تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِين
اعلمْ – وفّقك اللّه لِمَراضيه – أنّ هذه اللّفظة (تَبَارَكَ) لا يجوز شرعًا كما لا يَصِحُّ لغةً أن تُسنَدَ أو يُوصَفَ بها غيرُ اللّهِ تَباركَ وتعالى؛ نظرًا لما يَتضمّنه قالبُها اللّفظيّ من دلالة ومعنًى لا يَستحقّه إلاّ هو عزّ وجلَّ، فإنْ صُرِفَت لغيرِهِ تعالى؛ صارَ ذلك افتراءً للكذب صارخًا، وادّعاءً لحقٍّ لم يُحَلِّ اللّهُ به أحدًا من العالمين.
يَدُلُّ على هذه الحقيقة نصوصُ القرآن الكريم، والسنّةُ النّبويّة المطهَّرَة، وكلامُ العرب[1] مِن مَنثورٍ ومَنظومٍ.
أمّا القرآنُ الكريم فقد وردت فيه هذه اللّفظة (تبارك) في تسعة مواضع جميعها في وصف المولى عزّ وجلّ، بإسنادِ الفعلِ إليه. وهي:
1- ﴿ … أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54].
2- ﴿ … فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14].
3- ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [الفرقان: 1].
4- ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ﴾ [الفرقان: 10].
5- ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾ [الفرقان: 61].
6- ﴿ … ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 64].
7- ﴿ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [الزّخرف: 85].
8- ﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرّحمن: 78].
9- ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الملك: 1].
وفي السنّةِ النّبويّةِ ما لا يكادُ يُحصَى مِن المواضع، مفرّقة في مختلف الدّواوين الّتي عُنِيت بجمع أحاديث حبيب الحقّ، وسيِّد الخلق عليه الصّلاة والسّلام.
وما قيل في السنّة النّبويّة يُقال كذلك في مَنثور كلام العرب، ومَنظومه، بخصوص هذه اللّفظة (تَبَارَكَ).
وإنّي – في حدود مطالعتي – لم أظفرْ بشاهدٍ واحدٍ أُسنِدَتْ فيه هذه اللّفظة (تبارك) لغيرِ اللّه تعالى في القديم والحديث. فإذا كان الأمر كذلك؛ فالقديم قد غبر على اللّفظ القويم، والنّهج السّديد، وأمّا الحديثُ فالحيُّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتَن؛ فلأجل ذلك كان هذا الإيقاظ.
على أنّنا في زمن قد تسمع فيه وترى أيَّ شيءٍ من عفن القول، وبذيء الكلام، وخَلاعة المنظر، بَلْهَ رَطانة العجم، ورَكاكة اللّغة، وما حُشِيَت بهما من الأخطاء والأغلاط، كلُّ ذلك في ظرف من الأساليب المائعة، والتّراكيب الّتي ليس لها صِلَةٌ بلغة الضّاد غير حروفها الأبجديّة!.
أعودُ لأقولَ بأنّ هذا الذي لَفَتُّ النّظرَ إليه، هو بعضُ ما رَقَمَهُ أئمّتُنا في مصنّفاتِهم، وزَبَرَهُ علماؤُنا في دفاتِرِهم، في مَعْرِض التّحذير مِن سَقَطاتِ اللِّسان، وعَثراتِ الأقلام. أذكرُ منهم الإمامَ:
1- ابنَ منظور، قال في لسان العرب (10 /395 برك): (وتَباركَ اللهُ: تقدَّس وتَنزَّهَ وتعالى وتَعاظمَ لا تكونُ هذه الصِّفةُ لغيرِه، أي تطَهَّرَ، والقُدْس الطُّهر).
2- ابنَ دُرَيد، قال في جمهرة اللّغة (1 /237 برك): (” وتبارك ” لا يُوصَفُ به إلاّ اللهُ تبارك وتعالى، ولا يُقال: تباركَ فلانٌ في معنى جلَّ وعَظُمَ؛ هذه صِفةٌ لا تنبغي إلّا للّه عزّ وجلّ).
3- الفيروزباديّ، قال في القاموس المحيط(ص932 البركة): ” وتَبَارَكَ اللّهُ تَقَدَّسَ وتَنَزَّهَ، صِفَةٌ خاصَّةٌ باللهِ تعالى “.
4- ابنَ سِيدَة، قال في المحكم والمحيط الأعظم (7 /23): (وتباركَ اللهُ: تَقدَّسَ وتَنزَّهَ وتعالى وتَعاظمَ، لا تكونُ هذه الصِّفة لغيره).
5- الزّبيديّ، قال في تاج العروس(27 /59): ” وتَبارَكَ اللّهُ أي: تَقَدَّسَ وتَنَزَّهَ وتَعالى وتَعاظَم صِفَةٌ خاصَّةٌ باللّهِ تَعالَى لا تكونُ لغيرِه “.
وبخصوصِ كلامِ أئمّةِ اللّغة في بيان معنى هذه اللّفظة (تبارك)؛ لابأس بإيراد شيءٍ من عباراتهم؛ فيقال:
• ( وسُئلَ أَبُو العَبّاسِ عن تفسير ” تَبارَكَ اللّهُ ” فقال: ارْتَفَع. والمُتبارِكُ المُرتَفِع )[2].
• ( وقالَ الزَّجّاجُ: تَبارَكَ: تَفاعَلَ من البَرَكَةِ كذلك يَقولُ أَهلُ اللُّغَة )[3].
• ( وقالَ ابنُ الأَنْبارِيّ: تَبارَكَ اللّهُ أي: يُتَبَرَّكُ باسمِه في كُلِّ أَمرٍ )[4].
• ( قلت [الأزهري]: ومعنى بركةِ الله: عُلُوٌّ على كلِّ حال )[5].
• ( قال الأَزهرِيُّ: ومَعْنَى بَرَكَةِ اللّه عُلُوُّه على كلِّ شيء )[6].
• ( ومعنى البَرَكة الكثرةُ في كلِّ خير )[7].
• ( وقال في موضعٍ آخر تَبارَكَ: تعالى وتعاظم )[8].
• ( وتَبَارَكَ اللَّهُ: تَمْجِيْدٌ وتَجْلِيْلٌ وتعظيمٌ )[9] لِلَّه عزّ وجلّ.
• ( وأصلُ البَرَكَةُ: الزِّيادةُ والنّماء )[10].
• ( وتباركَ اسمُك تفاعل مع البركة كما يقالُ: تعالى اسمُك من العُلُوِّ يُراد أنّ البركةَ في اسمِك وفيما سُمِّي عليه)[11].
• ( وقالَ أبو بكر: معنى تبارك: تقدّسَ أي تَطهَّر، والمُقدَّسُ: المُطهَّر )[12].
• و( تباركَ اللهُ: أي بَقِيَ ودامَ، فهو تَفاعَلَ في معنى فَعَلَ لا تَكلُّفَ فيه، تعالى اللهُ عن ذلك )[13].
• ( وقد تكلَّمَ قومٌ في: ” تَباركَ اللّهُ ” ففسَّروه العُلُوّ لأنّ البَرَكة في الشّيء النَماءُ بعد النّقصان، وهذه صفةٌ منفيَّةٌ عن اللهِ عزّ وجلّ، وقال آخرون: ” تَبارك اللهُ ” كأنّه تَفاعَل من البَرَكة وليس من النَّماء، وإنّما هو راجعٌ إلى الجلال والعَظمة)[14].
• ( ومعنى قول القائل: تباركَ اللهُ، أي تعالى )[15].
• قال الأمير عبيد الله بن أحمد أبو الفضل الميكاليّ[16]:
سُبحانَ ربِّي تَباركَ اللهُ ما أشبهَ بعضَ الكلامِ بالعَسَلِ |
• وقالَ بَكْر بن حَمّاد[17]:
تَباركَ مَن ساسَ الأمورَ بِعِلْمه وذَلَّ له أهلُ السّمواتِ والأرْضِ ومَنْ قَسَمَ الأرزاقَ بين عِباده وفَضّلَ بَعضَ النَّاس فيها على بعضِ فمَن ظَنَّ أنّ الحِرْصَ فيها يَزيدُه فقُولُوا له يزدادُ في الطُّولِ والعَرْضِ |
• وقال أبو العتاهية[18]:
تَباركَ مَن لا يملكُ الملكَ غيرُه متى تَنقَضِي حاجاتُ مَن ليس يَشبَعُ |
• وقال الشّاعر[19]:
فلستُ لإنسِيٍّ ولكنْ لِمَلْأَكٍ تَباركَ مَن فوقَ السّماواتِ مُرسِلُه |
• وقال الآخر:
تَباركَ اللهُ ذو الآلاءِ كمْ سَفَرَتْ وُجوهُ أَحكامِهِ لِلْخَلْقِ عن حِكَمِ |
وينظر:
1- الاشتقاق (ص247).
2- تاج العروس (27 /59 برك).
3- تهذيب اللّغة (10 /230 برك).
4- الحور العين (ص72).
5- دليل الفالحين (1 /1 /74).
6- شرح ديوان الحماسة (2 /1690).
7- الصِّحاح في اللّغة (4 /1575 برك)
8- العين (1 /442، 445).
9- غريب الحديث لابن قتيبة (1 /16).
10- غريب القرآن (ص55).
11- لسان العرب (10 /395).
12- المحكم والمحيط الأعظم (7 /22 – 24).
13- المحيط في اللّغة (6 /260).
14- مختار الصِّحاح (1 /27 برك).
15- معجم الأفعال المتعدِّية بحرف (1 /9 برك).
[1] أعني العرب المعتبر كلامهم ليس غير.
[2] لسان العرب (10 /395)، وتهذيب اللّغة (10 /230)، وتاج العروس (27 /59 برك).
[3] لسان العرب (10 /395)، وتهذيب اللّغة (10 /230)، وتاج العروس (27 /59 برك).
[4] لسان العرب (10 /395)، وتهذيب اللّغة (10 /230)، وتاج العروس (27 /59 برك).
[5] تهذيب اللّغة (10 /231).
[6] تاج العروس (27 /58 برك).
[7] لسان العرب (10 /395)، وتهذيب اللّغة (10 /230).
[8] لسان العرب (10 /395)، المحكم والمحيط الأعظم (3 /175)، تهذيب اللّغة (10 /230).
[9] لسان العرب (10 /395)، العين (1 /442)، المحيط في اللّغة (6 /260)، تهذيب اللّغة (10 /230)، تاج العروس (27 /59)
[10] تاج العروس (27 /57).
[11] غريب الحديث لابن قتيبة (1 /16)
[12] تهذيب اللّغة (10 /231).
[13] شرح ديوان الحماسة (2 /1690).
[14] جمهرة اللّغة (1 /272 – 273 ب ر ك).
[15] الحور العين (ص72).
[16] يتيمة الدّهر (4 /409 الباب لثامن).
[17] العقد الفريد (1 /330).
[18] الأغاني (1 /365).
[19] العين (1 /445).
[20] خريدة القصر وجريدة العصر (2 /295 باب في ذكر فضائل جماعة من الفضلاء أيضاً بدمشق من الكتّاب والأجناد وغيرهم).