محمد تبركان

بَيْنَ القِوامَة والقِيام والقِوام[1]

لقد شاعَ في عصرِنا كلماتٌ منها ما له أصلٌ صحيحٌ في لغتنا العربيّة، ومنها ما لا يمتُّ للغتِنا بأيِّ صِلَة؛ لأنّها من الدّخيل الهجين، حيث أُقحِمت في العربيّة؛ لأسبابٍ كثيرة منها ظنُّهم أنّها بحاجة لمثل هذا التّطعيمِ الخارجيّ من لغاتِ العالم ولهجاتِه؛ جاءَ ذلك بناءً على زعمهم من أنّ العربيّة فقيرةٌ في مفرداتِها، جامدةٌ في قواعدِها، لا تستطيعُ وإنْ أرادتْ مسايرةَ الأحداث والتّطوُّرات الحاصلة في دنيا النّاس في شتّى مجالات الفنون والعلوم التّجريبية والنّظريّة!. وكأنّهم ما دَرَوْا أنّها وسعتْ كتابَ اللّه عزّ وجلّ، وشريعتَه الخالدة، وأنّها الوحيدة من بين لغاتِ العالَم أجمع الّتي استطاعت بما حَباها اللّه تعالى من خصائص أن تكونَ أصدقَ مُعبِّر عن مكنوناتِ الضّمائر، وخفايا الصّدور، مِن الأحاسيس والمشاعر، وأنّ العلوم التّجريدية كان لها فيها الحظّ الأوفر في بسطها وبيانها. والشأنُ فيها ما قال الشّاعر[2] على لسانها:

وَسِعْتُ كِتابَ اللّهِ لَفْظًا وغايَةً

وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِضاتِ

فكيفَ أضيقُ اليومَ عن وصفِ آلةٍ

وتَنسيقِ أسماءَ لمُخترعاتِ

 فمن الكلماتِ الّتي لها أصلٌ صحيحٌ، وشاعَ استعمالُها في زماننا كلمة (القِوَامَة) بكسر القاف وفتح الواو والميم، والّتي تعني: القِيام على الأمر أو المال ورعاية المصالح.

 أقَرَّ توظيفَها المعجم الوسيط (ص768 ع1-2)[3]، وذكرها في معجم لغة الفقهاء (1/ 372)[4]. أمّا صاحبُ الفضيلة العلاّمة بكر أبو زيد فقد شكَّكَ في صحّتها من حيث اللّغةُ بقوله في حراسة الفضيلة (ص19): (قال اللّه تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ [5]. وانظر إلى أثر هذا القيام في لفظ القرآن الكريم).

 ثمّ علّق على لفظة (القيام) بقوله في(هامش3): (هذا هو اللّفظ السّليم لغةً، وأمّا: ” القوامَة ” – بفتح القاف أو كسرها – فلم أتبيَّنْها، وانظر: ” المعجم الوسيط ” فقد أثبتها؟! ).

 كذا قال – رحمه اللّه -. لكنّ وزن (الفِعالَة) بكسر الفاء في اللّغة العربيّة يُصاغُ منه كلّ ما دلَّ على حِرْفَةٍ أو صِناعَة أو وِلايَة[6]؛ لأنّه مصدرُه القياسيّ؛ فإذا كان ذلك كذلك فإنّ لفظة (القِوامة) بكسر القاف صحيحةٌ لغةً، لجريانها على القياس. قال ابن جِنِّيّ[7]: (ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب)، ومن نظائره كلمات منها: كَتَبَ كِتابَةً، وخاطَ خِياطَةً، ونَقَبَ نِقابَةً، وحاكَ حِياكَةً، وحَجَمَ حِجامَةً، ووَلِـيَ علـيهم وِلايَةً.

 قال الخضريّ في حاشيته على ابن عقيل (باب أبنية المصادر): ” قوله: (إذا لم يستحق إلخ). الحاصلُ أن فَعَلَ بالفتح القاصر يطَّرِدُ في مصدره فعول إلاّ في الخمسة الّتي ذكرها المصنِّف ويُزاد عليها ما دلّ على حِرفة أو وِلاية فمصدرُه فِعالَة بالكسر كتَجَر تِجارَة وسَفَر سِفارَة وأَمَرَ إِمارَة ونَقَبَ نِقابَة أي صار نقيباً أي عريفَ القوم فتحصَّلَ مِن هذا مع ما مرَّ أنّ فِعالَة يَنْقاسُ في الحِرفة والوِلاية من فَعَلَ المفتوح لازِماً كان كما هنا، أو متعدِّياً كما مرَّ ومنه نحو: نَجَرَ نِجارَةً بالنّون والجيم، وكَتَبَ كِتابَةً، وأمّا إتيانُها لفَعِل بالكسر اللاّزم في الحِرفة والوِلاية فنادِرٌ كوَلِيَ عليهم وِلايَةً“.

 فوزنُ (الفِعالَة) بكسر الفاء للاشتمال مثل العِصابَة والعِمامَة والقِلادَة والغِشَاوة؛ ولذلك جاءَ أكثرُ أسماءِ الصِّناعات على هذا الوزن؛ لاشتمالها على كلِّ ما فيها؛ فكلُّ ما كان من جنس الصِّناعة نحو القِصارة والخِياطة فهي مكسورة الفاء، نحو الخِياطَةِ والقِصارَةِ[8]. قرّر ذلك في تهذيب اللّغة (3 /88 باب الغين والشين)، والفروق اللّغويّة (1 /231 حرف الدّال)، ولسان العرب (15 /405).

 وكذا يقال في (القِوامَة)؛ لأنّها في حكم المِهن والصّنائع كما لا يخفى.

 ويراجع:

1-    أدب الكاتب (ص438 باب ما جاء على فعال فيه لغتان فَعال وفِعال بفتح الفاء وبكسرها).

2-    أساس البلاغة (ص382 ع2).

3-    إصلاح المنطق (1 /34).

4-    ألفية ابن مالك وشروحها (أَبْنِـيَةُ الْـمَصَادِرِ).

5-    تاج العروس (33 /307320).

6-    تقويم التّقييم لفيصل المنصور (مقال بموقع ملتقى أهل اللّغة/حلقة النّحو والصّرف).

7-    تهذيب اللّغة (9 /357 باب القاف والميم – قام).

8-    حاشية الصَّبّان على شرح الأشمونيّ لألفية ابن مالك (1 /1138 – 1139 أبنية المصادر).

9-    الصِّحاح (5 /2016 – 2017 قوم).

10-                   العين (5 /232233).

11-                   فتح الباري (4 /491 كتاب جزاء الصيد -2- باب َإِذَا صَادَ الْحَلاَلُ فَأَهْدَى لِلْمُحْرِمِ الصَّيْدَ أَكَلَهُ).

12-                   فصيح ثعلب (ص116 باب المكسور أوّله).

13-                   القاموس المحيط (1152 القوم).

14-                   لسان العرب (12 /496506).

15-                   مختار الصِّحاح (ص557 – 558).

16-                   المصباح المنير (ص309 ق وم).

17-                   معجم الأغلاط اللّغويّة المعاصرة (ص562 رقم1615).

18-                   المعجم الوسيط (ص767 ع3).

19-                   معجم لغة الفقهاء (1 /448449).

20-                   المغرب في ترتيب المعرب (2 /200201).

21-                   مفردات الرّاغب الأصفهانيّ (ص416 – 419 قوم).

22-                   النّهاية (4 /124 – 125 قوم).

 


[1] جذر هاتين اللّفظتين هو (ق و م)، كما قال في اللّسان (12 /503 ع2): (وقامَ كان في الأصل قَوَمَ أَو قَوُمَ فصار قام). قال الطّبريّ في تفسيره (3 /4 /167 النّساء 5): (وأمّا قوله: الّتي جعل اللّه لكم قياما فإنّ قياما وقيما وقواما في معنى واحد. وإنّما “القِيام” أصله “القِوام”، غير أنّ “القافَالّتي قبل “الواو” لمّا كانت مكسورة، جُعِلت “الواوُ” “ياءً” لكسرة ما قبلها، كما يقال: “صُمْت صِيامًا”، “وحُلْت حِيالا”، ويقالُ منه: “فلانٌ قِوام أهل بيته” و”قِيام أهل بيته”)، وقال في (5 /7 /49 المائدة 97): (وقيل: قِيامًا للنّاس بالياء، وهو من ذوات الواو، لكسرة القاف، وهي فاءُ الفعل، فجُعِلت “العين” منه بالكسرة “ياءً”، كما قيل في مصدر: قمتُ قِيامًا، وصمتُ صِيامًا، فحُوِّلت “العينُ” من الفعل: وهي “واوٌ” “ياءًلكسرة فائه. وإنّما هو في الأصل: “قمتُ قِوامًا”، و”صمتُ صِوَامًا”، وكذلك قولُه: “جعلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرامَ قِيامًا للنّاس”، فحُوِّلتْ، واوُها ياءً، إذ هي “قِوام”. وقد جاء ذلك مِن كلامهم مَقولًا على أصله الذي هو أصلُه قال الرّاجز: = قِوامُ دُنْيَا وَقَوَامُ دِين = فجاء به بالواو على أصله).

وقَِوامُ الأمر بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وقُومِيَّته: نِظامُه ومِلاكُه وعِمادُه الَّذِي يَقُومُ بِه ويَنْتَظِمُ. وقد َتُقْلَبُ الْوَاوُ يَاءً (قِيام) جَوَازًا مَعَ الْكَسْرَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْكَسْرِ (قِيام)، قَال تَعَالَى﴿ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ﴾ [النّساء/5]، وقال:﴿ جعلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرامَ قِيامًا للنّاسِ ﴾ [المائدة/97] أي: قِوامًا لهم يقومُ به معاشُهم ومعادُهم. قال أَبو عبيدة: ” هو قِوامُ أهل بيته، وقِيامُ أهل بيته، وهو الذي يُقيم شأْنَهم مِن قوله تعالى: ﴿ ولا تُؤتوا السُّفهاءَ أَموالَكم الّتي جَعلَ اللهُ لكم قِياماً. وقامَ على أهله: تَولَّى أمرَهم، وقامَ بنفقاتِهم. وماءٌ قائمٌ: دائمٌ. وقامَ على الأمر: دامَ وثبتَ، وقِوامُ الجِسم تمامه، وقِوامُ كلِّ شيءٍ ما استقام به. وفي الحديث: (قِوامُ أُمَّتي بشِرارها) [صحيح الجامع 2 /813 رقم 4413: حسن]، والقِوامُ من العيش: بالكسر ما يقيمُ الإنسانَ من القُوت، وقال صاحب القاموس (1 /1487): (القَوام كسَحاب ما يعايش به، وبالكسر نظامُ الأمر وعماده)؛ ففرّق بينهما. قال في النّهاية (4 /124 قوم): ” وفي حديث المسألة: أَو لذي فَقْرٍ مُدْقِع حتى يُصِيب قَواماً من عيش. أَي ما يقوم بحاجته الضرورية “.

[2] البيتان لحافظ إبراهيم ضمن قصيدة ماتعة في وصف حال اللّغة العربيّة – جواهر الأدب (1 /2 /352) -.

[3] وفيه: ” (القِوامَة) القِيام على الأمر والمال، أو وِلاية الأمر. (القِيامُ): قِيامُ الأمر: قِوامُه “.

[4] وفيه: ” القِوَامَة: بكسر القاف وفتح الواو والميم، القيام على الأمر أو المال ورعاية المصالح. [القِوامَة]- الولاية (ر: قيم) وهي على نوعين: قوامة على النفس، وقوامة على المال “. اه بتصرُّف

[5] النّساء/34.

[6] الوِلايات فـي معنى الـحِرَف.

[7] الخصائص (1/102، 120).

[8] قال في المحكم والمحيط الأعظم (2 /494): (والقَصَّارُ، والمُقَصِّرُ: المُحَوِّرُ للثِّيابِ، لأنّه يَدُقُّها بالقَصَرَة التي هي القِطعة مِن الخَشبة. وحِرفتُه: القِصارَة).

ترك تعليق