نايف ناصر المنصور
لغتنا العربية وأهميتها للشريعة (2)
صور التكامل بين اللغة والشريعة:
قال ابن رشد الحفيد في كتابه الضروري في صناعة النحو، مشيرًا إلى أصناف العلوم من حيث كونها أصلًا أو تابعة للأصل: “إن العلوم صنفان: علوم مقصودة لنفسها، وعلوم مسددة للإنسان في تعلم العلوم المقصودة في نفسها“[1].
فمنها تُعتبر علوم اللغة العربية من علوم الآلة التي يُستعان بها على فهم علوم الشريعة؛ لذلك يأتي التكامل بين اللغة والشريعة في صور تبين أن بعضها يستلزم البعض الآخر، ومنها تلك المناظرات العلمية التي كانت تجري بين علماء اللغة وعلماء الشريعة كما جرى بين الفراء ومحمد بن الحسن القاضي، فقد حُكي عن الفراء النحوي أنه قال: “من برع في علم واحد، سهل عليه كل علم”، فقال له محمد بن الحسن القاضي – وكان حاضرًا في مجلسه ذلك، وكان ابن خالة الفراء -: فأنت قد برعت في عِلمك، فخذ مسألةً أسألك عنها من غير علمك: ما تقول فيمن سها في صلاته، ثم سجد لسهوِه فسَها في سجوده أيضًا؟
قال الفراء: لا شيء عليه.
قال: وكيف؟
قال: لأن التصغير عندنا – أي: النحاة – لا يُصغَّر؛ فكذلك السهو في سجود السهو لا يُسجَد له؛ لأنه بمنزلة تصغير التصغير؛ فالسجود للسهو هو جبر للصلاة، والجبر لا يُجبَر، كما أن التصغير لا يُصغَّر.
فقال القاضي: ما حسبت أن النساء يلدْن مثلك[2].
وأخرى جرت بين الكسائي النحوي وأبي يوسف الفقيه، فقد روى الزبيدي رحمه الله مناظرة بين عالم النحو الكسائي وأبي يوسف الفقيه الحنفي، قال: “دخل أبو يوسف على الرشيد – والكسائي يمازحه – فقال له أبو يوسف: هذا الكوفي قد استفرغك وغلب عليك، فقال: يا أبا يوسف، إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي، فأقبل الكسائي على أبي يوسف فقال: يا أبا يوسف، هل لك في مسألة؟ قال: نحو أم فقه؟ قال: بل فقه، فضحك الرشيد حتى فحص برجله، ثم قال: تُلقي على أبي يوسف فقهًا! قال: نعم، قال: يا أبا يوسف، ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار؟ قال: إن دخلَت الدار طلقتْ. قال: أخطأت يا أبا يوسف، فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟ قال: إذا قال: “أن” فقد وجب الفعل، وإن قال: “إن” فلم يجب ولم يقع الطلاق. قال: فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي[3].
وكذلك تأتي في صورة المؤلفات التي ألفها علماء اللغة، كما صنف أبو البركات الأنباري كتابه في العربية مرتبًا إياه على مسائل فقهية خلافية بين الشافعي وأبي حنيفة[4].
وألف جلال الدين السيوطي كتاب الأشباه والنظائر في النحو، سالكًا فيه مسلك الأشباه والنظائر في الفقه؛ يقول السيوطي في الأشباه والنظائر[5]: “واعلم أن السبب الحامل لي على تأليف ذلك الكتاب أني قصدت أن أسلك بالعربية سبيل الفقه فيما صنفه المتأخرون فيه وألفوه من كتب الأشباه والنظائر”، وألف السيوطي كتاب المزهر في علوم اللغة وأنواعها محاكيًا به علوم الحديث في التقاسيم والأنواع، وألف السيوطي أيضًا الاقتراح في أصول النحو على نظير الاقتراح في أصول الفقه، وما كان يروى عن أبي عمرو الجرمي، شيخ المبرد، من أنه كان يفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه، وكان صاحب حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث.
يتبين مما سبق مدى التكامل بين العلوم اللغوية والشرعية، وإفادتها عالم الشريعة بأدوات لسانية تمكنه من استنباط الأحكام الشرعية، والقواعد الفقهية.
علاقة اللغة العربية بعلم التفسير:
كان عمل مفسِّري السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم بالأخذ بلغة العرب في التفسير إجماعًا فعليًّا منهم، وهذا العمل حجة في صحة الاستدلال بشيء من كلام العرب: نثره وشعره[6]، كما أن التفسير بالرأي، وهو أحد أنواع التفسير، يعتمد على المدلول اللغوي للنصوص كما استعملها العرب عند نزول القرآن الكريم.
علم التفسير من العلوم الجامعة لعدد من العلوم، من لغة وبلاغة، وتصريف، وعلم القراءات، وعلم الدلالة، وعلم أصول الفقه…بحيث اجتمع في هذا العلم (علم التفسير) ما تفرَّق في غيره، بحيث يضبح المفسِّر عالمًا باللغة وبالأصول ويعملون بذلك في تفسيرهم لكتاب الله، وأغلب المفسرين كانوا علماء لغة وبلاغة، وعلماء أصول؛ مثل الإمام ابن سلام ت276ه صاحب كتاب التصاريف، وأبي عبيدة معمر بن المثنى ت210ه صاحب كتاب مجاز القرآن، والإمام الفراء صاحب معاني القرآن، والإمام الراغب الأصفهاني صاحب كتاب المفردات، والإمام الزمخشري، والإمام السمين الحلبي، والإمام الفيروزابادي، والإمام أبي حيان الأندلسي والإمام القرطبي، والإمام جلال الدين السيوطي ت911ه [7].
ووجود مؤلفات عديدة تعتمد التفسير اللغوي للقرآن الكريم، منها على سبيل المثال لا الحصر: البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، والكشاف لمحمود الزمخشري، وروح المعاني لشهاب الدين الألوسي، والتفسير البياني للقرآن الكريم لعائشة عبدالرحمن.
ومن دلالة الترابط والأهمية بين علم اللغة العربية والتفسير نورد كمثال ما جاء في الآية في سورة المائدة: إذ يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ [المائدة: 6]، فالذي لا علم له بالنحو قد يجرُّ كلمة ﴿ أَرْجُلَكُمْ ﴾ ظنًّا منه أنها معطوفة على ﴿ رُءُوسِكُمْ ﴾ المجرورة، ولكن الصواب أنها منصوبة بالعطف على الأيدي والوجوه، فهي بذلك تأخذ حكم الغسل لا المسح، والله أعلم[8].
علاقة اللغة بعلم أصول الفقه:
تأتي هذه العلاقة حيث تتضمن المصنفات الأصولية مجموعة من البحوث اللغوية، ومن أولها كتاب الرسالة للإمام الشافعي الذي صنفه بأسلوب لغوي فصيح، وهو كما ذكرت الذي قضى عشرين عامًا في دراسة العربية، وذكر في مقدمته: “وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره؛ لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب، أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها“[9].
ومن مظاهر هذه العلاقة اهتمام علماء الأصول باللغة اهتمامًا كبيرًا، فقد أدركوا أهميتها وطبيعتها في إدراك القصد من نصوص الكتاب والسنة.
ومن ذلك أيضًا ما يتميز به الخطاب الأصولي مع اللغة من قيامه على مجموعة من الثنائيات مثل: الحقيقة والمجاز، والواضح والخفي، والمقيد والمهمل، والمعنى الأصلي والمعنى التبعي، والكلي والجزئي، والمنطوق والمفهوم، والصريح والمضمر، ووجود التداخل في بعض المصطلحات بين علم أصول الفقه وعلم اللغة العربية، فإذا كان علم الأصول موضوعه “علم أدلة الفقه”، وقد قسم الفقهاء الحكم الشرعي إلى واجب وحرام، ومندوب ومكروه، ومباح ووضعي[10]، فكذلك ذهب النحويون في تقسيمهم للحكم النحوي، فهو عندهم واجب، وممنوع، وحسن، وقبيح، وخلاف الأولى، وجائز على السواء[11]، وإذا كانت أدلة الفقه الرئيسة تعتمد على النقل “الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فإن أدلة النحو الأساسية تنحصر أيضًا في النقل والإجماع والقياس، وعند بعضهم استصحاب الحال“[12].
علاقة علم الحديث وعلوم اللغة العربية:
يعتبر الإسناد من خصائص علم الحديث النبوي الشريف، ومما تتميز به الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم في مسألة توثيق العلم والتحقق من ناقله، وأهمية موضوع الإسناد؛ قال عبدالله بن المبارك رحمه الله: “الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء“[13]، ولكن الإسناد لم يقتصر على الحديث الشريف فقط، بل ظهر في الرواية اللغوية. فقد ذكر ابن الأنباري في (لمع الأدلة)[14] النقل، وذكر أنه ينقسم إلى قسمين: تواتر وآحاد، كما تكلم في شرط النقل المتواتر، وشرط نقل الآحاد، وفي قبول المرسل والمجهول، كما تكلم السيوطي في المزهر عن “معرفة المتواتر والآحاد، ومعرفة المرسل والمنقطع، ومعرفة من تُقبل روايته ومن تُرَدُّ، كذلك تكلم عن طرُق التحمل والأخذ، من سماع ووجادة، ومناولة وإجازة، ومكاتبة ونحوها”، فالإسناد منهج المُحدِّثين في توثيق الرواية وتحقيق الأحاديث النبوية، واعتمادُه من طرف اللغويين لضبط اللغة وتحقيقها يبرز العلاقة بين علوم الحديث وعلوم اللغة العربية.
وأيضًا مما نبَّه عليه علماء الحديث في ضرورة التزام اللغة العربية في مجال علم الحديث وكافة تطبيقاته:
قال العراقي في ألفية مصطلح الحديث[15]:
ولْيَحذَرِ اللَّحَّانَ والمُصَحِّفَا
عَلَى حَديثِه بأنْ يُحَرِّفا
فَيَدْخُلَا في قَولِه: مَنْ كَذَبَا
فحقٌّ النَّحْوُ علَى مَن طَلَبا
ومما ذُكر أيضًا أن توجُّهَ سيبويه إلى علم النحو هو للحنه في الحديث، فقد ذكر السخاوي في “شرحه على ألفية العراقي في مصطلح الحديث” عن أبي سلمة حماد بن سلمة أنه قال لإنسان: “إن لحنت في حديثي فقد كذبت عليَّ، فإني لا ألحن، وصدق رحمه الله؛ فإنه كان مقدمًا في ذلك بحيث إن سيبويه شكا إلى الخليل بن أحمد أنه سأله عن حديث هشام بن عروة عن أبيه في رجل رعُف بضم العين – على لغة ضعيفة – فانتهره وقال له: أخطأت إنما هو رعَفَ؛ يعني بفتحها، فقال له الخليل: صدق، أتلقى بهذا الكلام أبا سلَمة؟ وهو مما ذكر في سبب تعلم سيبويه العربية“[16].
وتأتي اللغة في أهميتها للحديث النبوي أهمية العلم باللغة العربية في فهم الحديث وشرح نصوصه وبيان معانيه، وذلك أن النبي صلَّى الله عليه وسلم نشأ في بلاد عربية تتميز بالفصاحة والبيان، فضلًا عمَّا حباه الله به من مزايا الوحي المنزل، فكلام رسول الله فيه ما في لغة العرب من الأساليب البديعة، واستعمال المجاز، وغير ذلك، فلا يمكن فهمُ الحديث النبوي، واستنباط الأحكام منه، إلا لمن كان على دراية تامَّة بالعربية وعلومها، وكذلك تأكيد العلماء على طالب الحديث أن يبدأ بتعلُّم اللغة قبل الحديث، فيما نُقِلَ في ذلك منها: “قول حاجب بن سليمان: سمِعتُ وكيعًا يقول: أتيت الأعمش أسمع منه الحديث، وكنت ربما لحنت، فقال لي: يا أبا سفيان، تركت ما هو أولى بك من الحديث، فقلت: يا أبا محمد، وأي شيء أولى من الحديث؟! قال: النحو، فأملى عليَّ الأعمش النحو، ثم أملى عليَّ الحديث.
وروى الخطيب عن شعبة، قال: من طلب الحديث ولم يتعلَّم العربية، كمثل رجل عليه برنس وليس عليه رأس“[17].
وجاء في الكفاية[18]: قال الشافعي رحمه الله عنه حاكيًا عن سائل سأله: قد أراك تقبل شهادة من لا تقبل حديثه! فقلت: لكبر أمر الحديث، وموقعه من المسلمين، ولمعنًى بَيِّن، قال: وما هو؟ قلت: تكون اللفظة تُترك من الحديث فيختل معناه، أو ينطق بها بغير لفظ المحدث، والناطق بها غير عامد لإحالة الحديث، فيحيل معناه، فإذا كان الذي يحمل الحديث يجهل هذا المعنى، وكان غير عاقل للحديث، فلم يُقبل حديثه؛ إذ كان يحمل ما لا يعقل إن كان ممَّن لا يُؤدي الحديث بحروفه، وكان يلتمس تأديته على معانيه، وهو لا يعقل المعنى، قال: أفيكون عدلًا غير مقبول الحديث؟ قلت: نعم، إذا كان كما وصفت، كان هذا موضع ظِنَّةٍ بيِّنة يُردُّ بها حديثه.
ومن أبرز صور الارتباط بين علوم الحديث واللغة العربية: أنهم جعلوا من أنواع علوم الحديث ما عُرف باسم “معرفة غريب الحديث”، وهو يهتمُّ ببيان معاني الألفاظ الغريبة، وقد صنَّفُوا في ذلك مُصنفات، من أشهرها: النهاية في غريب الحديث؛ لابن الأثير، وغريب الحديث؛ لأبي عبيد، ومثله لابن قتيبة.
مما سبق يتبيَّن للقارئ أن العناية باللغة العربية عناية بالشريعة الإسلامية، وأن من يريد فهم القرآن وعلومه فهو بحاجة إلى أن يُتقن علوم اللغة العربية، وأن لا سبيل إلى معرفة أحكام الشرع إلا بمعرفة اللغة العربية وعلومها، وأن اللغة العربية تتميز بخصائص انفردت بها عن غيرها من اللغات في العالم، فهي لغة القرآن الكريم، تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ اللغة العربية بحفظه للقرآن الكريم، وتبيَّن أيضًا اهتمام سلف الأمة من العلماء والخلفاء بدراسة اللغة العربية وآدابها، ووضوح ذلك في أقسام العلوم الشرعية من تفسير وحديث وأصول.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] الضروري في صناعة النحو، لابن رشد الحفيد (99).
[2] تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (14 / 151 – 152).
[3] طبقات النحويين واللغويين، للزبيدي (ص 127).
[4] أسرار العربية، انظر على سبيل المثال: الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، المسألة 5.
[5] الأشباه والنظائر، للسيوطي (1/ 9).
[6] التفسير اللغوي للقرآن الكريم، لمساعد الطيار (154).
[7] آل جعفر، مساعد مسلم والسرحان، محيي هلال – مناهج المفسرين مساعد آل جعفر ومحيي هلال (46).
[8] “أهمية الشاهد النحوي في تفسير القرآن الكريم تفسير (جامع البيان لابن جرير الطبري) نموذجًا”، مجلة الآداب واللغات في جامعة قاصدي مرياح، العدد 6، صفحة 210. لخضر رويجي.
[9] الرسالة، للإمام الشافعي (50).
[10] ينظر: الحكم الشرعي عند الأصوليين؛ لحسين حامد حسان، دار النهضة العربية، القاهرة، 1972م (ص65).
[11] ينظر: الاقتراح في علم أصول النحو، للسيوطي (ص 10-11).
[12] لمع الأدلة في أصول النحو، لابن الأنباري، 1956م، (80).
[13] أخرجه مسلم في “مقدمة صحيحه” (1/ 15).
[14] لمع الأدلة في أصول النحو، لابن الأنباري (80).
[15] فتح المغيث شرح ألفية الحديث، لشمس الدين محمد بن عبدالرحمن السخاوي (2/ 257).
[16] فتح المغيث شرح ألفية الحديث (2/ 225).
[17] الجامع في آداب الشيخ والسامع، للخطيب البغدادي (2/ 26).
[18] الكفاية للخطيب، البغدادي (1/ 389).