملة: والشواهدُ على ذلك كثيرة ٌ([19]).ويتأكَّدُ الترابطُ العضويّ بين الحذف والاختصار لدى العرب؛ لأنَّ هذه الأمورَ تطلعنا ” علي حقيقةِ العربيةِ، وميلها إلي الإيجاز الشديد، وأنَّ المحذوفاتِ في كتابِ اللهِ تعالي – لعلم المُخَاطَبِيْنِ بها – كثيرة ٌجِدًا، وهي إذا أُظْهرت تَمَّ بها الكلام، وحذفُها أوجزُ وأبْلَغُ “.[20]

وقد اهتمَّ النُّحَاةُ والبلاغيون بدراسةِ الحذف، ولكننا نجد أنَّ ” نظرة البلاغيين للحذف نظرةٌ جماليَّةٌ دلاليةٌ؛ أي: للقيمة المعنوية الجمالية… وهى ليست نظرةٌ إلى كَمِّ التركيب أو قصره أو طوله أو إلى العامل أو المعمول أو تقدير المحذوف، فمجالُ الأسلوبِ وحُسْنُ العبارةِ، ووقعُ ذلك في نفسِ السَّامِعِ هي الأساسُ في تناولِ البلاغيين لظاهرةِ الحَذْفِ”[21].

ويُعدُّ الحذفُ الرافد الأول والأشهر للاختصارِ، وقد ربط النحاة بين الحذف والاختصار، وقد فرَّق بعضهم بينهما، وفى ذلك يروى البغدادي عن السيد المرتضى في أماليه معلقاً على قولهم (حول قبر أبيهم) قائلاً:” هذا من الاختصار الذي ليس فيه حذف، أراد أنهم أعزاء مُقيمون بدار ملكهم لا ينتجعون كالأعراب، فاختصر هذا المبسوط في قوله (حول قبر أبيهم)، وقال: والاختصار غير الحذف، وقومٌ يظنون أنَّهما واحدٌ، وليس كذلك، لأنَّ الحذفَ يتعلق بالألفاظ؛ وهو أن تأتى بلفظٍ يقتضي غيره ويتعلق به ولا يستقلُّ بنفسه، ويكون في الوجود دلالةٌ على المحذوف فيقتصر عليه طلباً للاختصار، والاختصارُ يرجع المعاني، وهو أن تأتى بلفظٍ مفيدٍ لمعانٍ كثيرةٍ لو عبر عنها اختصاراً لاحتيج أكثر من ذلك اللفظ، فلا حذفٌ إلا وهو اختصارٌ، وليس كُلُّ اختصارٍ حذفاً “[22].

وقد وقع خلافٌ حول علاقة الحذف بالاختصار، فمنهم مّنْ يرى أنَّ “الحذفَ من جنسِ الاختصارِ[23]”، ويؤكد ابن جني على ذلك بقوله: “والحذفُ مِنْ مَظَانِّ الاختصارِ[24]”. ويؤكد ابن الشجري على ذلك في قوله: “الحذفُ اختصارًا من أفصحِ كلامِ العربِ؛ لأنَّ المحذوفَ كالمنطوق به من حيث كان الكلام مُقتضيًا له”[25]، ومنهم مَنْ يرى أنَّ الحذفَ هو الاختصارُ، ولكنَّ الصوابَ فيما أرى أنَّ الحذفَ هو أحد روافد الاختصار ومظاهره ويرتبطان بعلاقة عضوية قوية لازمة. فَكُلُّ حذفٍ يمكن أن يكون اختصارًا وليس كُلُّ اختصارٍ حذفًا.

 

[1] ينظر: لسان العرب، أساس البلاغة، الصحاح مادة (حذف).

[2] الحذف والتقدير لعلي أبو المكارم، (ص196).

[3] البرهان في علوم القرآن للزركشي (3 /102).

[4] الحذف والتقدير، (ص 205).

[5] مغني اللبيب (2 /176).

[6] النحل، الآية (30).

[7] الفرقان، الآية (63).

[8] الأشباه (1 /56).

[9] مغني اللبيب (1 /797).

[10] مغني اللبيب (2/ 692).

[11] في بناء الجملة العربية لحماسة عبد اللطيف، (ص 346).

[12] الخصائص (3 /115).

[13] الخصائص (3/ 113).

[14] الحذف والتقدير في بنية الكلمة. رسالة دكتوراه لكمال سعد، دار علوم القاهرة، سنة 1993م، (ص8).

[15] دلائل الإعجاز (ص146)، ينظر: الخصائص (2 /432).

[16] الأشباه (1 /51، 52)، المثل السائر (2 /232).

[17] المثل السائر، لابن الأثير (2 /77).

[18] سورة يوسف، الآية (82).

[19] ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة (1 /177).

[20] الرد علي النحاة، (ص69) .

[21] الحذف والتقدير في كتاب سيبويه، رسالة دكتوراه لفكري محمد أحمد سليمان، كلية الألسن، جامعة عين شمس، القاهرة 1988م، (ص249).

[22] خزانة الأدب (4 /387).

[23] اللباب (1 /207).

[24] الخصائص (3 /95).

[25] الأمالي الشجرية (2 /123).

ترك تعليق