صهيب حسن محمد
العمل والصنع والجعل والفعل
الحمد لله رب العالَمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالَمين، سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وبعد:
فقد سألني مولانا العالم المربي فضيلة الشيخ محمد يحيى الكتاني – حفظه الله – وهو يشرح كتاب “إيقاظ الهمم في شرح الحِكم العطائية” لابن عجيبة – رحمه الله – أن أبحث في الفرق بين العمل والصُّنع والجعل والفعل تعليقًا على قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جعَل الرُّوح والراحة في الرِّضا واليقين))، فأجبتُه إلى ذلك، فقلت وبالله التوفيق:
العمل هو:
إيجاد الأثر في الشيء، يقال: فلان يعمل الطين خزَفًا، وقال الله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]؛ أي: خلَقكم وخلَق ما تؤثِّرون فيه بنَحتكم إياه، أو صَوْغكم له، إلى غير ذلك.
الصُّنع هو:
ترتيبُ العمل وإحكامُه على ما تقدَّم علمٌ به، وبما يوصل إلى المراد منه، يقال للنجار: صانع؛ لأن النجار قد سبق عِلمه بما يريد عمله من سرير أو باب، وعلم بالأسباب التي توصل للمراد من ذلك.
الجَعل هو:
بالفتح مصدر بمعنى الخَلْق والتصيير، الأول تامة والثاني ناقصة، ولهذا قالوا: إنه على نوعين: (جَعْل بسيط) ويسمَّى جَعلاً إبداعيًّا أيضًا، و(جعل مركب) ويسمَّى جعلاً مؤلَّفًا واختراعيًّا أيضًا.
أما الجَعل البسيط: فهو جعل الشيء، وإيجاد الأَيْس من الليس.
وأما الجَعْل المؤلَّف: فهو جعل الشيء شيئًا، وتصييره إياه.
والجَعْل هو تغييرُ صورة الشيء بإيجاد الأثر فيه، وبغير ذلك، ويأتي بمعنى الإحداث، والاتصال، والحُكم، والجَعْل: أصل الدلالة على الفعل؛ لأنك تعلَمه ضرورة؛ وذلك أنك إذا رأيت دارًا مهدَّمة ثم رأيتها مبنيَّة علِمت التغير ضرورة، ولم تعلم حدوث شيء إلا بالاستدلال.
الفعل هو:
الهيئة العارضة للمؤثر في غيره بسبب التأثير أولاً، كالهيئة الحاصلة للقاطع بسبب كونه قاطعًا.
الفروق بين تلك الألفاظ:
• الفَرْق بين الصُّنع والفعل والعمل: قال الراغب في الفرق بينها: الفعل: لفظ عام، يقال لِما كان بإجادة وبدونها، ولِما كان بعِلم أو غير عِلم، وقصدٍ أو غير قصد، ولِما كان من الإنسان والحيوان والجمَاد.
وأما العمل فإنه لا يقال إلا لِما كان من الحيوان دون ما كان من الجماد، ولِما كان بقصد وعِلم دون ما لم يكُنْ عن قصدٍ وعِلم.
قال بعض الأدباء: العمل مقلوبٌ عن العلم؛ فإن العِلمَ فعلُ القلب، والعمل فعل الجارحة، وهو يبرز عن فعل القلب الذي هو العِلم وينقلِبُ عنه.
وأما الصُّنع فإنه من الإنسان دون سائر الحيوانات، ولا يقال إلا لِما كان بإجادة؛ ولهذا يقال للحاذقِ المجيد، والحاذقة المجيدة: صَنَع كبَطَل، وصَنَاع كسَلام.
والصُّنع يكون بلا فِكر لشرف فاعله، والفعل قد يكون بلا فكر لنقص فاعله، والعمل لا يكون إلا بفِكر لتوسُّط فاعله؛ فالصُّنع أخصُّ المعاني الثلاثة، والفعل أعمُّها، والعمل أوسطها؛ فكلُّ صُنع عمل، وليس كلُّ عمل صُنعًا، وكل عمل فعل، وليس كلُّ فعل عملاً.
وفارسيَّة هذه الألفاظ تنبئ عن الفرق بينها، فإنه يقال للفعل: (كار)، وللعمل: (كردار)، وللصُّنع (كيش).
• الفَرق بين العمل والفعل: أن العملَ إيجاد الأثَر في الشيء، يقال: فلان يعمل الطين خزَفًا، ويعمل الخُوص زِنْبيلاً، والأديم سِقاءً، ولا يقال: يفعل ذلك؛ لأن فعل ذلك الشيء هو إيجاده على ما ذكرنا، وقال الله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96]؛ أي: خلَقكم وخلَق ما تؤثِّرون فيه بنَحْتِكم إياه، أو صَوغِكم له، وقال البلخيُّ رحمه الله تعالى: مِن الأفعال ما يقعُ في علاج وتعَبٍ واحتيال، ولا يقال للفعل الواحد: عَمَل، وعنده أن الصفةَ لله بالعمل مجازٌ، وعند أبي علي رحمه الله: أنها حقيقة، وأصلُ العمل في اللغة: الدؤوب، ومنه سُمِّيت الراحلة: يَعْمَلَة، وقال الشاعر:
وقالوا: قِفْ ولا تعجَل =وإن كنَّا على عَجَلِ
قليلٌ في هواك اليو =م ما نلقَى من العمَلِ
أي: من الدؤوب في السير، وقال غيره:
والبرق يُحدِث شوقًا كلما عمِلا
ويقال: عمِل الرجل يعمَل واعتمل: إذا عمِل بنفسه، وأنشد الخليل:
إن الكريمَ وأبيك يعتمِلْ =إن لم يجِدْ يومًا على مَن يتَّكِلْ
الفَرْق بين الصُّنع والعمل:
أن الصُّنع ترتيب العمل وإحكامُه على ما قدم عِلم به وبما يوصل إلى المراد منه؛ ولذلك قيل للنجار: صانع، ولا يقال للتاجر: صانع؛ لأن النجار قد سبق عِلمه بما يريد عملُه من سرير أو باب، وبالأسباب التي توصل إلى المراد من ذلك، والتاجر لا يعلم إذا اتَّجَر أنه يصل إلى ما يريده من الربح أو لا؛ فالعملُ لا يقتضي العِلم بما يعمل له، ألا ترى أن المستخرِجين والضُّمَناء والعشَّارين من أصحاب السُّلطان يُسمَّوْن عمَّالاً ولا يُسمَّون صنَّاعًا؛ إذ لا عِلم لهم بوجوه ما يعمَلون من منافعِ عمَلهم كعِلم النجار أو الصائغ بوجوهِ ما يصنعه من الحُلِيِّ والآلات، وفي الصناعة معنى الحِرفة التي يتكسَّب بها، وليس ذلك في الصُّنع، والصُّنع أيضًا مضمن بالجودة؛ ولهذا يقال: ثوب صنيع، وفلان صنيعةُ فلان: إذا استخصه على غيره، وصنَع الله لفلان؛ أي: أحسن إليه، وكل ذلك كالفعل الجيد.
الفرق بين العمل والجَعْل:
أن العملَ هو إيجاد الأثَر في الشيء على ما ذكرنا، والجَعل تغييرُ صورته بإيجاد الأثر فيه، وبغير ذلك، ألا ترى أنك تقولُ: جعَل الطين خزَفًا، وجعل الساكن متحرِّكًا، وتقول: عمِل الطين خزَفًا، ولا تقول: عمل الساكن متحرِّكًا؛ لأن الحركة ليست بأثرٍ يؤثَّرُ به في الشيء، والجَعل أيضًا يكون بمعنى الإحداث، وهو قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ [الأنعام: 1]، وقوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ﴾ [النحل: 78]، ويجوز أن يقال: إن ذلك يقتضي أنه جعَلها على هذه الصفةِ التي هي عليها، كما تقول: جعلت الطِّين خزَفًا، والجَعل أيضًا يدلُّ على الاتصال؛ ولذلك جعل طرفًا للفعل فتستفتح به؛ كقولك: جعل يقول، وجعَل يُنشد؛ قال الشاعر:
فاجعَلْ تحِلَّك مِن يمينك إنما =حِنْثُ اليمينِ على الأثيمِ الفاجرِ
فدلَّ على تحلل شيئًا بعد شيء، وجاء أيضًا بمعنى الخبرِ في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ﴾ [الزخرف: 19]؛ أي: أخبَروا بذلك، وبمعنى الحُكم في قوله تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾ [التوبة: 19]؛ أي: حكَمْتم بذلك، ومثله: جعَله الله حرامًا، وجعَله حلالاً؛ أي: حكَم بتحليلِه وتحريمِه، وجعلت المتحرِّك متحركًا؛ أي: جعلت مآلَه صار متحركًا، وله وجوه كثيرة أوردناها في كتاب الوجوه والنظائر، والجَعل أصلُ الدلالة على الفعل؛ لأنك تعلمه ضرورة؛ وذلك أنك إذا رأيت دارًا مهدمة ثم رأيتها مبنيَّة علِمت التغيُّر ضرورةً، ولم تعلَمْ حدوث شيء إلا بالاستدلال.
الفروق اللغوية:
أبو هلال العسكري، ودستور العلماء أو جامع العلوم في اصطلاحات الفنون: القاضي عبدربِّ النبي الأحمد نكري، والتعريفات: الجرجاني].