أ.د. عبدالحكيم الأنيس
هذه الواو لا موضع لها
الواو حرفٌ مهم، له في العربية مكان كبير، وأفرده بعضُ العلماء بالتأليف[1]، وله في “مغني اللبيب” صفحات ممتعة…
والذي أريد أن أقوله هنا: إن هذا الحرف قد يُزَجُّ به في موضع زجاً، فيُفسد المبنى والمعنى من غير إرادةٍ منه لذلك، واللوم على مَنْ زجه في ذلك الموضع.
وأمثِّل على ذلك بهذا المثال:
للإمام الحافظ أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت: 463هـ) كتابٌ رائعٌ مفيدٌ مهمٌّ سمّاه: “اقتضاء العلمِ العملَ“، وأداره على معنى كبير هو أن العلم يقتضي من صاحبه العملَ به.
ولكن هذا العنوان – وهو عنوانٌ ناصحٌ دالٌّ كاشفٌ – أصابه الحيفُ حين زُجَّت به واوٌ لا موضع لها فيه، في عدد من الكتب، وأصبح: “اقتضاء العلم والعمل“، وبات السامع يَسأل: ماذا يقتضي العلمُ والعملُ؟ ماذا يريدان؟ أين المفعول به؟
وهكذا ضاع المعنى الذي أراده المؤلِّف.
جاءت هذه الواو المزيدة في:
1- المنتخب من خزائن الكتب في حلب، الرقم (139).
2- ذيل التقييد للفاسي (1/445)، و(1/489). وجاء على الصواب في سبعة مواضع في الجزء الثاني منه.
3- حصر الشارد من أسانيد محمد عابد (1/52) و(2/719).
4- الأعلام للزركلي (1/172).
والصواب: “اقتضاء العلمِ العملَ“، وأما “اقتضاءُ العلمِ والعملِ” فهذا يعني أنهما يقتضيان شيئاً، ويمكن أن يقال: إنهما يقتضيان الإخلاص. نعم، ولكن هذا شيءٌ آخر لم يقصده المؤلِّف في هذا الكتاب…
وقد جاء العنوان بهذا اللفظ في النسخة الخطية الصحيحة المحفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق برقم (257-أدب)، وهي بخط المحدِّث الحافظ الرحال محمد بن عبد المنعم بن عمار بن هامل الحراني الحنبلي نزيل دمشق (603-671 هـ)، وقرأها على شيخه الحافظ أبي الحجاج يوسف بن خليل الدمشقي سنة (635هـ) بمدينة حلب.
وجاء العنوان كذلك في السماعات الموجودة في هذه النسخة،[2] وفي كثيرٍ من الكتب التي ذكرته.
وحبذا أن يقرأ مَنْ يريد مقدمةَ المؤلف، وأبوابَ الكتاب، ليتأكد من هذا، بل حبذا أنْ يقرأ الكتاب كلَّه[3]…
◘ ◘ ◘ ◘ ◘
ومن الأمثلة على الواو المزيدة خطأً ما حصل في عنوان كتاب الحافظ ابن أبي الدنيا:
“الاعتبار وإِعقابُ السرورِ الأحزانَ“.
والمعنى واضح وهو أن أيام السرور في الدنيا تُعْقِبُ الأحزانَ، فلا يغتر بها الإنسان ولا يأمن لها، ولكن طُبِعَ الكتاب بهذا العنوان:
“الاعتبار وأَعقاب السرور والأحزان“[4].
وهو غير مراد من الكتاب، إنما المرادُ المعنى الذي ذكرته، وهو بيانُ ما يُعقبه السرورُ مِنْ حزن في حياة الناس في هذه الدنيا، حتى لا يطمئنوا لها ولا يُخدعوا بها…فالواو الثانية خطأ، وصواب: “أعقاب” أن تكون بكسر الهمزة.
إنَّ الدقة في أداء عناوين الكتب مفتاحُ فهمها، وإذا فسد المفتاح لم يُفتح الباب، فلم تَتضح الفصول، ولم تَظهر المباحث، ولم تُعْرف الأبواب.
[1] وهو العلائي في “الفصول المفيدة في الواو المزيدة”، وهو مطبوع.
[2] انظر ص 10-13 من النسخة المطبوعة بتحقيق الشيخ الألباني ط مكتبة المعارف.
[3] ولاستكمال الفائدة أشير إلى أنَّ هذا العنوان ورد بصيغة: “اقتضاء العلم بالعمل” في بعض الكتب، منها: “الدر المنثور” (1/157) ط دار الفكر، و”سلم الوصول إلى طبقات الفحول” (1/177)، ولعله من تصرف النساخ، أو خطأ مطبعي. وقد جاء على الصواب – أي بلا باء – في “الدر المنثور” (1/344-345) من طبعة الدكتور عبد الله التركي.
وجاء في بعض الكتب: ” اقتضاء العلم للعمل”، منها: “الوافي بالوفيات” (2/446)، و”المغني” للعراقي (1/40)، و”الدرر الكامنة” (5/15)، – وجاء في موضعين آخرين فيه على الصواب -، و”فيض القدير” (3/253)، ولعله من تصرف النساخ أيضاً، والمؤلف لم يرده، وإن كان له وجه.