د. أحمد الخاني تعريف اللغة تعريف اللغة معجميًا: (لغا يلغو بكذا، أي: تكلم به). (لغا يلغو لغوًا: بطل، وألغاه: أبطله). لدينا هنا معنيان: الأول: لغا بالأمر، أي: تكلم به. والثاني: لغا يلغو لغوًا: بطل، أي: أبطله وألغاه. تعريف اللغة: (أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم)[1]. وهذا التعريف، يجب أن يشار إليه للأمانة العلمية، في دائرة المعارف البريطانية حيث تعرف اللغة بأنها: (نظام من الرموز الصوتية). وفي دائرة المعارف الأمريكية: إن اللغة يمكن تحديدها بأنها نظام من المعلومات الصوتية الاصطلاحية)[2]. وعلى ضوء تعريف ابن جني، قامت دراسات اللغة على أنها أصوات منطوقة وليست حروفًا مكتوبة واللغة في رأي بعض علماء الغرب؛ ومنهم دوسيسير هي (كل ما يمكن أن يدخل في نطاق النشاط اللغوي؛ من رمز صوتي، أو كتابي، أو إشارة؛ أي أن اللغة تعني الكيان العام الذي يضم النشاط اللغوي الإنساني في صورة ثقافية؛ منطوقة، أو مكتوبة، معاصرة أو متوارثة)[3]. نشأة اللغة: النظرية التوقيفية: قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: 31] لا خلاف بين المفسرين، على أن الله تعالى علم آدم اللغة. ولهم أقوال كثيرة في هذه الآية الكريمة؛ ما هذه الأسماء التي علمها الله تعالى آدم؟ النظرية التوقيفية، ثابتة بنص الآية الكريمة في القرآن الكريم، ولكن الخلاف في فهم هذه الآية، أو في الاهتداء إلى تفسيرها تفسيرًا قطعي الدلالة على المراد، في نص شرعي صحيح ثابت، وهل كانت هذه اللغة وهذه الأسماء في الجنة وما فيها؟ أم أنها نزلت معه إلى الأرض وفيها أسماء ما كان مشاهدًا لعينيه، وما كان يحتاجه هو وذريته معه؟ إن البحث عن الأسماء في الجنة أو على الأرض، يكتنفه الغموض. ماذا كانت تلك اللغة؟ وكيف اختلفت بعد ذلك؟ إذا كانت اللغة توقيفية من الله تعالى، فهل استمرت هذه اللغة لدى أبناء آدم عليه السلام بعد وفاته؟ وما مصير لغة من انقطع عن التجمعات البشرية في كهوف الجبال، وفي جزائر البحور؟ هذه كلها مجال بحث، ولكن أهم شيء هو أن اللغة من الله تعالى. فالقائل بهذه النظرية يتوقف عن البحث في أصل نشأة اللغة لأنها وقف على الله تعالى. ولذلك سميت: النظرية التوقيفية. النظرية التواضعية: ونشأت نظرية تقول: إن اللغة من صنع الإنسان بطريقة المحاكاة، ولهذه النظرية أعلامها ومنهم من ظل حائرًا بين النظريتين، لا يملك القدرة في نفسه على ترجيح إحدى النظريتين على الأخرى. أما افتراض اللغة أنها تواضعية فهو أبعد في الغموض عن معرفة نشأة اللغة أنها من صنع الإنسان. وأنها محاكاة أصوات الطبيعة والحيوانات… أسئلة كثيرة تستثار في هذا الموضوع، وأسئلة كبيرة تفرض نفسها في هذه المجال (وكل افتراض يبحث في أن اللغة من صنع الإنسان، لن يكون إلا ضربًا من الحدس والتخمين، لأنه لا سبيل إلى نتيجة يطمئن إليها المنهج العلمي، وذلك لفقدان الأدلة القاطعة، أو لعدم كفايتها في الإجابة عن هذا السؤال الغامض إجابة يُطمأن إليها، حتى إن الجمعية اللغوية في باريس قررت سنة 1878م، منع تقديم أبحاث في هذا الموضوع)[4] ومع ذلك، فقد استمرت بعض أبحاث اللغويين تتناول هذا الجانب بالدرس والتحليل. والكتب العربية التي تناولت هذا الموضوع تنقسم فريقين: الفريق الأول: يمثله ابن فارس، ويذهب إلى أن اللغة توقيفية، أي أنها وحي من الله تعالى، ولا دخل للإنسان في نشأتها. الفريق الثاني: ويمثله ابن جني في أحد مذهبيه إذ يقول بقولين: الأول: اللغة من صنع الإنسان. والثاني: يأخذ برأي شيخه ابن فارس ويقول: إنها توقيفية، ودليله على ذلك الآية السابقة (ثم يحاول تفسير المقصود بالأسماء بقوله: كان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها من دابة وأرض وسهل وجبل.. علمه اسم كل شيء، وقال غيره: علمه أسماء الملائكة ويتصور ابن فارس، أن اللغة لم يتعلمها آدم كلها دفعة واحدة، بل وقف الله جل وعز آدم عليه السلام على ما شاء أن يعلمه إياه، مما احتاج إلى علمه في زمانه. وذهب بعض أصحاب مذهب التوقيف، إلى أن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها بجميع اللغات العربية والفارسية والسريانية والعبرية والرومية وغير ذلك من سائر اللغات)[5]. وذهب بعض المفسرين إلى أن آدم تعلم أسماء ما لم يوجد تعلم أسماء كل شيء كان، وأسماء كل شيء سيكون (حتى القصعة والقصيعة….)[6] وقد وضعت عدة نقاط حذفًا لما قاله تفسير الجلالين؛ فقد ذكر أسماء لا يحسن ذكرها، ولا أدري ما مصدره وما الفائدة من ذكر أمر مستقبح، ولعله استقى هذه المعلومة من الإسرائيليات ولذلك حذفناها. وهذا الفريق الثاني، وهم أصحاب اللغة التواضعية، يمثلهم ابن جني ويعقد بابًا سماه: (القول على أصل اللغة، إلهام هي أم اصطلاح؟ قال فيه: إن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة، إنما هي تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف، إلا أن أبا علي الفارسي رحمه الله قال لي يومًا: هي من عند الله)[7]. والمواضعة، قال بها ابن جني على أيدي حكماء اجتمعوا وقالوا: إنسان، إنسان. وإن أرادوا رأسه أو يده، أشاروا إلى ذلك فقالوا: يد، رأس، عين، قدم أو نحو ذلك، فمتى سمعت اللفظة من هذا، عرف معنيها وهلم جرًا. يقول ابن جني: وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل. (ومن الطريف أن هذه الفكرة نفسها ذكرها جان جاك روسو تفسيرًا لنشأة اللغة. غير أن هذا التصور الذي ذهب إليه ابن جني وروسو، يوجه إليه نقد قوي؛ إذ كيف وصل هؤلاء الحكماء إلى أن يكونوا حكماء، إذا لم يكن ثمة لغة قبل أن يتواضعوا هم على لغة؟ كيف تم التفاهم بينهم على أن يجتمعوا ليتواضعوا؟)[8]. وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغة، إنما هو الأصوات المسموعات؛ كدوي الريح وصوت الرعد وخرير الماء وصهيل الفرس، ثم ولدت اللغات من ذلك فيما بعد. يقول الدكتور وافي: وهذه النظرية هي أدنى نظريات هذا البحث إلى الصحة، وأقربها إلى المعقول وأكثرها اتفاقًا مع طبيعة الأمور وسنن النشوء والارتقاء، وهذه نظرية لم يقم أي دليل على دحضها، كما لم يقم أي دليل على دعمها ويرجح الأخذ بها. ويعترض رينان وماكس مولر على هذه النظرية، بأنه ليس من المعقول أن يقلد الإنسان أصوات حيوانات أدنى منه. يقول الدكتور إبراهيم أنيس تحت عنوان[9]: نشأة الكلام: (لم يظفر بحث من البحوث اللغوية بقدر وفير من التأمل والتفكير مثل الذي ظفرت به نشأة اللغة، ومع هذا، فقد كانت النتيجة دائمًا سلبية، ولم يهتد الباحثون بعد كل ما بذلوه من جهد، إلى رأي يجمعون عليه أو يطمئنون إليه ففي كل العصور، ومنذ الحضارة الإنسانية القديمة، والعلماء لا ينقطعون عن البحث في نشأة الكلام وأصله ويفترضون في هذا، الفروض، حتى أوائل القرن العشرين، حين بدأ العلماء ينصرفون عن هذا الفرع من البحث ويرون أنه من مسائل ما وراء الطبيعة، وأن لا جدوى من الاستمرار فيه. ونظرية أخرى تقول: إن اللغة أو النطق الإنساني، نشأ أولًا في صورة جماعية، فقد صدر عن مجموعة من الناس في أثناء قيامهم بعمل شاق تعاونوا على أدائه، ويشبه هذا ما نسمعه أحيانًا من بعض العمال الآن حيث يؤدون عملًا شاقًا مضنيًا، إذ نراهم يغنون، أو يرددون عبارات بدائية لا تكاد تتضمن معنى معقولًا مفهومًا، فيكررونها ويعيدون تكرارها دون ملل أو سأم. وهكذا يرى أصحاب هذا الرأي، أن اللغة نشأت حين اجتمع الإنسان بأخيه الإنسان، ولم تنشأ عنه وهو منفرد منعزل، وبهذا يربطون بين نشأة اللغة وبين تكون المجتمع الإنساني، ويوثقون بين اللغة وبين المجتمع. ولعل هذا أهم ما تمتاز به هذه النظرية على النظريات السابقة؛ أنها عالجت النشأة اللغوية في ضوء المجتمع الإنساني، وربطت بين اللغة والمجتمع ربطًا وثيقًا، في حين أن كل النظريات الأخرى تفترض أن الكلمات الأولى صدرت عن الإنسان المنفرد ثم قلد غيره في نطقه. أحدث الآراء: وقد اهتدى بعض المُحدثين من اللغويين، وعلى رأسهم (جسبرسن) إلى نظرية نطمئن إليها بعض الاطمئنان، لأنها تأخذ بكل النظريات السابقة مجتمعة، وتؤسس عناصرها على أسس علمية واضحة المعالم، وخاضعة للتجربة الحديثة. فالنظريات السابقة اعتمدت على طريقة استنباطية لأنها تبدأ بالفرض ثم تساق لهذا الفرض الأدلة والبراهين. أما نظرية هؤلاء المحدثين؛ فتتبع الطريقة الاستقرائية فتستعرض الملاحظات والتجارب ثم تتكون منها النتيجة. وأصحاب هذه النظرية يؤسسون نظريتهم على أسس ثلاثة: 1- دراسة مراحل نمو اللغة عند الأطفال. اعتقادًا منهم أن مراحل نمو اللغة عند الأطفال هي المراحل نفسها التي يمر بها الإنسان الأول ولا تزال دراسة هذه المرحلة عند الأطفال بحاجة إلى النتائج المؤسسة عليها. 2- لغة الأمم البدائية: ويرى هؤلاء الباحثون أن لغات هؤلاء الأقوام تمثل مرحلة قديمة في نمو اللغات وتطورها، وهي لهذا تلقي ضوءًا على ما كانت عليه لغة الإنسان في العصور السحيقة. 3- الدراسة التاريخية: وربما كان هذا الأساس الثالث أهم من الأساسين السابقين في بحث النشأة اللغوية، إذ إنهم بدؤوا بطريقة عكسية؛ أي أنهم بدؤوا البحث في لغات العصر الحاضر ثم عادوا إلى الوراء جيلًا بعد جيل وقرنًا بعد قرن، فمثلًا يقارنون حال اللغة الإنجليزية الحديثة بحالها في عصر شكسبير… وربما أمكن الباحث عن هذا الطريق الوصول إلى تكوين فكرة واضحة المعالم عن أقدم المراحل في النشأة اللغوية). حروف اللغة: إن الشيخ عبد الله العلايلي، يلقي الضوء على هذا الموضوع في كتابه (مقدمة لدرس لغة العرب) فهو (يعالج في قضية التطور اللغوي ثلاثة أمور: 1- دور الحرف الواحد، أو المقطع الواحد. 2- دور ذي المقطعين أو الحرفين. 3- الدور الثالث يبدأ من العصر الحجري حتى العصر البرونزي، حيث نضجت اللغة نسبيًا. في الدور الأول: هو المقاطع الأحادية، وهو أساس هذه المقاطع التي هي الجدول الهجائي وفي هذا الجدول أن (الهمزة) تدل على الجوفية، وما هو وعاء للمعنى و(الباء) تدل على بلوغ المعنى في الشيء بلوغًا تامًا. و(التاء) تدل على الاضطراب. و(الجيم) تدل على العظم مطلقًا، كالجبل والجمل. والدور الثاني ذو المقطعين: وذلك حين تطورت الأحادية إلى ثنائية. وهذا الدور نشأ من تقليد صوت الطبيعة في مختلف أصواتها، فمثلًا (عو) يدل على الحيوان المفترس في اللغة السامية. وفي ثلاثية الحروف يقول: كلمة (سمك) تحلل إلى (س) ومعناها: الدعامة وهو يرمز إلى مطلق القوى. و(م) معناها: المياه. و(ك) معناها: كف، والمعنى هو: (كف الماء القوي) وهو تصور عن السمك. ومن هذا الدور – الثالث – كثرت المفردات وتركيب الجمل وعرفت الألفاظ ذات الدلالة المعنوية والاسم والفعل والاشتقاق والكتابة)[10]. كلمة (عو) تدل في رأي العلايلي على الحيوان المفترس في اللغة السامية، فهل يدل هذا الصوت على غير المفترس في أي لغة من لغات العالم، في أي زمان ومكان؟ هل تدل مثلًا على الظبي في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية.. وإذا دلت بعض الحروف على معنى معقول مقبول كدلالة الجيم على العِظَم، كالجمل والجبل، فماذا يقول العلايلي في الجبنة والجوز والجزر والجرثومة والجينات والجن؟ العلايلي اجتهد، وقدم اجتهاده، وهو يشكر على مجهوده، ولئن قبلنا معاني بعض الحروف مثل: الجبل، أنه يدل على الكبر والارتفاع، لكن، ليس كل حرف من حروف الجيم، له هذه الدلالة، وما معنى قول العلايلي: الباء تدل على بلوغ الشيء بلوغًا تامًا؟ أعتقد أن هذا العلم ممتع لكنه عقيم، والبحث فيه ضرب من الترف العلمي، لأن البحث لا يمكن أن يصل إلى نتائج ذات دلالة قاطعة، لفقدان أي دليل صحيح ثابت من هذه النظريات على نشأة اللغة وعلى حروفها. عندنا أصل ثابت وهو أن اللغة توقيفية بالنسبة لآدم في الجنة، ولا شك أنها نزلت معه إلى الأرض. أما ما بعد ذلك فالله تعالى أعلم بها. تدريبات: 1- ما تعريف اللغة عند ابن جني؟ 2- ما معنى: اللغة التوقيفية؟ 3- ما رأيك بفكرة المواضعة في اللغة التي قال بها ابن جني وجان جاك روسو؟ 4- هل توافق اعتراض رينان ومولر على نظرية المواضعة في اللغة، أم تخالفهما؟ 5- هل ترى تعارضًا بين نظريتي؛ نشأة اللغة التوقيفية والمواضعة؟ 6- هل نشأت اللغة في رأيك من الإجهاد المضني في العمل الجماعي؟ أم من شعور الإنسان إلى وسيلة التخاطب، في أحوال معيشته؟ 7- هل نشأت اللغة من الانفراد؟ أم من الاجتماع الإنساني؟ 8- إذا وجد إنسان في غابة وحيدًا، هل يكون لديه لغة؟ 9- تكلم في نشأة حروف اللغة كما تصورها العلايلي. 10- اكتب بحثًا موسعًا عن نشأة اللغة، معتمدًا على المصادر والمراجع.
المصدر: alukah [1] الخصائص لابن جني ج1 بتحقيق محمد علي النجار ص 23. [2] فقه اللغة د. عبده الراجحي ط. دار المعرفة الجامعية ص 16. [3] علم اللغة العام د. محمد توفيق شاهين ط1 ص 16. [4] فقه اللغة د. عبده الراجحي ص 77. [5] المصدر السابق ص 78. [6] تفسير الجلالين. [7] الخصائص لابن جني ج1 ص 40. [8] فقه اللغة د. عبده الراجحي ص86. [9] دلالة الألفاظ: د. إبراهيم أنيس ط2 ص 13. [10] علم اللغة العام د. توفيق شاهين ط1 ص 58. |