خالد يحيى محرق
كان
مِن أفعمِ لحظات الطفولة: مجيءُ الفعلِ “كان” في أول الكلامِ على ألسنِ القصَّاصِ والرواة، آباءً كانوا، أو معلِّمين، حكماءَ أو أصدقاءَ، أو حتى على شاشة التلفاز.
(كان يا ما كان في قديم الزمان) كلماتٌ فاتنة رشيقة، تَلوي بالأعناق، وتُنصت الأسماع، وتفتح آفاقًا لخيالٍ حرٍّ سابحٍ بلا قيود أو قوانين.
(كان يا ما كان ..) نفثاتٌ من السِّحْر، ومُخدِّرٌ يتعاطاه الصغار، عن طريق الكبار، بكل مشروعية وحِلّ.
وكلما كانت القصةُ مُوغِلةً في القِدَم، كانت معالمها وتضاريسها ومناخاتُها أكثرَ غرابةً وتشويقًا.
القصة – عزيزي القارئ – تعني أحداثًا وقعت في الماضي؛ لذا يَتَصدَّرُ الفعلُ “كان” كثيرًا من هذه القصص.
“كان” تدلُّ عادةً على فعلٍ وقَع وانتهى؛ لذا تَستَفتحُ بها الجدَّاتُ قِصصَهنَّ أمام الأحفاد.
يُقابلُ “كان” تصريفها الآخر “يكونُ“، الذي يدلُّ على فِعلٍ وقع وما زال مستمرًّا.
ويقابلهما في جهة أخرى “كُنْ” للأمرِ بإنشاء فعل في الحال.
أتعلمُ أَنَّ ما مضى بيانُه، يُعتبَر من جملة الإعراب لـ”كانَ”، الذي قد يَضيق به البعض ذَرْعًا، أو يَرَوْنَه مُملًّا كبعض مسائل الرياضيات.
الإعراب.. قاعدتُه وركيزته الأساسية أنْ تفهم معنى الكلمة أولاً، فالفَهْمُ يقطع بك نصف الطريق – إن لم يكن ثُلثَيْه – نحوَ إعراب صحيح.
كثيرًا ما تدلُّ “كان” على شيء وَقعَ وانتهى؛ لكنها أحيانًا تُساقُ للدلالة على الاستمرارية المُطلَقة؛ كما في قوله سبحانه: ﴿ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حكيمًا ﴾؛ أي: كانَ وما زال عَلِيمًا حكيمًا.
لـ”كان” أخواتٌ شقيقات، يبلغن العشْرَ وزيادة، قد يتشابهن في الفعل، ويختلفنَ في المعنى؛ لكنهن يحترمن هذه الأُخوَّة احترامًا جمًّا.
أما البشر، فالأُخوَّةُ عندهم ذاتُ أشكال شتَّى، وصنوفٍ وألوان.
وقد تُحصر في ثلاثة أنواع:
• أخوَّة النَّسَب.
• أخوَّة الرضاع.
• أخوَّةُ التشارك في المعتقَد.
حين تستقصي (الأُخوَّة) في كتاب الله الكريم، ستجد أَنَّ استخداماتِ الألفاظ والتراكيب، واختيارَ بعض الجمل في سياق بعضِها، مقصودٌ لذاته.
الأخوَّةُ في كتاب الله جاءت في عدَّة سياقات، فهناك أُخوَّةُ النَّسَب، وهناك أخوَّةُ الدين والمعتقَد، ومن أمثلته الجانبية: التخالط الأخويُّ؛ كاليتامى حين قال فيهم ربنا سبحانه: ﴿ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ﴾ [البقرة: 220].
إلى غير ذلك من نظائر هذه الآيات.
لكن ما أذهلني، أنه لم تجئ “كان” متبوعةً بلفظ الأخوَّة إلا في أُخوَّة النسب فقط؛ فحيثُ ترى وشائجَ القرابات والأخوَّة، قد يجاءُ بـ”كان” .
أما أخوَّةُ الديانات والمعتقَدات، فإنه لا يأتي معها “كان” أبدًا، وإن أُتِىَ بها في السياق، فإنه يخاطَب بها غيرهم.
انظر لآيات المواريث مثلاً، تجدها طافحةً بـ”كان” في سياقاتها؛ كقوله سبحانه: ﴿ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ ﴾ [النساء: 11].
وقوله سبحانه: ﴿ فَإِنْ كُنَّ نِساءً ﴾ [النساء: 11].
كذلك في أعظم كَيْدٍ أُخويٍّ؛ قال سبحانه: ﴿ لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ﴾ [يوسف: 7].
أيضًا في التربُّص المذموم؛ كقوله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ ﴾ [التوبة: 24].
فإنك تلحظ أَنَّ “كان” جاءت في سياق الحديث عن الأقارب والنَّسَب.
كذلك في آية الولاء والبراء؛ قال سبحانه: ﴿ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ [المجادلة: 22].
مما سبق ترى أَنَّ “كان” حين تُتبَع بالأُخوَّة، فإن المقصود بها أخوَّة النَّسبِ، لا أخوَّة المعتقَد.
أما حين يكون الحديث عن أخوَّة الدين والمعتقَد، فإنه لا يُلصقُ بها “كانَ”؛ بل يسوقها مفرَدةً عنها؛ كقوله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10].
وكقوله سبحانه: ﴿ وَنَزَعنا ما في صُدورِهِم مِن غِلٍّ إِخوانًا عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلينَ ﴾ [الحجر: 47].
وكقوله سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10].
وكقوله سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ [الحشر: 11].
والمقصود أَنَّ “كان” لم تُسَق في القرآن في الحديث عن الأخوَّة إلا أخوَّة النسب والقرابة فقط.
لكنَّ الآية السابعة والعشرين من سورة الإسراء، تجعلك واجمًا مبهوتًا لأيام؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾ [الإسراء: 27]
عجبًا لِـ( كانَ )، فقد أصبحت مخيفة؛ هي لا تأتي إلا في أخوَّة النسب، ما بالها إذن جاءت في سياق مثير للأسئلة والاستفهامات النفسية العميقة؟
في السورة نفسها أيضًا، وبعد هذه الآية ببضعٍ وثلاثين آية، هناك آيةٌ تتركك وأنت في ذهول تامٍّ، واستفهامات لا نهاية لها.
قال سبحانه لإبليس: ﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ﴾ [الإسراء: 64].
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لو أَنَّ أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنِّبنا الشيطان، وجنِّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إِنْ يُقدَّر بينهما ولد في ذلك، لم يضرَّه شيطانٌ أبدًا)).
إن هناك مفاهيمَ قد تجول في نفسك؛ لكنك لن تستطيع حملَ النص على معنى واحدٍ فقط، في حين أنه قد وردت أقوال عن كبار المفسِّرين من سلف الأمة، تقول بمثل ما قد يدور في خَلَدك الآن.
حين أرى “كان” بكافَّة تصريفاتها، قد ذُكرت في أكثرَ من سبعمائة موضع في كتاب الله، أعلم يقينًا أنها سيقت قصدًا، واختيرت اختيارًا؛ لحِكَمٍ وأسرار، في معانيها وتجلِّياتها البلاغية.
والسؤال حول بعض الضيافات الباذخة هو:
هل كُنتَ يومًا في ضيافة الشيطان وأنت لا تعلم؟
﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾ [الإسراء: 27].