رشيد الاركو
الدلالة اللغوية: اعتباطيتها وقيمتها عند دي سوسير
يُعرِّف دي سوسير الدلالة اللغوية بقوله: “إن الدلالة اللغوية لا تَجمع بين شيء واسم، وإنما تَجمَع بين مفهوم وصورة سمعية، وهذه الأخيرة ليستْ هي الصوت الماديَّ؛ أي: شيئًا فيزيائيًّا خالصًا، بل هي بصمة نفسية لهذا الصوت”[1].
ومِن ثَمَّ فإن الدلالة اللغوية في نظره لا تَجمع بين الشيء والاسم، وإنما هي “كلٌّ يتكوَّن مِن تصوُّرٍ وصورةٍ صوتية[2]، ولا يعني بالصورة الصوتية (السمعية) الجانبَ الفيزيائيَّ للصوت، بل يقصد الأثر السيكولوجي (النفسي) لهذا الصوت؛ أي: الصورة التي تُصوِّرُها لنا حواسُّنا من خلال هذا الصوت، سواء كان منطوقًا أو مكتوبًا.
إن هذا الإلحاح مِن جانبه على هذا الأثر، أو الانطباع النفسي للصوت – راجعٌ إلى كون الإنسان قادرًا على مناجاة نفسه دون أن يَنطِقَ بأي حرفٍ!
وبناءً على هذا؛ فالدلالة اللغوية عنده كِيان سيكولوجي (نفسي)، له جانبان يوضِّحهما الشكل التالي:
الدلالة اللغوية
فالمفهوم والصورة السمعية هما وجهان لعُملة واحدة، فهما مترابطان بشكل وثيقٍ لا يَنفصلان؛ حيث إن المفهوم يستدعي حضور الصورة السمعية، والصورة السمعية تَستدعي حضور المفهوم، إذًا فالدلالة تَجمَعُ بين المفهوم والصورة السمعية، وقد أطلق سوسير على المفهوم مصطلح signifie، وأطلق على الصورة السمعية مصطلح الدال signifiant، وهذا واضح في الأشكال التالية:
فمثلًا لو قلنا بشكل عام: إن (الشجرة) علامة لغوية signe linguistique، إذًا فالعلامة اللغوية تتكون من جانبين؛ هما: الدالُّ والمدلول.
فالدال يساوي الصورة السمعية: (بمعنى وجود أصوات.ش.ج.ر.ة)، أما المدلول فيساوي المفهوم (التصوُّر)؛ أي: كل ما يُدركه مُستعمِل اللغة من معانٍ متعلقة بهذه الصورة: (أغصان، جذور، أوراق، ثمار…)، نلاحظ من خلال هذا المثال أن المدلول مُوحَّد في جميع اللغات بخلاف الدال؛ فكل لغة لها دالٌّ خاصٌّ بها.
• اعتباطية الدلالة:
يقول دي سوسير: “الدلالة اللسانية اعتباطية“[3].
يقصد دي سوسير بالدلالة الكلَّ الحاصلَ باتحاد الدال (الصورة السمعية) بالمدلول (المفهوم)، ويقصد بالاعتباطية Arbitraire أن العلاقة بين الدالِّ والمدلول علاقةٌ غيرُ مُعللة بالمنطق والعقل، وقد أورد مثلًا في هذا الصدد لفظ (الأخت) (sœur)؛ يقول: إن معنى هذا اللفظ “ليس مرتبطًا بأية علاقة قد نتخيَّلها موجودةً داخل سلسلة أصوات لفظ (الأخت) s-â-r، وهي أصوات اتُّخِذَتْ وسيلةً كصوتٍ دالٍّ؛ لأنه يُمكن لهذه أن تُصوَّرَ بأيةِ سلسلةٍ أخرى من الأصوات تكون دالةً”[4].
وفي المنوال نفسه قال الجرجاني: “فلو أن واضع اللغة كان قد قال: (ريض) مكان (ضرب)، لَمَا كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد”[5].
هذا من جهة ومِن جهة أخرى، فإن اختلاف اللغات يؤكد اعتباطية الدلالة، فمثلًا مدلول لفظ (men) يكون له دالٌّ صوتي (m-e-n) داخل حدود مكانية معينة، ويكون له دوال أخرى خارج هذه الحدود، فنجد للمدلول نفسه دالًّا مخالفًا مثلًا: “ر- ج- ل” و h.o.m.m.e، وهكذا…
والقول بالاعتباطية عند دي سوسير لا يُساوي معنى “حر“، فالدال اعتباطي فقط بالنسبة للمدلول، وعليه فالعلاقة الداخلية للدليل تُصبح مفروضةً على الجميع، وليس بإمكان أحدٍ أن يُحاول التغيير لا من جهة كتابة الدال خطيًّا، ولا من جهة طريقة نُطق هذا الدال، وبالتالي فالعلاقة بين الدال والمدلول في مفهومها الأدنى، هي غياب منطق عقلي يُبرر الإحالة من الدال إلى المدلول، فالرابطُ بين هذين الكِيانين يَخضع للتواضع والعُرف”[6].
• الخاصية ذات الخط الطولي:
يقول دي سوسير: “لَمَّا كان الدال ذا طبيعة سمعية، فإنه يمتد منتشرًا في الزمان ويَجري فيه فقط، ثم إن خصائصه مستعارةٌ من الزمان”[7].
ونعرف أن الركيزة المادية للدليل اللغوي هو الصوت؛ لذا فإنه أثناء عملية النطق يتسلسل الصوت مع الزمن في خط أُفقي، وصفةُ التسلسل تَجعل العلامةَ اللغوية قابلةً للتحليل، وبعبارة أخرى: “إذا كان الدال ذا طبيعة سمعية، فهو يُمثل بُعدًا، ويُقاس هذا البُعد مِن مَنحى واحد هو المنحى الخطي”[8]. وكما قلنا: إن الدال قابلٌ للتحليل، والتقسيم إلى أجزاء، وبطبيعة الحال فإن كل جزءٍ منها يَتبعُ جزءًا آخرَ في تتابُع خطيٍّ وزمنيٍّ منتظمٍ؛ مما يَجعلها تُكوِّن سلسلةً كلامية chaine parlée، وقد قال دي سوسير: “إن الدال يمتاز بكونه ممتدًّا… وهذا الامتداد يمكن أن يُقاس مِن بُعدٍ واحد، وهو خطٌّ طولي…”[9].
ولتوضيح هذا نقتصر على المثال التالي: كلمة (قلب) يُمكن تقسيمها إلى وَحدات متوالية على الشكل الآتي: ق + فتحة + ل + ب+ حركة الإعراب حسب موقعها في الجملة.
وهذا يعني أن صوت القاف يَسبق زمنيًّا صوت اللام، وكذلك اللام تَسبق صوت الباء، فإذا غيَّرنا التسلسلَ الزمني والخطيَّ في هذه السلسلة الكلامية، وجعلنا صوت اللام في الأول، ثم أردفناه بصوت القاف، وبعده الباء (ل+ق+ب) – فسنحصل على كلمة (لقب)، وهي مختلفة عن كلمة (قلب)، وبالتالي نَستنتج من المثال أعلاه أن أي تغيير في التسلسل الزمني والأفقي (الخطي)، يترتب عليه تغييرٌ في المعنى، ويُعطينا معنًى مختلفًا تمامًا، ومبدأ الخطية (السطرية) يبدو للوهلة الأولى أنه بسيط، لكن دي سوسير يرى أنه على الرغم من بساطته فإنه أساسٌ؛ لأن النتائج المترتبة عليه لا حصرَ لها!
• قيمة العلامة اللسانية:
بادئ ذي بَدءٍ، لقد أفرد دي سوسير لمفهوم القيمة اللسانية (valeur) حيزًا مهمًّا في محاضراته، ولم يتطرَّق إلى هذا المفهوم إلا عندما تكلَّم عن الصفة التمييزية لها: “ذلك أن العلامة تحمل دلالةً؛ لأنها تتميَّز عن الرموز اللغوية الأخرى”[10]، وقد أوضَح في حديثه عن وحدات اللغة أن اللغة تتألَّف من علاقات تتحدَّد قيمةُ كلِّ واحدة منها بعلاقتها مع باقي الوحدات في علاقة أُفقية”[11].
وقد قرَّر منذ البداية “أن وصف اللغة وصفًا لغويًّا دقيقًا، ينبغي أن يكون في إطار العلاقات الأفقية والرأسية، وأن مُحصلة هذا الوصف هو ما يُسمى بالقيمة”[12]، ولفَهْمِ العلاقة الأفقية، علينا أن نَنْظُرَ إلى الشكل الآتي[13].
إذًا فقيمة أي لفظ حسب دي سوسير مرتبطة بما يُحيط به، وقد مثَّل لهذا بقوله: “فقد يكون لفظ الخروف mouton في اللغة الفرنسية له الدلالة نفسُها في اللغة الإنجليزية للفظ sheep، ولكن ليس له القيمةُ نفسُها”[14].
ويقصِد بهذا أن كلمة mouton في اللغة الفرنسية تدل على (لحم الضأن والخروف في الوقت نفسه)، بينما sheep في اللغة الإنجليزية تدل فقط على (الخروف)، ولا تدل على (لحم الضأن)؛ لأن (لحم الضأن) له في اللغة الإنجليزية دالٌّ خاص به mutton، لهذا قال دي سوسير بأن ليس لهما القيمة نفسها.
إذًا نستنتج مِن دي سوسير أن قيمة “الكل هي في أجزائه، كما أن قيمة الأجزاء تأتي مِن مكانتها في هذا الكل وذاك، ولهذا فإن أهمية العلاقة التركيبية بين الجزء والكل تأتي مِن أهمية الأجزاء فيما بينها[15].
[1] انظر كتاب: “النظريات اللسانية الكبرى من النحو المقارن إلى الذرائعية”؛ ترجمة محمد الراضي، ص 117.
[2] بريجيته بارتشت، مناهج علم اللغة من هرمان باول حتى ناعوم تشومسكي، ترجمة: سعيد حسن بحري ص 103.
[3] دي سوسير: محاضرات في علم اللسان العام ترجمة عبدالقادر قنيني، ص 105.
[4] نفسه ص 106.
[5] الجرجاني عبدالقاهر، دلائل الإعجاز، تحقيق محمود شاكر، 1984، ص 43.
[6] مقالة سعيد بنكراد تحت عنوان: سوسير: السيمولوجيا: علم للعلامات
[7] دي سوسير، محاضرات في علم اللسان العام، ص 109.
[8] مبادئ اللسانيات المعاصرة: قراءة وتقويم، ص 31.
[9] نفسه ص 31.
[10] مبادئ اللسانيات المعاصرة: قراء وتقويم، ص 31.
[11] محمد حسن عبدالعزيز، سوسير رائد علم اللغة الحديث، كليه دار العلوم القاهرة، ص: 26.
[12] نفسه ص 26.
[13] محاضرات في علم اللسان العام، ص 170.
[14] نفسه، ص 170.
[15] محاضرات في الألسنية العامة، يوسف غازي، المؤسسة الجزائرية للطباعة 1986، ص 149.