محمد تبركان
قد يكون دواء الكبير داءً للصغير
طالب العلم الصَّغير مشغوفٌ دائمًا بِمُتابعة أخبار من سبَقوه، ومُطالعة الجديد لدى من تقدَّموه؛ فماذا يقرَؤون الآن؟ وماذا يحفظون؟ وماذا يفعلون؟ وفيمَ يُطالعون؟!
كلُّ هذا قد تجده شغلاً شاغلاً لطالب العلم المبتدِئ الَّذي لم يصل بعدُ إلى عُشر ما حصَّله هؤلاء، ولكنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من ذلك، فالنَّفس مجبولةٌ على مثل هذا.
فتراه مثلاً يجد مقالاً لبعض من سبقوه يتكلَّم عن كتابٍ جديد مِمَّا صدَر في الأسواق، ويجد الكاتب يقول: هذا الكتاب مهمٌّ جدًّا، وقد قرأته كاملاً، وانتقيتُ منه الفوائد… إلخ.
فترى هذا المسكين لا يقَرُّ له قرار، ولا يستطيع النوم، ولا الرَّاحة حتَّى يَشتري هذا الكتاب مهما كلَّفه، ثم يتَعانى قراءته ومطالعته من أوَّله إلى آخره، ويظنُّ بذلك أنه قد يبلغ مبلغَ هذا الذي سبقَه في العلم، ولا يدري أنَّ هذا الذي ظنَّه دواءً فيه الداءُ العظيم، بل السمُّ الزعاف!
فليس كلُّ دواء يصلح لكلِّ مريض، وليس كل الطعام يصلح لجميع الأجساد، فالذي يفيدك أنت في مرحلتك قد يكون تافِهًا بالنسبة لغيرك، والذي يفيد غيرك قد يكون ضارًّا لك، وهكذا.
فينبغي أن تبحث عمَّا يُناسبك من الكتب، وما يتعلَّق بمرحلتك من المصنَّفات والمتون والمنظومات وغيرها، ولا تتعجَّل الشيء قبل أوانه؛ حتَّى لا تُعاقب بحرمانِه؛ ولا تكوننَّ كمن يتناول دواء مسهِّلاً وهو مصاب بالإسهال، يظنُّ فيه الدواء، وهو الموت العاجل!
أو كمن يتناول دواءً لزيادة الوزن، وهو مصاب بالسمنة!
أو كمن يتناول دواء لخفض الوزن، وهو مصاب بالنَّحافة!
أو كمن يتبرَّع بالدم، أو يحتجم، وهو مصاب بجرحٍ يَنْزف!
أو كمَن… أو كمن.
وكثيرًا ما تقرأ في كلام أهل العلم أنَّ “مِثْل هذه الكتب لا تصلح إلاَّ لمن كان متمكِّنًا من علوم الشريعة، قادرًا على معرفة الصواب، مُلمًّا بالأصول التي تجعله يردُّ هذه الشبهات“.
وعندما اختلفوا في حكم المنطق ما بين مُجِيز ومحرِّم، قال بعضهم:
وَالقَوْلَةُ الْمَشْهُورَةُ الصَّحِيحَهْ جَوَازُهُ لِكَامِلِ القَرِيحَهْ مُمَارِسِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ لِيَهْتَدِي بِهِ إِلَى الصَّوَابِ |
فلا يصحُّ لكلِّ أحدٍ أن ينظر مثلاً في كتب النَّصارى واليهود، وما قِصَّة عمر وصحيفة التوراة عنَّا ببعيد.
ولا يصحُّ لكلِّ أحد أن ينظر في كتب الشِّيعة والرَّوافض، أو كتب المعتزلة والجهميَّة.
وبالجملة فلا يصحُّ لكلِّ أحدٍ أن يُطالع كتب الفِرَق الضالَّة، التي تبثُّ الشُّبهات، وتَنْصر الضلالات، وتؤسِّس الجهالات؛ فإنَّ قلب المبتدئ فارغٌ يَمتلئ بأوَّل شيء يَرِد إليه، حتى لو كان باطلاً؛ كما قالوا قديمًا:
أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَّنَا |
وبعض الناس يَصْلح معهم النِّقاش العقليُّ، وإيراد الأدلَّة، والأخذ والرد؛ وذلك لأنَّ لديها الأهليَّةَ لمثل هذا، فتستطيع أن تعرف الصوابَ من الخطأ، والحقَّ من الباطل، والدليلَ الصحيح من البهرجِ المزخرَف، وهكذا.
ولكن هذا مثلاً لا يصلح للمراهقين، فضلاً عن الأطفال، فهؤلاء لهم طريقة أخرى في التعامل؛ بحسب ما لديهم من معلومات قليلة، وما عندهم من فَهْم ضعيف، فإذا سألَك ابنُك الصغير عن شيءٍ محرج، فلا تُسارع إلى جوابه بعباراتٍ لا تُناسب إلاَّ الكبار، بل عليك أن تتلطَّف في الجواب، وتعطيه كلامًا مقنِعًا مفهومًا، وصحيحًا في آنٍ واحد؛ ولذلك وجَدْناهم يصنِّفون الكتب، ويضعون الأشرطة، والوسائل التعليميَّة في “كيفيَّة الجواب عن أسئلة الطفل الحَرِجة“.
وكذلك فالناس الكبار أيضًا يختلفون فيما يُناسبهم؛ فبعض الناس يناسبه الأسلوب العلميُّ المبني على البراهين والأدلَّة العقلية، وبعضهم يناسبه الأسلوب الحماسيُّ الخِطَابي، وبعضهم يناسبه الطريقة الحسِّية الرُّوحانية الوجدانية، وهكذا.
وقد أرشدَنا ربُّ العباد إلى مثل هذا حينما صرَّف آيات القرآن الكريم بين الوَعْد والوعيد؛ لأنَّ بعض الناس لا يُصْلحه إلاَّ الوعد والبِشارات والثواب العظيم، وبعضهم لا يصلحه إلاَّ الوعيد والنِّذارة والتخويف الكبير.
والنَّظر في هذه المسألة له وجهاتٌ متعدِّدة؛ فهناك نظرٌ من جهة العالِم والمتكلِّم الذي يعطي المعلومة، ويطالَب بأن تكون مناسبة للفئة التي يوجّه إليها الكلام، وهناك نظرٌ من جهة المتعلِّم الذي ينبغي له أن يعرف قدر نفسه، ويضعها في موضعها اللاَّئق بها، فلا يرتفع بها عن رتبتها، ولا يضعها دونها، وإذا شعر من نفسه أنه غير قادر على معرفة هذه المرتبة، فليستعن بأهل العلم، ولْيَلزمهم؛ حتَّى لا يضلَّ ولا يزل.
ولكن الداء العُضال الذي أعيا الحكيم، واستعصى على العلاج هو ذاك الطَّالب الذي لا يعرف رتبة نفسه، ولا يعرف أنَّه لا يعرف! فمثل هذا يحتاج من أهل العلم إلى أن يَبحثوا عنه، ويُكْثروا من إيراد الأقوال النَّافعة عليه، ويُغْدِقوا عليه من العبارات الهادية؛ حتَّى يهتدي إلى الصواب.
والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.