د. سيد مصطفى أبو طالب
مصطلح الوقوع المشترك
درس المحدثون مصطلح “الوقوع المشترك” عند دراستهم لنظرية السياق، والتي كان من أنصارها العالم اللغوي “فيرث” الذي أكد على أهمية مراعاة السياق الخارجي أو المقام في عملية تحليل المعنى إلى جانب مراعاة السياق اللغوي [1].
يقول د. أحمد مختار عمر: “وهناك من أصحاب هذه النظرية من ركز على السياق اللغوي وتوافق الوقوع أو الرصف” [2].
وعرف الرصف = (الوقوع المشترك) بأنه: “الارتباط الاعتيادي لكلمة ما في لغة بكلمات أخرى معينة”[3].
أو “استعمال وحدتين معجميتين منفصلتين، استعمالهما عادة مرتبطتين الواحدة بالأخرى. ومن أمثلة ذلك: ارتباط كلمة (منصهر) مع مجموعة الكلمات (حديد – نحاس – ذهب – فضة…) ولكن ليس مع (جلد) مطلقًا” [4].
وقال: “ولما كان من المعتاد أن تنتظم الكلمة مع أكثر من مجموعة، أو أن تقع في أكثر من سياق لغوي، فقد ظهر مصطلح “الوقوع المشترك”.[5].
ويعنى ذلك أن مصطلح (الوقوع المشترك) يستعمل للدلالة على تلك الألفاظ التي يمكن أن تقع في جوار لغوى مقبول مع عدد وافر من الألفاظ المتفارقة الدلالة.
لقد عبر بعض العلماء عن هذا المصطلح بألفاظ أخرى، عبر د. تمام حسان بمصطلح “التضام”[6] وأطلق اللغويون المحدثون على هذه الظاهرة مصطلح: “co-occurrence“ بمعنى التكرار المشترك، أي أن الكلمة يتكرر اشتراكها مع أكثر من كلمة في تراكيب مختلفة، كما نجد في كلمة “طويل” التي يمكن أن يتكرر اشتراكها مع كلمات: رجل، ونبات، وطريق، ولكنها تستعصي على الاشتراك مع كلمة “جبل” فلا يمكن أن تقول: جبل طويل، ولكن يجب أن تقول: جبل عالٍ أو شاهق [7].
إن دراسة هذا النوع من العموم له أهمية كبيرة “تتضح في تحديد المعنى المعجمي المراد؛ لأنه يوقفنا على التجمعات التي ترد فيه الكلمات، أو بعبارة أخرى – معرفة السياقات اللغوية التي يحتمل استخدامها فيها”.[8] ومن الجدير بالذكر أن علمائنا القدامى قد تنبهوا إلى أمر الوقوع المشترك، وتكلموا فيه، وإن غابت عنهم هذه المصطلحات الحديثة.
قال سيبويه: هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب.
فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتك أمس وسآتيك غدًا، وأما المحال: فأن تنقض أول كلامك بآخره، فتقول: أتيتك غدًا وسآتيك أمس. وأما المستقيم الكذب فقولك: حملت الجبل، وشربت ماء البحر، ونحوه. وأما المستقيم القبيح: فأن تضع اللفظ في غير موضعه، نحو قولك: قد زيدًا رأيت، وكي زيدًا يأتيك، وأشباه هذا. وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس [9].
إن تقسيم سيبويه للكلام على هذا النحو إنما جاء من حيث تضام الكلم بعضه إلى بعض، فما أمكن وقوعه متراصفا مع غيره مع أداء المعنى متوافقا مع الواقع الفعلي للغة؛ فهو مستقيم حسن. والمستقيم القبيح عنده ما تضام فيه الكلام بعضه إلى بعض –وهو صحيح من ناحية التركيب- إلا أن معناه غير صحيح، ولا يمكن أن يتقبله عقل، كما في المثالين السابقين في نص سيبويه، فوجه القبح فيهما هو عدم إمكانية وقوع الحمل على الجبل والشرب على ماء البحر، فتضام (حملت) للجبل غير صحيح، وكذلك (شربت) للبحر.
قال الإمام عبد القاهر الجرجاني وهو يتحدث عن طريق استحسان اللفظ: “وهو أن تكون اللفظة مما يتعارفه الناس في استعمالهم، ويتداولونه في زمانهم، ولا يكون وَحْشِيًّا غريبًا، أو عامِّيًّا سخيفًا، سُخْفُهُ بإزالته عن موضوع اللغة، وإخراجه عما فرضتْه من الحكم والصفة، كقول العامة (أشْغَلتَ) و(انفسد)، وإنما شرطتُ هذا الشرط، فإنه ربما استُسخف اللفظ بأمر يرجعُ إلى المعنى دون مجرَّد اللفظ، كما يحكى من قول عُبَيْد اللّه بن زياد لما دُهش: (افتحوا سيوفكم)[10]، وذلك أن الفتح خلاف الإغلاق، فحقُّه أن يتناول شيئًا هو في حكم المُغلَق والمسدود، وليس السَّيف بمسدود، وأقصى أحوالِهِ أن يكون كونُه في الغِمْد بمنزله كَوْنِ الثوب في العِكْمِ، والدرهم في الكيس، والمتاعِ في الصندوق، والفتح في هذا الجنس يتعدَّى أبدًا إلى الوِعاء المسدود على الشيء الحاوي له لا إلى ما فيه، فلا يقال: افتحِ الثوبَ، وإنما يقال: افتحِ العِكْمَ، وأخرجِ الثوب، و افتحِ الكيس”[11].
لقد وقف الإمام على المراد من الرصف وأهميته في اللغة منذ مئات السنين، فهو يبين أهميته في اللغة، وأنه وسيلة لاستحسان اللفظ.
“إن دراسة تحليل السياقات وأنماط الرصف المختلفة قد أديا إلى نتيجة مهمة فحواها: أنه لم يعد ينظر إلى الكلمات باعتبارها وحدات معجمية تشغل مواقع نحوية محددة، وإنما على شروط استخدامها في تلاؤم وانسجام مع الكلمات الأخرى الواردة في النص”.[12].
وفى ضوء هذا الوقوع المشترك يمكن أن نضبط عموم كثير من الألفاظ التي رصدها شراح غريب الحديث
ويتركب هذا الوقوع المشترك من جزأين – غالبًا- تربطهما علاقة ما.
وينقسم هذا التركيب إلى قسمين:
الأول: مركب اسمي، وتكون العلاقة فيه إضافية، أو بيانية.
الثاني: مركب فعلي، وهو كل مركب لغوي يتكون من عنصرين أو أكثر، ويكون مبدوءًا بفعل.[13]
[1] ينظر: علم الدلالة د.أحمد عمر (ص68)، وفي علم الدلالة اللغوية (ص57)، وينظر في تفصيل هذه النظرية: علم اللغة د. السعران (ص251) وما بعدها، وعلم الدلالة د. فريد حيدر (157) وما بعدها.
[2] علم الدلالة (74).
[3] السابق الصفحة نفسها.
[4] السابق الصفحة نفسها.
[5] السابق (ص75).
[6] اللغة العربية مبناها ومعناها (ص157) وما بعدها.
[7] التعبير الاصطلاحي دراسة في تأصيل المصطلح ومفهومه (ص258، 259) د.كريم زكى حسام الدين. مكتبة الأنجلو المصرية. ط1- 1995م.
[8] في الدلالة اللغوية (ص61).
[9] الكتاب (1 /25، 26).
[10] ينظر البيان والتبيين (2 /210).
[11] أسرار البلاغة (ص6).
[12] السابق نفسه.
[13] ينظر: التركيب المصطلحي د. جواد سماعنه. (نسخة إلكترونية).