أ. سميرة بيطام
الكتابة بين الاكتساب والموهبة
يُعتبر الفن مقياسًا لحضارة أي أمةٍ، وتوجُّهِ أي فكر، والفن الملتزم يُحقِّقُ تكاملَ القيم والأخلاق والتقدم؛ فيصنع من فنَّانيه الملتزمين مصابيحَ تُنير الكون حيثما حلَّت، وكيفما كان نوع فنِّها.
وتعتبر الكتابة أحد هذه الفنون، والكاتب المرتبط بوطنه وقِيمه يكون لصيقًا بانتمائه أشدَّ الانتماء؛ فلا يمكن له أن يتجرَّد من هذا الانتماء ليدَّعي تألُّقًا في مجال الكتابة من أجل تحقيق نجاح باهر، بل النجاح الحقيقي ما كان من منطلق الإيمان الراسخ أن ما كان تمجيدًا للدين وللأخلاق والانتماء يُؤتي ثماره – وإن لم يكن سريعًا – لأنه بقدر ما أخذ الكاتب الوقت الكافي ليتعلم أسرار الكتابة الناجحة، بقدر ما كان نجاحه مستمرًّا وموفَّقًا، حتى لو كانت فيه انقطاعات متكررة، فالعودة إلى منبع الحياة لا بد منه، وبالتالي لا يمكنه أن يَهْجُرَ القلم لمدة طويلة، خاصة للكاتب الذي تكون له الكتابة متنفَّسًا وتعبيرًا عما يعانيه ويكابده في شتى مجالات الحياة، فتجد قلمَه ينوِّعُ بين قضايا مجتمعية، وفكرية، ودينية، وثقافية؛ حتى يُشبِعَ حاجتَه من تلك الرغبة في أن يَتطرَّق لكل جوانب الحياة، حتى لو لم يكن كلها فبعضها، المهم أن يصيح بما في قلبه.
كثيرون مَن يتساءلون عما إذا كانت الكتابة فنًّا يُكتسَبُ مع مرور الوقت، أم هي موهبة؟ وللإجابة عن هذا السؤال عليَّ توخِّي الحَذَر جيدًا؛ لكي أُفصِّلَ في جوانب هذا الموضوع المتشعِّب، والمتداخل في نفس الوقت؛ هو متشعِّبٌ لأن مجال الكتابة بحرٌ بل محيطٌ شاسع ومتداخل؛ لأن الكاتب المحترف يَحتاجُ في نجاح قلمه لتمازج ميادينَ عدة من جوانب الحياة؛ حتى يجد الحجة والدليل بعد معرفة السبب، وله في ذلك أن يُوظِّفَ المنطقَ والذكاء الوجداني لِيُلهِمَ عقولَ القراء، خاصة من كان مجال كتابته إبداعًا، وهو ما أعتبره أصعب مجال؛ لأنه يحتاج إلى جهد وصدق، وحقيقةٍ معيشة؛ حتى يقتنع القارئ، وينجذب للقراءة، والكاتب المُبدِعُ تجدُه لا يكتب في كل وقت؛ بل في وقت ما يكون محتاجًا لأن يفضفض ويشعر بأنه سيكتب بصدق، وإلا فهو لا يقترب من القلم حتى يكتمل نصاب الحاجة والاستعداد لديه.
وعليه؛ فإن هناك من الكُتَّاب مَن عرفوا الكتابة، وجعلوها مهنةً لهم، ويسمي بذلك نفسه: أديبًا، أو ناقدًا، ويكون ضمنَ هذه الفئة نوعٌ من الكُتَّاب مَن اكتسب الكتابة بالممارسة؛ بمعنى أنه يُطالِعُ الكتب بشتى اللغات، وينتقي له سيرةً تخصُّه ليكتب، وهذا لا يعتبر كاتبًا مبدعًا؛ لأنه يعتمد في أفكاره على ما كتبه غيره، ويقوم فقط بتغيير الأسلوب والكلمات والجمل، وقد يضفي لمقاله أو كتابه حسَّه في الاختيار؛ بسبب وجود ميولات عميقة في نفسه وافقت ما قرأه لغيره، ويريد استخراجها، وتَخرُجُ فعلاً تحت خط القلم حينما يجد الفرصة لدى كاتب آخر أشار إلى نفس ما رغب فيه هذا الكاتب، وأحيانًا ما يقعُ الكاتب غير المحترف في شباك التقليد أو النقل، ولكن لا يظهر ذلك إلا لذوي الرؤية الثاقبة، والحسِّ الشاعر برنَّةِ الحرف، فيعرف إذا ما كان هذا الكاتب ماهرًا أم لا، وهل هو كاتب في أصله أم أنه يكتسب الكتابة بالممارسة؟
وعادة ما تتصف كتابات هذا النوع من الكُتَّاب بالسطحيَّة والبساطة، فيغيب عنها فنُّ التذوق، خاصة للقارئين الذي تزيد فيهم نسبة الرومانسية إلى درجة مرتفعة؛ ولذلك تجدهم يبحثون عن كاتب يوافق تطلعاتهم ورغباتهم؛ ومن هنا يتحدَّدُ مصير الكاتب فيما إن كان ملتزمًا يَحترِمُ ضوابط الكتابة، ويجعلها وسيلة لخدمة دينه، أو فكره، أو مبادئه، أو أنه من الكُتَّاب الذين يسعون للربح من خلال الكتابة، ولا يهمهم في ذلك إضفاء اللمسة الحانية والصادقة والمتمهلة في كتاباتهم.
وهنا ينفرج نوع الكتابة التي تكون موهبة؛ حيث يجد الكاتب نفسَه – وفي حداثة سنِّه وهو طفل يحب الرسم والكتابة بأحرف أوليَّة – كاتبًا صغيرًا، وتجد في رسمه تعابيرَ عما يختلج في نفسه لقضية من القضايا، وتكبر هذه الموهبة كلما وجدت لها بيئة محافظة ومقدرة لهذا الفن النبيل؛ فبقدر ما تجد لها الاعتناء في توفير ظروف الهدوء والتفهُّم والتشجيع، بقدر ما يصبح الكاتب الصغير بَحَّارًا مغامرًا، يُصارِعُ أمواج التحدي ليحبَّ الكتابة أكثرَ حتى يجد نفسَه قد كبر وكبرت معه الموهبة، ويُصبِحُ مُرتبطًا بل لصيقًا بها كارتباط الطفل الرضيع بأمه؛ حيث لا يمكنه التخلِّي عنها مهما كان السبب.
والكل يعرف أن القراءة ناتجةٌ عن مسار العين التي تنتقل فيما بين الحروف والكلمات والجمل؛ لتُؤسِّس رؤية واضحة وفهمًا مُقنعًا، هو مسار شخصي وليس متوقفًا – أحيانًا – على قراءة واحدة، بل قد تتكرر القراءة إن كان الموضوع، أو المقال، أو الكتاب شائقًا وجذَّابًا، فيعيد القارئ قراءته مرات عديدة، ويتابع صاحب هذا التأليف في إصداراته؛ نظرًا لتعلُّقه بهذا الفن الجميل من الكتابة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى قد تجد وظيفة الكاتب الحقيقية ليست الكتابة، بل قد يكون موظَّفًا، أو طبيبًا، أو مهندسًا، أو حتى إداريًّا، ويحتار العقل في نجاح هذا الكاتب على الرغم من عدم تخصُّصِه الحقيقي في ميدان الأدب بكل أنواعه!
هنا أقول: إن هذا النوع من الأدباء كانت لديهم موهبةٌ نائمة إلى جانب مهنتهم، لكنها لم تظهر – كتخصص حقيقي – لسبب من الأسباب، ربما لتوجيه الآباء لأبنائهم في اختيار شعبة من الشُّعَب في الدراسة عند الالتحاق بالجامعة، فتبقى تلك الموهبة نائمةً في سُبات عميق، ولا تظهر إلا لسبب مُفجِّر لتلك الطاقة المبدعة والخفية، كأن يلتقي هذا المبدع الخفي مع كاتب فيُعجَبَ به، أو يكون له مُشجِّعًا للكتابة، فتنطلق روحانيَّات سريرته في البدء بالتجريب، ولا يكون مضطرًّا لقراءة أمهات الكتب؛ لأن هذا الصنف من الكُتَّاب هو مبدع أصلاً، والموهبة كانت فيه، ولم يُنمِّها لسبب من الأسباب – مثلما أشرت سابقًا – وعندما يحين وقت ظهورها تظهر، وتنجح بالاستمرارية.
والقارئ المحترف يُميِّزُ بين الكاتب الناجح من غير الناجح من خلال استنباطه للإيحاء الباطن؛ إذ كلما وصلت عبارات الكاتب المبدع ولامست قلبَه، وأقنعت عقله – كان الإعجاب؛ وهنا يَحظَى الكاتب الموهوب بتوفيقه في تحبيب القراء له، إذ كلما كان وقت اختيار الكتابة مناسبًا، وكان الكاتب المبدع بصحة جيدة وذا مِزاجٍ متوازن – كتب كتابة جيدة، واختار لها من الكلمات المبدعة ما تفي بالغرض، وأصعب شيء يُهدِّدُ الكتابة المبدعة هو تعب الكاتب، فالتَّعبُ يُطفِئُ شمعة الإبداع لحين تتجدَّدُ الطاقة؛ لأن هذا النوع من الكتابة يحتاج للتجديد المستمر، وإلا فلمَ سُمِّيت إبداعًا؟ لأنها تأتي بالجديد في كل مرة، بل من صفاتها عدم اتباع الروتين؛ حتى لا يتخلَّلها الملل.
والكاتب الموهوب – وخاصة المبدع – يَزدادُ تألُّقًا كلما اقترنت كتاباته بتجارب عاشها؛ فيترجمُها في كتابته الإبداعية، ويكتب من قلبه وبصدق، فينقل الحقيقة كما هي، وأحيانًا يضطر إلى تغييرٍ في الأزمنة والأشخاص؛ تفاديًا للتخصيص، أو حفاظًا على أسلوب التحفُّظ الذي يُضفي على القراءة عنصرَ التشويق؛ فيسعى القارئ باذلاً جهدًا جهيدًا في فهم ما بين الأسطر، وهذه هي القراءة الدقيقة والذكية.
وأرى أن الكتابة كلما كانت باللغة العربية كانت فنًّا وإبداعًا، وبحرًا شاسعًا من الجمال؛ لما تحتويه اللغة من خصوصية جمالية في تراتيب الحروف، والجمل، والأسلوب الذي خُصَّت به هذه اللغة الراقية، وهناك الكتابة باللغات الأجنبية لإيصال صدى الكاتب لأبعد نقطة على الكرة الأرضية لمن لا يتقنون فهم اللغة العربية، وبذلك يزداد عدد القراء، وربما كان هذا الكاتب – خاصة لمن يَكتُب في الفقه والدين – سببًا لدخول الكثير من الأجانب في الإسلام؛ لأن منهم مَن يبحث عن فهم الدين وأسراره وعجائبه، وبالتالي هي فرصة لاعتناق الإسلام بعد الاقتناع به، وهنا قد يتحول الكاتب من مجرد كاتب وفقط إلى داعية وله من الأجر الكثير.
وفي الختام تبقى الكتابة منها ما هو مكتسَبٌ، ومنها ما هو موهبة، لكن المهم في كل ذلك هو أن تكون الكتابة هادفةً وملتزمة؛ حتى تفي بالغرض الذي لأجله خُلق ابن آدم؛ ليعلم أنه لم يُخلَق عبثًا، وبالتالي تكون الكتابة وسيلة لأداء رسالة نبيلة – خاصة ما كان منها يخدم ديننا، ويُنمِّي مَلَكة الوعي فينا – فنكسب بذلك شبابنا إلى التمسك بعقيدتهم ومبادئهم، بعيدًا عن الكتابات المضللة، والمشتتة للفكر، والتي لا تكون هادفة، بل تخدم منهجًا أو أقوامًا ليس همُّهم إلا تخريب الأخلاق، والحطَّ من قيمة الآدمية الإنسانية؛ فيظل الكاتب في نزوة نفسية، ويتيه القارئ فيما بين أسطر عقيمة، وأحرف لا تنبض على الإطلاق بالصدق، والحيوية الفكرية، والهدف المنشود؛ وبالتالي لا العقل يتغذَّى بمعلومات جديدة، ولا هو يتشجَّعُ بعامل التحفيز الذي تفتقده هذه الكتابة.
فلكلِّ مَن يريد أن يكتب، عليه أن يعرف أولاً لماذا سيكتب؟ ولمن سيكتب؟ وماذا سيكتب؟ حتى يقرر مصيرَ مساره، وبقدر ما تكون النية خالصة لوجه الله تعالى بقدر ما يُكتب لذلك العمل التوفيق والنجاح والديمومة، حتى بعد موت الكاتب؛ لأن حرفه لن يموت بموت جسده، بل تبقى روحه حيَّة بين محبيه، وتخلد كتاباته إلى أزمان عديدة؛ مثل ما هو معروف في سير الكثيرين من عَمالقة الفكر والأدب؛ مثل: مالك بن نبي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وغيرهم كثر لا يتَّسع المقام لذكرهم، لكن ذكراهم مخلدة إلى يومنا هذا، وستستمر، وليتذكر الجميع أن الكتابة أمانةٌ ومسؤولية، بل رسالة؛ فليتحرَّ كلٌّ منا ثقلها.