محمد تبركان
تنبيهات وفروقات تخص الجذر اللغوي (لبس)
ل ب س[1] : لا يَلْتَبسنَّ عليك أيُّها اللَّبيب الفروق الكامنة في مشتقّات هذا الجذر (ل ب س)؛ فقد وقعَ فيها من اللَّبس في دَرْكِ دلالتها، ورسمِ ألفاظِها ما جعلَ كثيرين من النّاطقين بالضّادِ لا يُميِّزون بينها في معانيها، بل ومبانيها؛ فمِن ذلك عدمُ تفريقِهم بين (اللَّبْسِ) و(اللُّبْس)؛ لذا كان هذا البيان الموجز:
1- اللُّبْسُ: أصلُه السَّتْرُ، وهو مصدرُ قولك: لَبِسْتُ الثوبَ بكسر الباءِ، أَلْبَسُهُ بفتحها، لُبْسًا بضمِّ اللَّامِ، وبابُه سَمِعَ. قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴾[2] أي يَستُركم بظُلمتهِ، وقالتْ ميسون بنت بحدل[3] الكلابيّة، زوج معاوية رضي الله عنه: (الوافر).
لَلُبْسُ[4] عَباءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي = أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ[5]
هذا على الحقيقة، ومِن المجاز قال إسحاق بن خلف البهرانيّ[6]:
وَلُبْسُ العَجاجَةِ وَالخَافِقَاتِ =تُرِيكَ المنَا برُؤُوسِ الأَسَلْ
2- اللَّبْسُ: بفتح اللَّام وسكون الباء، اختلاطُ الأمر، مصدرُ لَبَسَ، وبابُه ضَرَبَ، تقولُ: (لَبَسْتُ عليه الأمرَ) بفتح الباء (أَلْبِسُهُ) بكسرها (لَبْسًا) فالْتَبَسَ، أي: خلطتُه وعمَيتُه وشبّهتُه، وجعلتُه مُشْكِلاً حتَى لا يُهتدَى إلى حقيقتِه، وربّما شُدِّدَ للتَكثير والمبالغة. وهو[7] يُستعمَلُ في الأعراض مثل الحقِّ والباطلِ وما يَجري مجراهما، تقولُ: في الكلام لَبْسٌ.
وحدُّه: منعُ النّفسِ من إدراكِ المعنى على ما هو عليه؛ فاللَّبْسُ: خلطُ الأمورِ بعضها ببعض. ومنه قولُهم: يفعلُ كذا منعا لِلَّبْسِ، قال اللّهُ تعالى:
أ– ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾[8]. قال ابنُ عرفة: أي لا تَخلِطوهُ به.
ب– ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾[9]. أي شبّهنا عليه، وأضللناهم كما ضَلُّوا.
ت– ﴿ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾[10].
ث– ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾[11].
ج– ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ… ﴾[12].
ح– ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾[13]. أي: يجعَلَكم فِرَقا مختلفين بأن يخلِطَ أمرَكم خلطَ اضطرابٍ لا خلطَ اِتِّفاق.
خ– ﴿ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ﴾[14].
3- وفي حديثه لُبْسٌ بالضمِّ، ولُبْسَةٌ أيضًا، أي شُبهةٌ وإشكالٌ؛ إذا لم يكنْ واضحا. وألبسَه: غطّاهُ. وأمرٌ مُلْبِسٌ كمُحْسِن ومُلْتَبِسٌ: مُشْتَبِهٌ. والتّلْبيسُ: التَّخليطُ، والتّدليسُ. وقد التبسَ الأمرُ وألبسَ إذا أشكلَ واختلطَ. ولابسَ الرّجلُ الأمرَ: خالطه، ولابستُ فلانا: خالطتُه حتّى عرفتُ باطنَه. ويقالُ: في الأمر لَبْسَةٌ أي: التباسٌ، ليس بواضحٍ، وفي فلانٍ مَلْبَسٌ أي: مُسْتَمْتَعٌ. قال امرؤُ القيس[15]:
أَلاَ إِنَّ بَعْدَ العُدْمِ لِلْمَرْءِ قِنْوَةً = وَبَعْدَ المَشِيبِ طُولَ عُمرٍ وَمَلْبَسَا ورجلٌ لَبَّاس كشَدَّاد كثيرُ اللِّباس، أو اللُّبْس، ولا تقل: مُلَبِّس كمُحدِّث؛ فإنّه مِن لغةِ العامّة. وتَلَبَّسَ بالأمرِ وبالثوبِ: اختلطَ، ويقالُ للمجنون مُخالَط. ولَبَّسَ الشّيءُ اِلتبسَ، المُلابَسَة وهي المخالَطَة. وتَلَبَّسَ بي الأمرُ اختلَطَ وتَعَلَّقَ، أنشدَ أبو حنيفة:
السيف أصدق إنباء من الكتب = في حده الحد بين الجد واللعب
واللَّبْسُ اختلاطُ الظّلامِ.
4- اللِّبْسَةُ: بالكسر حالةٌ مِن حالات اللُّبْس، وفي الحديثِ أنّه: (نَهَى عن لِبْسَتَيْن)[16]، هي بكسر اللّام: الهيئةُ والحالةُ، أي: نهى عن حالتين وهيئتين مِن هيئات اللُّبْس، ويُروَى بالضّمِّ[17] على المصدر. قال ابنُ الأثير: (والأوّلُ الوجهُ. ومنه: لكلّ زمانٍ لِبْسَةٌ أي: حالةٌ يُلْبَسُ عليها مِن شِدَّةٍ ورَخاءٍ).
واللِّبْسَةُ واللِّبْسُ: ضَرْبٌ منْ الثِّيَابِ بالكسر فيهما. ولِبْسُ الهَوْدَجِ[18] والكعبة: ما عليهما من لِباسٍ. قال حُميد بن ثور الهلاليّ رضي الله عنه[19] يصفُ فرسًا خدمته جواري الحيّ:
1. فَلَمَّا كَشَفْنَ اللِّبْسَ عَنْهُ مَسَحْنَهُ = بأَطرافِ طَفْلٍ زانَ غَيْلاً مُوَشَّما
5- اللَّبْسَةُ: المَرَّةُ الواحدة من اللُّبْسِ، تقولُ: لَبِسْتُ الثوبَ لَبْسَةً واحدةً.
واللِّباسُ واللَّبوسُ والمَلْبَسُ والمِلْبَسُ واللِّبْسُ بالكسرِ: ما يُلْبَسُ قال تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ…)[20]. جعلَ اللّباس لكلّ ما يُغطِّي الإنسانَ عن قبيح. وقال: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)[21]؛ فجعلَ كلَّ واحدٍ من الزّوجين لِباسًا للآخر، من حيث إنّ كلاًّ منهما يمنعُ صاحبَه ويصدُّه عن تَعاطي القبيح. والعربُ تُسمِّي المرأةَ لباسًا وإزارًا، قال الجعديّ يصفُ امرأةً:
2. إِذَا مَا الضَّجيعُ ثَنَى جِيدَها = تَداعَتْ فكانتْ عليهِ لِباسا[22]
أمّا اللَّبوسُ: فالدِّرْعُ، وكلُّ ما تحصَّنتَ به[23]، أنشد ابنُ السِّكِّيت لِبَيْهَسٍ الفَزاريّ وكانَ يُحَمَّق:
اِلْبَسْ لِكُلِّ حالةٍ لَبُوسَهَا = إِمَّا نَعِيمَها وإِمَّا بُوسَهَا
6- واللَّبيسُ: ما كَثُرَ لُبْسُهُ، يقالُ: ثوبٌ ومُلاءةٌ لَبيسٌ، وجمعهُ: لُبُسٌ؛ لأنّه مفعولٌ.
وبعدُ: فقد وردتْ بشأنِ هذا الجذرِ (ل ب س) جملةٌ من الأحاديثِ، تَدورُ جميعُها حول معنى(الخلطِ)، وما جرى مجراه، فمنها:
أ– (فَلَبَسَ عَلَيْهِ صَلاتَهُ)[24].
ب– (مَن لَبَسَ على نفسِهِ لَبْسًا)[25].
ت– في حديث ابن صيّاد: (فَلَبَسَني)[26]. أي: جعلني أَلتبسُ في أمرِهِ.
ث– وحديثُه الآخر: (لُبِسَ عليهِ، دَعُوهُ)[27].
ج– في حديث المبعث: (فجاءَ الملَكُ فَشَقَّ عن قلبهِ. قالَ: فخِفتُ أن يكونَ قد اُلْتُبِسَ بي)[28]. أي: خُولِطتُ في عقلي، من قولكَ: في رأيهِ لَبْسٌ، أي اختلاط.
ح– ومنه الحديث: (ذهبَ ولم يَتلبَّسْ منها بشيءٍ)[29]. يعني: من الدنيا.
خ– وفي الحديث: (فيأكلُ فما يَتلبَّسُ بيدِه طَعامٌ)[30]. أي: لا يَلزَقُ به لِنظافةِ أكلِهِ. يُقال: تَلَبَّسَ الطَّعامُ باليدِ: إذا اِلْتَزَقَ بها.
لطيفة: قال الزّبيديّ في تاج العروس (16 /469 – 470): (ونَقَل شيخُنَا عن السُّهَيْليِّ في الرّوْض منَاسبَةَ لَبِسَ الثَّوْبَ كسَمِعَ، ولَبَسَ الأَمْرَ كضَرَبَ؛ فقالَ: لَمّا كانَ لَبَسَ الأَمْرَ معناه خَلَطَه أَو سَتَرهَ؛ جاءَ بوَزْنِه، ولَمَّا كانَ لَبِسَ الثِّيابَ يَرْجِعُ إِلى معْنَى كسِيتُ وفي مُقَابلة عَرِيتُ؛ جاءَ بوَزْنِه).
وانظر:
1) أدب الكاتب (ص295 – 296 باب ما جاء ساكنا والعامّة تُحرِّكه).
2) أساس البلاغة (ص402 – 403).
3) الإفصاح في فقه اللّغة (ص167 ع1) و(ص173 ع2).
4) بلوغ الأرب في أحوال العرب (3 /450).
5) تاج العروس (16 /466 – 472 ل ب س).
6) التّوقيف على مهمّات التّعاريف (1 /617).
7) درّة الغوّاص (ص210 رقم 175).
8) الصِّحاح (3 /973 – 974 لبس).
9) العين (3 /36) و(7 /262 باب السّين واللّام والباء معهما).
10) الفروق اللّغويّة (1 /462 رقم 1854 حرف اللّام).
11) فصيح ثعلب (ص64 باب فَعِلْتُ وفَعَلْتُ باختلاف المعنى).
12) القاموس المحيط (ص572 فصل اللّام).
13) الكامل في اللّغة والأدب (1 /337).
14) لسان العرب (6 /202 – 204).
15) مختار الصّحاح (ص590).
16) المصباح المنير (ص325 ل ب س).
17) معجم المقاييس في اللّغة (5 /230 لبس).
18) المعجم الوسيط (ص812 ع3).
19) معجم لغة الفقهاء (1 /469 – 470).
20) مفردات الرّاغب (ص447 لبس).
21)نصوص في فقه اللّغة (1 /323، 331، 333).
22) النّهاية في غريب الحديث (4 /424).
[1] قال ابن فارس: (لبس: اللاّم والباء والسين أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على مخالَطَة ومداخَلة، من ذلك: لَبِسْتُ الثَّوبَ ألْبَسُه، وهو الأصل، ومنه تتفرَّع الفروع). – معجم المقاييس في اللّغة (5 /230 لبس).
[2] النّبأ/10.
[3] في بلوغ الأرب (3 /450)، والحلل في شرح أبيات الجمل (ص41، 134): (بَجْدَل بالجيم بدل الحاء، والمشهورُ بَحْدَل بالحاء).
[4] في خزانة الأدب (3 / 258، 278 الشّاهد 658 و672): (وقوله: ولبس عباءة، في غالب كتب النّحو لَلُبس بلامين، وهو خلاف الرّواية الصّحيحة).
[5] الكتاب (3 /45 هذا باب الواو).
[6] في كامل المبرّد (1 /337): (وكان من الشّعراء المُحْدَثِين).
[7] أعني: اللَّبْس.
[8] البقرة/42.
[9] الأنعام/09.
[10] ق/15.
[11] آل عمران/71.
[12] الأنعام/82.
[13] الأنعام/65.
[14] الأنعام/137.
[15] أساس البلاغة (ص403 ل ب س)، وديوان المعاني (2 /159 الباب 11)، ومعجم المقاييس (5 /230 لبس)، وهو في ديوانه (ص39).
[16] اللّسان (6 /203)، والنّهاية (4 /424)، وتاج العروس (16 /467)، وهو مخرّج في صحيح البخاري (2 /252 رقم 584 و11 /455 رقم 5820، 5821 و12 /352 فتح الباري)، ومسلم (5 /10 /155 نوويّ).
[17] أي: لُبْسَتَيْنِ.
[18] قال في المعجم الوسيط (ص976 ع2): (الهَوْدَجُ: أداةٌ ذاتُ قُبَّة تُوضَعُ على ظهرِ الجملِ لِتَركَبَ فيها النِّساءُ. “ج” هَوادِج).
ولِبْسُ الهَودَج ما عليه من الثَّياب.
[19] الإصابة (1 /243 – 244)، والاستيعاب (1 /111 – 112 باب حميد)، وأسد الغابة (1 /286 – 287).
[20] الأعراف/26.
[21] البقرة/187.
[22] وفي رواية:
إِذا ما الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَها
تَثَنَّتْ فكانت عليه لِباسا
[23] وقيل: هو كلُّ ما يُلبسُ من ثِياب ودِرْعٍ.
[24] اللّسان (6 /204)، والنّهاية (4 /424)، وتاج العروس (16 /469).
[25] اللّسان (6 /204)، والنّهاية (4 /424)، وتاج العروس (16 /469).
[26] اللّسان (6 /204)، والنّهاية (4 /424)، وتاج العروس (16 /472).
[27] النّهاية (4 /424)، وهو في صحيح مسلم (9 /18 /50 رقم 87 نوويّ).
[28] اللّسان (6 /204)، والنّهاية (4 /424)، وتاج العروس (16 /471).
[29] اللّسان (6 /204)، والنّهاية (4 /424)، وتاج العروس (16 /470).
[30] اللّسان (6 /204)، والنّهاية (4 /424)، وتاج العروس (16 /470).