صباح علي السليمان

 

آفاق في القصدية

 

القصدية لغة واصطلاحًا:

القصد لغة معناه: استقامة الطريق: قصد، يقصد، قصدا: فهو قاصد: يقول الله تعالى:﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [النحل: 9 ] أي على الله تبيين الطريق المستقيم والدعاء إليه بالحجج والبراهين الواضحة، ومنها جائر أي: منها طريق قاصد، وطريق قاصد: سهل، وسفر قاصد: سهل قريب، وفي التنزيل: ﴿ لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 42].

 والقصدية اصطلاحًا استطيع أنْ أعرفها بأنها: ” مجموعة من العناصر التي يمتلكها المتكلم من لغة وثقافة وسياق ومنطق لإيصال الفكرة إلى المتلقنين بأسلوب سهل وواضح “.

القصدية في التراث العربي:

لا شك أنَّ التراث العربي سباق إلى تطور اللغويات؛ فاللغة العربية لها عناصرها وابداعاتها قبل بقية اللغات الأخرى، ومن هذه النصوص:

يقول الشاطبي: ” وَكِتَابُ سِيبَوَيْهِ يُتَعَلَّمُ مِنْهُ النَّظَرُ وَالتَّفْتِيشُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِي النَّحْوِ، فَقَدْ نَبَّهَ فِي كَلَامِهِ عَلَى مَقَاصِدِ الْعَرَبِ، وَأَنْحَاءِ تَصَرُّفَاتِهَا فِي أَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا، وَلَمْ يَقْتَصِرْ فِيهِ عَلَى بَيَانِ أَنَّ الْفَاعِلَ مَرْفُوعٌ وَالْمَفْعُولَ مَنْصُوبٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ يُبَيِّنُ فِي كُلِّ بَابٍ مَا يَلِيقُ بِهِ“.

 ومنه قول سيبويه: “ولو قلت: ألقيت زيدًا أم عمرًا كان جائزًا حسنًا، أو قلت: أعندك زيدٌ أم عمرو كان كذلك. وإنما كان تقديم الاسم ههنا أحسن ولم يجز للآخر إلاَّ أن يكون مؤخرًا، لأنه قصد أحد الاسمين، فبدأ بأحدهما، لأن حاجته أحدهما، فبدأ به مع القصة التي لا يسأل عنها، لأنه إنما يسأل عن أحدهما من أجلها، فإنما يفرغ مما يقصد قصده بقصته ثم يعدله بالثاني“.

 وقال ابن السراج: “النحو إنما أريد به أن ينحو المتكلم إذا تعلمه كلام العرب، وهو علم استخرجه المتقدمون فيه من استقراء كلام العرب، حتى وقفوا منه على الغرض الذي قصده المبتدئون بهذه اللغة، فباستقراء كلام العرب فاعلم: أن الفاعل رفع، والمفعول به نصب“.

وذكر ابن جني في: “باب في أغلاط العرب كان أبو عليّ – رحمه الله – يُرى وجه ذلك ويقول: إنما دخل هذا النحوُ في كلامهم لأنهم ليست لهم أصول يراجعونها ولا قوانين يعتصمون بها. وإنما تهجُمُ بهم طباعهم على ما ينطقون به فربما استهواهم الشيء فزاغوا به عن القصد. هذا معنى قوله وإن لم يكن صريح لفظه“.

 وقال الجاحظ: “البيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله، كائنا ما كان ذلك البيان“.

 ويقول ابن سنان الخفاجي: “وفائدة القصد أن تتعلق تلك العبارة بالمأمور وتؤثر في كونه أمرًا له. فالمواضعة تجري مجرى شحذ السكين وتقويم الآلات والقصد يجري مجرى استعمال الآلات بحسب ذلك الإعداد“.

 وقال الجرجاني: “ومعْنى “القَصدِ إِلى معاني الكَلِم”، أنْ تُعْلِمَ السامِعَ بها شيئًا لا يَعْلَمُه. ومعلومٌ أنَّكَ، أيها المتكلمُ، لستَ تقصدُ أن تُعلمَ السامع الكَلِم المفردةِ التي تكلُمُه بها، فلا تقولُ: “خرجَ زيدٌ”، لِتُعْلِمَه معنى “خرَج” في اللغةَ، ومعنى “زيدٌ”. كيفَ؟ ومُحالٌ أن تُكَلِّمَه بألفاظٍ لا يعرفُ هو معانيها كما تعرف. ولهذا لم يكنْ الفِعْلُ وحدَهُ مِن دون الاسم، ولا الاسمُ وحدَه من دون اسمٍ آخَرَ أو فعلٍ، كلامًا. وكنتَ لو قلتَ: “خرَج”، ولم تأتِ باسمٍ، ولا قدَّرْتَ فيه ضميرَ الشيء، أو قلْتَ: “زيد”، ولم تَأْتِ بفعلٍ ولا اسْمٍ آخَرَ ولم تُضْمِرْهُ في نفسك، كان ذلك وصوتًا تصوته سواء، فاعرفه“.

وكذلك التركيب في القصدية يبرز عند القدامى العناية بقصدية المتكلم وفق تغير تركيب الكلام ومنه “جواب أبي العباس للكندي حين سأله قائلًا إني أجد في كلام العرب حشوًا يقولون عبد الله قائم ثم يقولون إنّ عبد الله قائم ثم يقولون إنّ عبد الله لقائم والمعنى واحد وذلك إنْ قال بل المعاني مختلفة فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه وقولهم إنّ عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل، وقولهم إنّ عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر قيام“.

 القصدية عند علماء الغرب:

أمَّا القصدية عند الغربيين فكانت تنحى منحى فلسفيًّا؛ لكثرة المدارس والاتجاهات اللسانية عندهم، فمنها:

قول سيرل بقوله: “القصدية هبْ تلك الخاصية لكثير من الحالات والحوادث العقلية التي تتجه عن طريقها إلى الأشياء وسير الأحوال في العالم أو تدور حولها أو تتعلق بها” والقصدية تبعًا لهذا التعريف تتضمن ظواهر عقلية كثيرة مثل الاعتقاد، والرغبة، والقصد، والأمل، والخوف، والحب، والكراهية، والرغبة الجنسية، والتذكر، والإدراك الحسي، ونحو ذلك. فأنت عندما تملك اعتقادًا، فلابد من أن يكون اعتقادك بأن كذا وكذا هو الواقع.

 أمَّا القصدية عند هوسرل وخاصة في المجال الأدبي فيقول: “إذ أن النص يوجد كموضوع انطولوجي في وعي المؤلف. ويتكون هذا الموضوع من خلال الخبرة الحياتية المباشرة للمؤلف والصورة التي تتشكل في ذهنه عن الواقع وطبيعته ودلالاته المتعددة. ويتوجه المؤلف وبصورة قصدية نحو إعطاء شكل لذلك الموضوع الانطولوجي من خلال اللغة والشكل الفني للعمل الأدبي. وبذلك يكون العمل الادبي هو تجسيد جمالي لصورة الحياة في وعي المؤلف وتكون القصدية هي الوحدة الموضوعية التي تضفي الانسجام والترابط على أجزائه. فالمعنى لا ينبثق من محصلة شبكات العلاقات التركيبية والدلالية للنص، بل يكون وجودا ناجزا ومتعاليا على الوحدات النصية، مكانه هو وعي المؤلف وعلته هي قصدية ذلك المؤلف.

 وكذلك أسهب (جون سيرك) في الكشف أنَّ طبيعة المجال التخاطبي في كتبه وهي القصدية بحث في فلسفة العقل، ورؤية الأشياء كما هي، وألف (هاروبرت) السياق والمضمون، و(غرانت) الوعي والقصدية. وكتابات هؤلاء تنصب أنَّ القصدية قائمة على مفهوم الدلالة فالدلالة لا تقف عند تحليل البنى وعلاقاتها وإنما على مفاهيم القصدية وهذا يمثل العلاقة بين القصدية وأفعال الكلام؛ لأن كل فعل يعبر عن حالة قصدية. وهذا ما حدده (سيرل) في كتابه التعبير والمعنى فلو قال قائل لمستمع: الجو حار هنا فربما يقصد افتح النافذة، أو أطفأ جهاز التدفئة، وهنا تبرز عقلية المستمع في فهم الملفوظات.

 القصدية في الأصول واللغة:

سعى الفقهاء إلى ممارستها -المقاصد– “تطبيقا وتفصيلا، ومارسها الأصوليون تنظيرًا وتأصيلا، مما يحتم أنَّ الشاطبي-مؤسس علم المقاصد- قد استفاد من كلا الفريقين وبنى علمه على ما أصلوه ومهدوه”، حيث ” أفرد لفقه المقاصد فصولا خاصة به، وجعله بابا من أبواب أصول الفقه، فانعكس ذلك على كثير من قواعد الأصول، بما في ذلك التعامل مع دلالات اللغة؛ بل لعل دلالات اللغة كانت خير معين له لاكتشاف هذا النظر الفقهي الدقيق؛ ونظرًا لأهمية مباحث المقاصد، التي أصّل لها الشاطبي فقد جعلها الإمام الطاهر بن عاشور، علمًا قائمًا بذاته، وليس أحد مباحث أصول الفقه“.

 أما أصول مباحث التداولية فقد يجد الناظر منها بغيته في كتب الأصول، وفي كتب اللسانيات، والمنطق، والفلسفة، وغيرها. غير أنَّ الدراسات الأصولية كان لها فضل السبق إلى الاهتمام بدراسة مقاصد الخطاب الشرعي، وذلك لإدراك مقاصد صاحب الرسالة. وقد تطلّب صوغ تلك الأصول قراءة معمقة ودقيقة للأصول الفلسفية والمعرفية التي انبثقت عنها النظرية القصدية للأصوليين، فوجدناها نظرية لها جميع مواصفات النظرية، من مسلمات، ومساطر، وجهاز مفاهيمي، وهي ليست بالأقل شأنا من نظريات تحليل الخطاب المعاصرة. الجانب المهم من العملية الاجتهادية، حيث شكلت المقاصد عند الشاطبي، وهي: العقل، والدين، والنفس، والنسل، والمال الذي جاء الشرع لحفظها وحمايتها، الأساس الذي انطلق منه.

 أمَّا القصدية في اللغة فتكمن في:

أ- المنهج القصدي ونقد المناهج التاريخيّة:

طالت انتقادات القصدين المناهج التاريخيّة أيضًا، فاعتبروا أنّ المناهج التاريخيّة بكلّ أشكالها بما فيها علم الحديث، وعلم الرجال، وعلم التاريخ وغيرها، كلّها أخطاءٌ كبرى حصلت في تاريخ الأمّة؛ لأنّه لا يمكن إثبات التاريخ بواسطة الوثائق وعلم الرجال والأسانيد والحديث وما شابه ذلك، بل جاء علم الرجال ـ من وجهة نظرهم ـ لتبرير المزيَّفات لا لتمييز المزيّف عن غيره، ولا قيمة لعلم الأصول بكلّ مناهجه الإثباتية التاريخية ـ نحو الخبر الواحد، السيرة، الإجماع و.. ـ ولا حتى علوم القرآن بالطريقة السائدة، إذن يجب إغلاق هذه الأبواب بأجمعها. وهذه النظرة على علم الحديث النبوي الشريف لا يجوز البتة؛ لأنَّ الغرض من علم الاسناد والرجال هو لمعرفة صحة الحديث النبوي الشريف؛ كونه المصدر في التشريع بعد القرآن الكريم، وهو علم غزير ومهم لم نجده في بقية الأديان والمعتقدات، ومن طعن به ينطبق عليه المثل (الناس أعداء لما جهلوا) و(منْ عرف ألف ومن جهل استوحش).

 ب-المنهج القصدي ونقد المناهج اللغويّة القديمة:

يعتبر المنهج القصدي الحلّ في اللغة، لكن في البداية يجب أن نعرف أين تكمن المشكلة في اللغة حتى نقول: إنّ الحلّ فيها؟ أين هو مركز الخطأ في اللغة حتى نقول الحلّ يتمّ من خلال إصلاحها، ومن خلال إصلاح الفهم اللغوي؟

 المشكلة الأساس هي اعتقاد المناهج اللغويّة القديمة باعتباطيّة اللغة، فلو رصدنا كلّ التيّارات اللغويّة ورموز اللغة في العالم، وعلى رأسهم «الجرجاني» من المسلمين، و«دي سوسير» في الغرب، وهم المنظّرون لأغلب التيارات اللغويّة السائدة، سنجدهم يقولون ما يعتبره القصديون تناقضًا، إنّهم يقولون: إنّ اللغة نظامٌ غير منطقي (اعتباطي). هذه الفكرة متناقضة في نفسها؛ لأنّها تعتبر من جهة أنّ اللغة نظامٌ ممّا يعني أنّها تقوم على أسسٍ منظّمة ومنطقيّة، ومن جهة أخرى تعتبر أنّ اللغة غير منطقيّة، وهذا ليس إلا التناقض! فكيف يمكن أن نعتقد بأنّ اللغة نظام، ولكنّها في الوقت عينه غير منطقيّة؟!

 وكذلك تعتبر المناهج اللغوية السائدة أنّ اللغة وُلدت بطريقة عفويّة، أي غير مخطّط لها، فلا توجد أيّة علاقة تكوينيّة بين اللغة والمعاني، وإنّما هي مواضعة اعتباريّة ارتبطت من خلالها كلمةٌ ما بمعنى معيّن، فاللغة قائمةٌ على الاعتباطيّة والعفويّة.

 إنّ هذا التصوّر هو الذي أسّس للاعتباطيّة والفوضى اللغويّة؛ لأنّ المفروض عدم وجود علاقة ذاتيّة تكوينيّة بين الكلمات والمعاني خلافًا لما نراه في الأمور الطبيعيّة، حيث يرتبط كلّ شيء بالآخر نتيجةَ علاقاتٍ سببيّة تكوينيّة، فنحن في تعاملنا مع الأمور الطبيعيّة نكتشف القضايا الخارجيّة، ولكنّنا في تعاملنا مع اللغة لسنا مكتشفين، بل مبدعون ومخترعون.

 فالمقصدية في اللغة تعزز البحث الدلالي بتداول السياق، وانفتاح الدلالة نفسها على حقول استدلالية متنوعة، وهو ما شكل سياقا خاصا في ما سمي بنظرية الحقول الدلالية. لقد أصبح للسياق مكانة هامة، نلمسها جليا في البحوث الدلالية الحديثة.

الخاتمة:

تم سرد بعض نصوص في كتب التراث والمعاصرة ويتبين لي أنَّ القصدية عنصر موجود في كافة العلوم؛ لأنَّ قوة الكلام أو القاعدة التنظيرية تعتمد على مقاصد أهل العلم في هذا المضمار، ونستطيع دراستها في جوانب العلوم؛ لمعرفة حقيقة الإنشاء من الكلام.

المصادر والمراجع:

1- «الاصول في النحو»، لابن السراج.

2- «دلائل الاعجاز»، للجرجاني.

3- «سر الفصاحة»، لابن سنان الخفاجي.

4- «القصدية في اللغة العربية بين الدراسات القديمة والحديثة»، مجلة كلية العلوم الإسلامية ع 64، جمادى الأول 1442 هـ /2020 م. م رنا ماجد ثابت.

5- «القصدية والقراءة عند هوسرل»، د. معن الطائي مقال.

6- «الكتاب»، لسيبويه.

7- «مفتاح العلوم»، للسكاكي.

8- «مفهوم القصدية في اللسانيات التداولية»، د. بن زحاف يوسف / المركز الجامعي أحمد زبانة / غليزان / الجزائر مجلة الدراسات الثقافية واللغوية والفنية / المركز الديمقراطي العربي عدد 2 آذار 2020،م 3.

9- «المقصدية في الخطاب السردي المعاصر» (دكتوراه )، نعار محمد، بإشراف د. القصدية. زين الدين مختاري / جامعة أبي بكر بلقايد الجزائر 2013 2014.

10-                   «الموافقات في أصول الفقه»، للشاطبي. 

ترك تعليق