خالد حسين أبو عمشة

القياس لغة واصطلاحاً

القياس في اللغة التقدير، يقال: قست الشيء بغيره وعلى غيره أقيس قياسا فالقياس إذا قدرته على مثاله” (لسان العرب، مادة: قيس). وفيه أيضا “اقتاس الشيء وقيسه إذا قدره على مثاله، وقايست بين الشيئين إذا قادرت بينهما” وقاس الشيء بغيره وعليه وإليه. وقد ساق النحاة للقياس تعريفات كثيرة منها التقدير، يقول السيوطي ” العرب قد تنطق بجمع لم يأت واحده فهي تقدره وإن لم يسمع” (الأشباه والنظائر،3/207) ويقال، “قست النعل بالنعل، إذا قدرته وسويته، وهو عبارة عن رد الشيء إلى نظيره” (التعريفات، مادة: قيس).

أمّا في الاصطلاح تتجدر الإشارة بداية إلى أن اللغويين يشيرون أحياناً إلى أنواعٍ مختلفة من القياس فهناك القياس الاستعمالي وهناك القياس النحوي، ويقصد بالقياس الاستعمالي هو وسيلة كسب اللغة في الطفولة، أما القياس الثاني وهو مقصد هذه الدراسة فهو القياس النحوي، أو هو النحو كما يراه النحاة، وبذلك يمكن القول بأن القياس الاستعمالي التطبيقي هو قياس الأنماط والقياس النحوي هو قياس الأحكام، وهو مدار هذه الدراسة. وعليه فتعج كتب الفقه والأصول واللغة بتعريفات شتى للقياس النحوي، (الأصول”: 177) وسأكتفي بعرض بعض منها وخصوصاً لأهل اللغة، يقول الرماني في كتابه الحدود في النحو:

القياس هو الجمع بين أول وثانٍ يقتضيه في صحة الأول الثاني، وفي فساد الثاني فساد الأول، (الحدود 38) فيما يعرفه ابن الأنباري في لمع الأدلة بقوله: حمل فرع على أصل بعلة، وإجراء حكم الأصل على الفرع، أمّا الدكتور كمال جبري فيرى بأن القياس: هو حمل ما يجد من تعبير على ما اختزنته الذاكرة وحفظته ووعته من تعبيرات وأساليب كانت قد عُرفت أو سمعت، (المفصل: 257) فيما يرى الدكتور علي أبو المكارم (27) بأنّ للقياس مدلولين في اصطلاح نحاة العربية الأوّل يرتكز على مدى اطّراد الظاهرة في النصوص اللغوية مروية أو مسموعة، واعتبار ما يطرد من هذه الظواهر قواعد ينبغي الالتزام بها وتقويم ما يشذّ من نصوص اللغة عنها، أما المدلول الثاني للقياس فهو عملية شكلية يتم فيها إلحاق أمر بآخر لما بينهما من شبه أو علّة، فيعطى الملحق حكم ما ألحق به، ولهذه العملية أطرافاً أربعة: المقيس والمقيس عليه، والجامع بينهما، والعلة.

وكذلك قرر الخطيب (1/425-426) إذ جعل للقياس مفهومين:

الأول قياس النصوص: حيث يورد مصطلح القياس فيه حول القاعدة النحوية ومدى اطرادها في النصوص اللغوية، واعتبار ا يطرد قواعد ينبغي الالتزام بها وتقويم ما يشذ من نصوص اللغة عنها، وقد مثل على ذلك بالقول: كل واو متحرك ما قبلها تقلب ألفاً، ويسمى قياساً صرفياً ولا يخفى أنه من قبيل الاستقراء، فعلى هذا: القانون المستنبط من تراكيب العرب إعراباً وبناءً يسمى قياساً نحوياً.

والثاني: قياس الأحكام الذي لا يقوم على تجريد القوانين ووضع الأحكام إنما مداره الاجتهاد وربط الظواهر النحوية التي تثبت بالاستقراء، وهو في عرف اللغويين: عبارة عن تقدير الفرع بحكم الأصل، وقيل هو حمل فرع على أصل بعلة وإجراء حكم الأصل على الفرع، وقيل هو إلحاق الفرع بالأصل بجامع، وقيل هو اعتبار الشيء بالشيء بجامع، وهذه الحدود كلها متقاربة. وكلاهما يهدفان إلى تنظيم نظرية الفكر النحوي.

نشأة القياس

إنّ غاية النحاة وضع القواعد والضوابط والأحكام لأمرين: أولهما التمكن من تحليل النص القرآني على الوجه المرضي وفهمه فهماً صحيحاً، وثانيهما حفظ اللسان العربي من الضياع؛ لذلك انبرى الأوائل فاستنبطوا نظاماً ليكون حجة تقي المسلم اشتباه السبل بينه وبين النص القرآني، وهذا النظام ملزم وسلطة حاكمة وشرع لا ينبغي مخالفته، وإن كان الشرع في اللغة من اللغة نفسها، وقد تمخض هذا المجهود عن مفهوم نظري غاية في الأهمية بل يعد أساس العمل النحوي وركيزته ألا وهو القياس. الذي يبدأ بملاحظة الظواهر اللغوية ثم تصنيف هذه الظواهر واستقراء عناصر جزئياتها بالمقابلة والحوار والاستنطاق، وينتهي بأن يحاول أن يستظهر القانون الجامع الذي يفسر لنا هذه الظواهر، ويستخلص الأحكام التي يجب اتباعها، ويعدّ شاذاً إذا خرج عنها.(ضوابط الفكر النحوي: 1/421)

مرحلة النشأة

نشأ القياس أول ما نشأ- في رحاب مدينة البصرة، يدل على ذلك قول أبي فَيْد مؤرخ السدوسي أنه قدم من البادية ولا معرفة له بالقياس في العربية، وإنما كانت معرفته قريحته، (كمال جبري، المفصل: 258) ولعلّ أقدم مَن ينسب إليه الولوع بالقياس من متقدمي النحاة عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي المتوفى سنة 118هـ، وأثر بأنه أول مَن فرّع النحو وبعجه، وهو الذي مدّ القياس والعلل، حتى أنه وسم بأنه كان شديد التجريد للقياس.

مرحلة المنهج

وتطور الفكر النحوي عموماً وأصول القياس وضوابطه خصوصاً، فقد شهدنا مرحلة تأسيس المنهج لدى عيسى بن عمر الثقفي وأبي عمرو بن العلاء، وقوي عند الخليل، (كمال جبري: 259) فقد عرف عن الخليل توسعه في القياس وتصحيحه لبعض قواعده، فهو كاشف قناعه كما قال ابن جني، والناظر لكتاب سيبويه يجد فيه أمثلة كثيرة للأقيسة المختلفة المتعددة، مما يدل على أن القياس وصل على يد الخليل إلى كامل نضجه، وتمام قوته، أنه أصبح أساساً من أسس الدراسة النحوية التي تبنى عليها القواعد، ويوزن بها الكلام، (الزبيدي: 19) ويمكن القول عموماً بأنّ أئمة المذهب البصرية نَحوا بالقياس نحو الدراسة العلمية المنهجية خصوصاً لدى ابن جني وابن علي الفارسي.

مرحلة التنظير

يمكن القول بأن مرحلة التنظير للقياس النحوي بدأت متأثرة بالبحوث الفقهية والأصولية، فقد تصدى لها أبو البركات الأنباري منهجاً وتعريفاً وتفريعاً، وصنف كتابه في أصول النحو الذي قال في مستهله بأنه وضع كتابه على حد أصول الفقه لأن بينهما من المناسبة ما لا يخفى والنحو معقول من منقول، كما أن الفقه معقول من منقول، ويعرف حقيقة هذا أرباب المعرفة بهما، وبذلك جعل القياس النحوي تقدير الفرع بحكم الأصل، وبذلك صار القياس ذا حد وشروط وأركان. ويرى الزبيدي بـ تعريفات الأنباري تختلف تماماً عن تعريفات السابقين عليه، فهو قد نقلها عن الفقهاء.(الزبيدي: 20)

ويرى أبو المكارم (32) بأن النحاة قد اضطروا بعد أن تحدد تصورهم لمدلول القياس على هذا النحو إلى التصدي لعدد من المشكلات التي لم يكن بد من مواجهتها، وتحديد موقفهم منها، وهي:

تحديد معنى الاطّراد، وما الأسباب التي اتبعوها لاستكشاف المطرد وغير المطرد؟

وقد اضطرهم الاطراد إلى تحديد موقفهم من استقراء المادة اللغوية، وبذلك ظهرت المشكلة الثانية وهي كيفية استقراء النصوص اللغوية. وأبرز أسس الاستقراء المتبع كانت: تحديد مصادر المادة اللغوية التي اعتمدت على السّماع والرواية. ويقصد بالسماع الأخذ المباشر للمادة اللغوية عن الناطقين بها، والرواية ما يرويه العالم ما سمعه من عالم آخر أو جيل سابق من المتكلمين باللغة أو العلماء. وقد اعتمد النحاة في جمع المادة اللغوية واستقرائها:

أعراب البادية المنتشرين في بوادي الحجاز ونجد وتهامة.

فصحاء الحضر.

ومن العلماء الذين اشتهروا بجمع المدة اللغوية الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي وضن ما سمعه في عشرين رطلاً، والكسائي الذي أنفد خمس عشرة قنينة حبر في التدوين، وأبي عمرو الشيباني الذي دخل البادية ومعه دستيجتان من حبر فما خرج من البادية حتى أفناهما بكتب سماعه عن العرب. وكانت الرواية هي الطريق الثاني الاستقراء المادة اللغوية واستقصائها، وكانت الرواية حتى أواخر القرن الأول الهجري مقصورة على الشعر وحده، ومن ثم تطورت وضمت مرويات أخرى غير شعرية من نثر وأمثال وخطب إلخ، وتم هذا النقل بطريقين:

تدوين الرسائل المختلفة التي ذكر فيها العلماء محفوظاتهم ومسموعاتهم.

ما ذكره النحاة المتقدمون أنفسهم في مؤلفاتهم في أثناء عرضهم للظواهر اللغوية المختلفة وتقعيدهم لها.

 

ترك تعليق