د. سعد الدين إبراهيم المصطفى
صور إقامة المضاف إليه
مقام المضاف
يَطَّردُ إقامةُ المضافِ إليهِ مُقامَ المضافِ في أربعة مواضِعَ، هي:
1- المُقسَمُ بِهِ: وهذا النوعُ من إقامةِ المضافِ إليهِ مقامَ المضافِ يَكثُرُ في الآياتِ التي أقسَمَ اللهُ بِها، كقولِهِ تعالى: ﴿ والشَّمسِ وضُحاها ﴾[1] فالتقدير: وربِّ الشَمسِ، أقيمَ المضافُ إليهِ مقامَ المضافِ، وكذلِكَ قولُهُ تعالى: ﴿ والعَصرِ ﴾[2] والتقدير: ورَبِّ العصرِ، ومنه أيضاً قولُه تعال: ﴿ والذَّارِياتِ ذرواً * فالحامِلاتِ وِقراً ﴾[3]
فالمعنى هنا: ورَبِّ الرِّياحِ الذَّارياتِ، ورَبِّ السُّفنِ الجارياتِ، ورَبِّ الملائِكةِ المقسِماتِ[4]. وهذا اللون من إقامةِ المضافِ إليهِ مُقامَ المضافِ يَطَّرِدُ قولُهُم بِهِ في كلِّ قَسمٍ للهِ تعالى بشيء من خلقِهِ.
إنَّ تكرارَ القَسمِ لَهُ جمالياتٌ هنا في هذا النصِّ، كما أنَّ لَهُ قيمةً فنيَّة بخلاف ما يقوله بعض النَّحويينَ والبلاغيينَ الذينَ يرونَ فيهِ خروجاً عن الفَصاحة والبلاغةِ، فربَّما جاءَ هذا التكرارِ، في الآيات السابقةِ على سبيلِ المشاكلةِ فيلطفُ المعنى، ويوضِّحُ المبنى، ويَحسُنُ الكلامُ، ويَزدادُ قَبُولاً وتمكُّناً لدى السامِعِ بعدَ أنْ يَقِفَ على ما كانَ من المعاني ما هو حقيقة وما هو مجاز، وعندئذٍ لزوم المشاكلة في اللفظ مع صحَّةِ المعنى أولى.
2- جمع أو جميع أو جماعة: وهذا النوع يأتي قبلَ جمع التكسيرِ يهدفُ إلى تحقيقِ المطابَقةِ في النوعِ بين الفعلِ وفاعلِهِ. ومن ذلِكَ قولُهُ تعالى: ﴿ كَذَبَتْ قَومُ نوحٍ المرسَلِينَ ﴾[5] فقد دَخَلَتِ التَّاءُ وقوم نوحٍ مذكَّرُونَ، لأنَّ المعنى كذَّبَتْ جماعةُ قومِ نوحٍ[6]. وفي قولِهِ تعالى: ﴿ لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِن بَعدُ ﴾[7] ففيهِ قراءتانِ: بالتاءِ[8]، والياء، فمن قرأ بالتاءِ، فبمعنى جماعة النساء، ومن قرأ بالياء قدَّرَه جمع النِّساءِ[9].
وقولُهُ تعالى: ﴿ يُجبَى إليها ثَمَراتُ كُلِّ شَيءٍ ﴾[10] “ففيه قراءتان تُجبَى على تأنيث الجماعة، ويُجبَى على تَذكِيرِ الجمع”[11].
وأقولُ هنا: إنَّ كُلَّ قراءةٍ لها دلالةٌ مُعتبرةٌ، ومع ذلِكَ فإنَّ إحداها لا تُلغِي الأخرى، فلو اقتَصَرنا على قراءةِ التاء الفوقانية في “﴿ يُجبى ﴾” التي تدلُّ على حذف “الجمع” المضاف، لفقدنا المعنى الآخر والعكس أيضاً صحيح، فهُما معاً تَدلانِ علَى رحمةِ اللهِ بأهلِ البيتِ الحرامِ وعلى الرزقِ الحلالِ الواسِعِ لهم، وبذلِك يؤدِّي هذا التحوُّلُ في التركيبِ بينَ القراءتينِ إلَى إكمالِ المعنى العام الذي يَبتَغيهِ سياقُ الآياتِ الكريمة.
وهذا إنْ دلَّ على شيء فإنَّما يدلُّ على اتِّساعٍ في العربيَّة وعناية بالحدث الكلاميِّ والموقف النبويِّ، فالأنبياء – عليهم السلام – وإن كانوا بشراً، فليسُوا ككلِّ البشر، لأنَّهُم مُصطفَونَ بالرسالة أو النُّبوَّة، ولرسولِنا الكريمِ محمدٌ – عليه الصلاة والسلام – خُصوصيّةٌ، فهو سيد الأنبياء جميعاً وخاتمهم، فقد وعده ربُّهُ أن يكونَ البلدُ الأمين مكة آمناً ويأتيه الرزق من كل مكان، وهذهِ دعوة إبراهيم الخليل – عليه السلام – من قبل. فصيغة ” تُجبى ويُجبى ” عِندَما نتأمَّلُها فإنَّها تُفيدُ ما يُسمِّى بِالقُدرةِ التواصليَّةِ بينَ المتكلِّمِ أي المُرسِل وهو اللهُ سبحانَهُ، أو المتلَّقِي والمخاطب وهو النَّبيُّ وأصحابُهُ المؤمنونَ المتمثِّلةِ فِي الوَعدِ ثم القَبُولِ والتسليمِ بِاجتِباءِ ثَمَراتِ كُلِّ شَيء، لِذلِك فإنَّ هذِهِ القدرةَ تمكِّنُ مُستعمِلي الُّلغةِ من التواصِلِ فيما بينَهُم بِواسطةِ التعبيراتِ اللغويَّةِ، أي ما يُمكِّنُهُم من التَّفاهُمِ والتأثيرِ في لُغتِهِم معَ مُحيطِهِم.
3- تقدير خشية أو كراهة وإقامة المضاف إليه المصدر المؤول مقامها: وهذِهِ من الصور الشائِعةِ لحذفِ المفعول له ” خشية أو كراهة ” المضافِ إلى المصدرِ المؤولِ من أن وما بَعدَها في نحو قولِهِ تعالى: ﴿ يُبيِّنُ اللهُ لَكُم أنْ تَضِلُّوا ﴾[12]فقد حُذِفَت ” كراهة ” لأنَّ في الكلام دليلاً عليها. وكذلِك قَولُهُ تعالى: ﴿ وَجَعَلْنا على قُلُوبِهِم أكِنَّةً أنْ يَفقَهُوهُ ﴾ [13] أي كراهة أن يفقهوه، فقد أقيم المصدر المؤول المضاف إليه مقام المضاف ” كراهة ” المقدَّر المحذوف.
ومنه قولُهُ تعالى: ﴿ وألقَى فِي الأَرضِ رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُم ﴾[14] أي: كراهة أنْ تَميدَ بِكُم. ووقوع هذا الحذف أي المضاف وإقامة المضاف إليه هو رأي البصريين، وأمَّا الكوفيون فيقدرون حذف ” لا ” فالتقدير في قولِهِ تعالى: ﴿ وألقَى فِي الأَرضِ رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُم ﴾ عند البصريين: كراهة أن تميد بكم، وعند الكوفيين: لئلا تميد بكم، والمعنى – كما يقول الزجاج واحد ” غير أنَّ كراهة أجود في العربية”[15].
4- الوَصفُ بِالمَصدرِ ووُقُوعُ صِيغةٍ مَوقِعَ أُخرَى:
الوَصفُ بِالمصدرِ إنَّما هُوَ لِلمُبالَغةِ وهُوَ الغَرضُ الَّذِي عُدِلَ مِن أجلِهِ عنِ الأَصلِ إلى الاستِعمالِ، ويَشهَدُ لِلقَولِ بِأنَّ تَقدِيرَ المضافِ هو الأصل، وإقامةُ المضافِ إليهِ مُقامَهُ فرعٌ علَيهِ، كقولِهِ تعالى: ﴿ وأشهِدُوا ذَوي عَدلٍ مِنكُم ﴾[16]، أي رَجُلَيْنِ ذَوي عدلٍ، فَتُوصِلَ إلى الوَصفِ بـ ” عدل ” بـ ” ذوي ” كما يُتَوصَلُ بِأسماءِ الأجناسِ غير المصادر بـ ” ذو ” وما تصرَّفَ مِنها، فَيُقالُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ذِي مالٍ، فكما لا يُوصَفُ بِأسماء الأجناسِ لا يُوصَفُ كذلِك بالمصادِرِ، فلمَّا أُرِيدَ الوَصفُ بِهِما تُوصِّلَ إلى ذلِكَ بـ ” ذو ” وفروعِها، فإذا وَرَدَ الوَصفُ بِالمصدرِ كانَ مَحمُولاً على تقديرِ ” ذو ” مَعه.
ويذهَبُ النُّحاةُ إلى افتِراضِ حَذْفِ ” ذِي ” المُضافةِ إلَى المصدرِ تفسيراً لِعدَمِ تَغيُّرِ صِيغةِ المصدرِ مع المذكَّرِ والمؤنَّثِ، ومعَ المفردِ والمثنَّى والجمعِ. فمن ذلِكَ قولُهُ تعالى: ﴿ وهل أتاكَ نَبَأُ الخَصمِ إذْ تَسَوَّرُوا المِحرابَ ﴾[17] فقد أفرَدَ ” الخَصمَ “رَغمَ استعمالِهِ مع الجمعِ، لأنَّه مصدرٌ، معناه: ذَوو خَصمٍ، ثمَّ أقمْتَ المضافَ إلَيهِ مُقامَ المضافِ، وقد يُقالُ: خُصومٌ كما يُقالُ: عُدُول[18].
وكذلِكَ قولُهُ تعالَى: ﴿ إنَّنِي براءٌ ممَّا تَعبُدُونَ ﴾[19] فـ ” العَربُ تَقُولُ للواحِدِ فِيها: أنا البَراءُ مِنكَ، وكذلِكَ الاثنانِ والجَماعةُ والذَّكرُ والأُنثَى، يَقُولُونَ: نَحنُ البَراءُ مِنكَ والخَلاءُ مِنكَ، ولا يَقُولُونَ: نَحنُ البراءانِ مِنكَ، ولا البَراؤُونَ مِنكَ، وإنَّما المعنى: إنَّا ذَوو البراءِ منكَ، ونحنُ ذوو البراءِ منكَ، كما تقولُ: رَجُلٌ عدلٌ وامرأةٌ عدلٌ، وقَومٌ عدلٌ، والمعنى: ذَوو عدلٍ[20]. ومنه أيضاً قولُهُ تعالى: ﴿ سَواءٌ مِنكُم مَنْ أسرَّ القَولَ ومَنْ جَهَرَ بِهِ ﴾[21] مَرفُوعٌ يُنوَى بِهِ التأخيرُ. قالَ أبو إسحاق: والتقدير ذُو سَواءٍ، كما يُقالُ: رَجُلٌ عدْلٌ.[22]
لأنَّ ” سواء ” مَصدَرٌ، فلا يَجوزُ أنْ يرتَفِعَ ما بَعدَهُ إلا علَى الحذفِ، تَقُولُ: عَدْلٌ زَيدٌ وعمرٌو، والمعنى: ذوا عدلٍ زَيدٌ وعمرٌو، لأنَّ المصادرَ لَيسَت بِأسماءِ الفاعلِينَ، وإنَّما تَرفَعُ الأسماءُ أوصافَها، فإذا رَفَعتها المصادرُ فهي على تقدير إقامة المضافِ إلَيهِ مُقامَ المضاف. وهكذا في كُلِّ مَصدرٍ وَقَعَ خبراً عن جُثَّة، فالمصادِرُ لا تَقَعُ أخباراً عن الجُثَثِ. وكذلِكَ قولُهُ تعالَى: ﴿ إنَّهُ عَمَلٌ غيرُ صالِحٍ ﴾[23] فالتقديرُ: إنَّهُ ذُو عَمَلٍ، وقولُهُ تعالى أيضاً: ﴿ إذْ هُمْ نَجوَى ﴾[24] والمعنى: هم ذَوو نجوى، أي أقيمَ المضافُ إلَيهِ مُقامَ المضاف.
وجاءَ وُقُوعُ صِيغةٍ صَرفيَّة مَوقعَ أُخرى لِتُفسِّرَ إقامةَ المضافِ إليهِ مُقامَ المضافِ، كأنْ يَقعَ اسمُ الفاعِلِ موقِعَ اسمِ المفعُولِ، أو اسمُ المفعُولِ موقِعَ اسمِ الفاعِلِ فتحتاجُ إلى تقدير ” ذي ” وإقامةِ المضافِ إليهِ مُقامَها. ومن ذلِكَ قولُهُ تعالَى: ﴿ خُلِقَ مِن ماءٍ دافِقٍ ﴾[25] فالمعنى على مذهبِ سيبويه وأصحابِهِ جاءَ على ” النَّسبِ إلى الاندِفاقِ، أي: مِن ماءٍ ذِي اندِفاقٍ”[26]. وذلِكَ لأنَّ الماءَ لا يُوصَفُ بِأنَّهُ مَدفُوقٌ لا دافِقٌ.
وكذلِكَ قَولُهُ تعالَى: ﴿ فِي عِيشَةٍ راضِيةٍ ﴾[27] فالمعنى: ذَاتُ رِضًى، أي أُقِيمَ المُضافُ إلَيهِ مُقامَ المُضافِ، وأيضاً قَولُهُ تعالَى: ﴿ فِي يَومٍ عاصِفٍ ﴾[28] فالتقديرُ عندَ البصريينَ: في يَومٍ ذِي عصفٍ[29].
المصدر الألوكة
[1] الآية 1 من سورة الشمس
[2] الآية 1 من سورة العصر.
[3] الآيتان 1-2 من سورة الذاريات.
[4] إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس 4: 234-235.
[5] الآية 105 من سورة الشعراء.
[6] معاني القرآن وإعرابه 4: 73.
[7] الآية 52 من سورة الأحزاب.
[8] إتحاف فضلاء البشر 2: 303. قرأ أبو عمرو، ويعقوب، بالتاء من فوق، لأنَّ الفاعل حقيقي التأنيث، ووافقهما اليزيدي والحسن. وقرأ الباقون بالياء من تحت للفصل. وينظر البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة 2: 203 وكتاب السبعة ص523، والكشاف 3: 270.
[9] إعراب القرآن لأبي إسحاق الزجاج 3: 322، ومعاني القرآن وإعرابه 4: 177.
[10] الآية 57 من سورة القصص.
[11] إعراب القرآن 3: 240. قرأ نافع ، وأبو جعفر، ورُوَيْس بالتاء الفوقانية، والباقون بالياء التحتانية ينظر البدور الزاهرة 2: 170، و وإتحاف فضلاء البشر 2: 272، وكتاب السبعة ص495، والنشر في القراءات العشر 2: 342.
[12] الآية 176 من سورة النساء.
[13] الآية 25 من سورة الأنعام.
[14] الآية 21 من سورة النَّحل.
[15] معاني القرآن وإعرابه 3: 243 وإعراب القرآن 2: 293.
[16] الآية 2 من سورة الطلاق.
[17] الآية 21 من سورة ص.
[18] إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس 4: 459.
[19] الآية 26 من سورة الزخرف.
[20] معاني القرآن وإعرابه لأبي إسحاق الزجاج 4: 311.
[21] الآية 10 من سورة الرعد.
[22] إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس 2: 353.
[23] الآية 46 من سورة هود.
[24] الآية 47 من سورة الإسراء.
[25] الآية 6 من سورة الطارق.
[26] معاني القرآن وإعرابه 5: 239.
[27] الآية 7 من سورة القارعة.
[28] الآية 18 من سورة إبراهيم.
[29] إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس 2: 367.