محمد تبركان
العَارِيَّةُ لاَ العَارِيَةُ
تقولُ: العَارِيَّةُ والعَارَةُ، وحقيقتُها[1]: هي ما تُعطيهِ غيرَك على أن يُعيدَه إليك، قال الجرجانيّ في التّعريفات (ص188 باب العين): (” العَارِيَّةُ “: هي بتشديد الياء تَمليكُ منفعةٍ بلا بَدَل). قال الشّاعر (الرّمل):
إِنَّما أنفُسُنا عَارِيَّةٌ = وَالعَوَارِيّ قُصَارٌ أَنْ تُرَدُّ[2]
وقد قيل: كلُّ عارَةٍ مُسْتَرَدَّة.
ولعلَّها سُمِّيَتْ بذلك لِتَعَرِّيها عن العِوَض[3]، وقال اللّيث: لأنّها عارٌ على مَن طلبَها[4].
(قيل في المثل: ” إنّه قيل للعاريّة أين تذهبين؟. فقالت: أجلُبُ إلى أهلي مَذَمَّةً وعارًا)[5]، وفي وصيّة لأكثم بن صيفيّ[6] قال: لو سُئلَتْ العاريّة قالت: أبغي لأهلي ذُلاًّ).
قال الأزهريّ[7]: (وأَمّا العارِيَّة فإِنَّهَا منسوبةٌ إِلى العَارَةِ، وهو اسمٌ من الإِعارَة، تقول: أَعَرْتُه الشَّيءَ أُعيرُه إِعارَةً وعَارَةً، كما قالوا: أَطَعْتُه إِطاعَةً وطَاعَةً، وأَجَبْتُه إِجابَةً وجَابَةً. قال: وهذا كثيرٌ في ذَوات الثَّلاثِ، منها الغارَةُ والدَّارَةُ والطَّاقَةُ وما أَشْبَهَهَا).
و(ذهبَ بعضُهم إِلى أَنّها مِن العارِ، وهو قُوَيلٌ ضعيفٌ، وإِنّما غَرَّهم منه قولُهم: يَتَعَيَّرُون العَواريِّ، وليس على وَضْعِهِ، إِنّما هي مُعاقبة مِن الواو إِلى الياء)[8].
قال في المغرب (2 /89): (… وأخْذُها من العارِ العَيْب، أو العُرْيِ خطأٌ).
وقد غلط في ضبطِها ولفظِها كثيرون حين قالوا: عَارِيَة بتخفيف الياء، والصّوابُ بتشديدها، بدليل ما في:
1. إصلاح غلط المحدّثين (ص80 رقم 36) قال الخطّابيّ: (وممّا يجبُ أنْ يثقَّلَ وهم يُخفِّفُونَهُ قولُ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: (العارِيَّةُ مؤدَّاةٌ). مُشدَّدَة الياء، وتُجمعُ على العَوارِيّ، مُشدَّدَة كذلك. وهي اللُّغةُ العاليةُ. وقد يُقالُ أيضاً: هذه عاريَّةٌ وعَارَةٌ).
2. الفصيح (ص139 الشّهاب) قال ثعلب: ([باب المُشدَّد] وهي العَارِيَّة).
3. أدب الكاتب (ص289 – 290) قال ابنُ قتيبة: (باب ما يُشَدَّد، والعوامّ تُخَفِّفُه =، وهي ” العَارِيَّةُ ” بالتّشديد و” العَوَارِيّ “…).
4. إصلاح المنطق (1 /176 – 177) قال ابنُ السِّكِّيت: (بابُ ما يُشَدَّد: = وهي العَارِيَّةُ وجمعُها عَوارِي، ويُقال: تَعَوَّرْنا العَوارِي بيننا، وقد أَعَرْتُه الشّيءَ إعارةً وعارَةً).
ثمّ سَرَى هذا الغلطُ في لفظِ جملةٍ من أحاديثِ المصطفى – عليه وعلى جميع الأنبياء أفضل الصّلاة وأزكى التّسليم – فمنها:
1. صحيح مسلم (8 /16 /12 رقم 2144 نوويّ) ← بالتّخفيف.
2. سنن أبي داود (3/ 5/ 51 رقم 1654 عون المعبود) ← بالتّخفيف.
3. سنن أبي داود (5 /9 /344 – 345 رقم 3557 عون المعبود) ← بالتّشديد.
4. سنن أبي داود (5 /9 /346 رقم 3558 عون المعبود) ← بالتّخفيف.
5. سنن أبي داود (5 /9 / 346- 347 رقم 3560 عون المعبود) ← بالتّخفيف.
6. سنن أبي داود (5 /9 / 347 رقم 3561 عون المعبود) ← بالتّخفيف.
7. سنن التّرمذي (3 /565 – 566 رقم 1265 شاكر) ← بالتّخفيف.
8. سنن التّرمذي (4 /376 – 377 رقم 2120 الحوت) ← بالتّخفيف.
9. سنن ابن ماجه (2/ 801- 802 رقم 2398 – 2399 عبد الباقي) ← بالتّخفيف.
مسند أحمد في عشرة مواضع هذه أرقامها: (11617 – 12614 – 13651 مسند أنس) و(14878 مسند صفوان بن أميّة) و(16209 مسند رجل من الأنصار) و(17490 مسند يعلى بن أميّة) و(21791 مسند أبي أمامة) و(22001 مسند عبد الله بن سعد) و(22719 مسند الضحّاك بن الضحّاك) ← جميعُها وردت بالتّخفيف.
فمن هذا العرض يتبيّن أنّ كلمة (العَارِيّة) وما اشتُقّ منها لم تأت على الصّواب (بالتّشديد) إلاّ في موضع واحدٍ، أعني: سنن أبي داود (5 /9 /344 – 345 رقم 3557)، وأمّا في بقيّة المواضع فقد ضُبطت فيها بالتّخفيف؟!.
وليت شعري، ما الّذي دفع النُّسّاخَ إلى ضبطها بتخفيف الياء في أكثر دواوين السنّة؟. أَتُراهم رسموها كما بصُرت بها أعينُهم في الأصول؟. وهذا جريًا على أنّ بعضَهم حكى فيها الوجهين، أم أنّ التّساهلَ وعدمَ الالتفات إلى مثل هذه الفروق كان السّببَ في الوقوع في مثل هذا الغلط؟. إن لم يصحَّ الاحتمال الأوّل، كانت التّبعة في التّدقيق على مَن أخرج هذه الكتب إلى عالم المطبوعات من المحقّقين والنّاشرين[9].
واعلم أنّ كتب اللّغة تُصرِّحُ بتشديد (العَارِيَّة) كما في:
1. الصّحاح (2 /761 عور).
2. مختار الصّحاح (ص462).
3. اللّسان (4 /618 – 619) و(14 /74).
4. النّهاية (3 /320).
5. إصلاح غلط المحدّثين (ص80 رقم 36).
6. تاج العروس (13 /162).
وروى بعضُهم تخفيفها، ترى ذلك في:
1. القاموس المحيط (ص446 العور): (والعَارِيَّةُ مشدَّدَة وقد تُخفَّف).
2. تاج العروس (13 /163): (وقد تُخفَّف).
3. المصباح المنير (ص259 – 260): (وقد تُخَفَّف العارية في الشّعر).
4. المعجم الوسيط (ص636 ع1-2): (” العَارِيَةُ “: العَارَةُ. ” ج ” عَوارٍ. ” العَارِيَّةُ “: العَارَةُ. ” ج ” عَوَارِيّ).
5. خير الكلام (1 /32): (وأمّا العارِيَة فقد جُوِّز فيه التّخفيف والتّشديد، وجُعِلَ التّشديد أعلى).
فمَن روى (العَارِيَة) بالتّخفيف فلعلّ ذلك محمولٌ على الشّعر دون النّثر، قال في المصباح المنير (ص259 – 260): (وقد تُخَفَّف العارية في الشّعر). قالت الخنساء[10]:
رَدَّادُ عَارِيَةٍ فَكَّاكُ عَانِيَةٍ كَضَيْغَمٍ بَاسِلٍ لِلْقِرْنِ هَصَّارِ |
وقال حاتم الطّائيّ[11]:
أعَاذِلَ إِنَّ المالَ غَيْرُ مُخَلَّدِ وَإِنّ الغِنَى عَارِيَةٌ فَتَزَوَّدِ |
وبعدُ، فـ(رحِمَ اللهُ اِمرَءاً شَدَّدَ العارية، وخَفَّفَ الكراهية. خَفِّفِ اللَّهُمَّ عَنّا الكراهية، ووَفِّقْنا للطّواعِيَة)[12].
ويُراجع:
1. تاج العروس (13 /162 – 164).
2. تحرير ألفاظ التّنبيه (1 /208 – 209).
3. التّوقيف على مهمّات التّعاريف (1 /496).
4. غريب الحديث لابن الجوزيّ (2 /91).
5. القاموس المحيط (ص446 العور).
6. كتاب العين (2 /239).
7. اللّسان (4 /618 – 619) و(14 /74).
8. مختار الصّحاح (ص462).
9. المصباح المنير (ص259 – 260).
10. المطلع (1 /272).
11. المعجم الوسيط (ص636 ع1-2).
12. مفردات الرّاغب (ص353 عور).
13. نصوص في فقه اللّغة (1 /323، 342، 347).
14. النّهاية (3 /226، 320).
[1] المعجم الوسيط (ص636 ع1-2).
[2] الصّحاح (2 /761 عور)، واللّسان (4 /619)، وتاج العروس (13 /163، 433).
[3] أنيس الفقهاء (1 /251).
[4] اللّسان (14 /74)، والعين (2 /239)، وغريب الحديث لابن الجوزيّ (2 /91)، والمصباح المنير (ص259 – 260)، والنّهاية (3 /320).
[5] مفردات الرّاغب (ص353 عور)، وتاج العروس (13 /163).
[6] جمهرة خطب العرب (1 /130 – 131 رقم 83).
[7] تاج العروس (13 /163).
[8] اللّسان (14 /74)، وتاج العروس (13 /162، 184).
[9] شكر اللّه سعيهم، وتجاوز عن أغلاطهم، بمنّه وكرمه، آمين.
[10] ديوانها (ص75).
[11] ديوانه بشرح أبي صالح يحي بن مدرك الطّائيّ (ص101 زيادات الدّيوان – ما نُسب لحاتم وصحَّ عنه/المقطوعة 60 البيت 1).
[12] أنيس الفقهاء (1/280 – 281).