موقع الإعراب في اللغة
يختزل قسمٌ من الناس علمَ النحو في الإعراب، وربما بالغ بعضهم في التوهم حتى لا يكاد يخطر بباله حين تُذكر اللغةُ العربيةُ – بما تتضمنه من مستوياتٍ صوتيّة وصرفيَّة ونحويَّة ودلاليَّة…- غيرُ الإعراب. والصحيح أنّ الإعراب فرعٌ من النَّحْو الذي يشمل أيضًا ما يسمى بنظام الجملة والتركيب.
وإذا تذكرنا الوظيفة الأولى، والمهمة الكبرى التي تُعْنى اللغة بها، وهي إيصال المعاني من المرسل، باللسان، أو بالقلم، إلى المتلقي؛ فإننا نستطيع أن نقترب من المكانة الحقيقية للإعراب، بوصفه وسيلةً من الوسائل اللغوية التي تتعاون وتتضافر مع غيرها من القرائن في تحقيق تلك الغاية.
وعليه؛ فإن كلاماً عربياً غير قليل يمكن أن يفهم من قرائن أخرى كالقرينة المعنوية، أو القرينة الحالية، والظروف التي وقعت عملية الكلام فيها، وهو ما يطلق عليها البلاغيون مصطلح ” المقام” فلو شَهِد شاهدٌ أمام القاضي على أحد الخصمين؛ فأشار قائلا: “هذا ضربَ هذا”؛ فإن المعنى قد وصل، ولا إعراب في كلامه نُميِّز به الفاعل الذي هو الجاني من المفعول به، وهو المعتدى عليه؛ ذلك أن الإعراب في الحقيقة هو قرينة لفظية؛ بالعلامات الإعرابية؛ الأصلية: الضمة والفتحة والكسرة والسكون، والفرعية: مثل الواو والياء والألف، وغيرها.
وإنه -وإن جعل العلماءُ الإعرابَ شاملاً الأثرَ الظاهر، وهي العلامات الإعرابية، والأثرَ المُقَدَّرَ الذي يمنع من ظهوره سببٌ صوتي، على سبيل التعذر، أو على سبيل الثقل- فإن مزية الإعراب، لا شك تظهر عند وجود الأثر، لا عند تقديره. وفي المثال السابق لا وجود للحركات الإعرابية، ولكن حضور المقام الذي قيلت فيه الجملة قد أرشد إلى المعنى.
فالعربيُّ حين يسمع قولَه تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} [سورة فاطر: الآية 28]، فإنه يميز بالحركات الفاعلَ من المفعول، فيعلم أنّ الذين يخشوَن الله حق الخشية، وأعلاها هم العلماء.
ومع ذلك فإن المتلقي الواعي يدرك بالقرينة المعنوية مَنْ يَخشى، ومَنْ يُخشى. كما يدرك ذلك في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [سورة البقرة: الآية 124].
ولا نبخسُ الإعرابَ مكانتَه، ففي بعض مناحي القول، تتجلى أهميتُه، يحصل ذلك عندما تتوارى القرائنُ الأخرى، مثل قولنا: “أكرمَ زيدٌ عَمْراً” فإن قال قائل: إنَّ قرينة الرُّتْبة أيضا ترشد؛ لأن الأصل في الفاعل أنه يأتي قبل المفعول به. أقول: صحيح، ولكنها رتبة غيرُ محفوظة، بمعنى أن المفعول به قد يتقدم على الفاعل، وهو كثير. فتَقَدُّم ” زيد” لا يدل -إذا عُرِّي من الحركة- على كونه الفاعل دلالة قاطعة، ولكن الحركة الإعرابية تفعل ذلك.
ولعلَّ من مزايا العربية، ودلائل عبقريتها أنها لم تعوِّل في توفير الوضوح على قرينة واحدة، بل حرصت على ما يسمِّيه الدكتور تمام حسان في كتابه القيم: “اللغة العربية مبناها ومعناها” بِـ: “تضافر القرائن” ، فلو سمعنا مثلا جملة: “اشترتْ سعادُ بيتاً” فإن الفاعلية من المفعولية متوضِّحةٌ، بعد الإعراب؛ بتاء التأنيث والإسناد الذي يدل أيضا بالعقل على من يصلح أن يَصْدُرَ عنه فعلُ الشراء.
وعلى ذلك يفهم ما صح عن بعض العرب أنهم قالوا: “خرقَ الثوبُ المسمارَ” برفع “الثوب” على الرغم من إعرابه مفعولاً به، ونصب “المسمار” على الرغم من إعرابه فاعلا عندهم، مع التأكيد على عدم صحة القياس على ذلك؛ لأن الأحكام الإعرابية ثابتة، ولا يحوز التلاعب بها، قال السيوطي في “هَمْع الهوامع”: “والمبُيح لذلك كلِّه فهمُ المعنى، وعدم الإلباس، ولا يقاس على شيء من ذلك”. فقد استهانوا بالعلامة الإعرابية لشدة وضوح القرينة المعنوية، ولعدم احتمال اللَّبْس.
وقد أكَّد ابنُ جِنِّي في “الخصائص” على أهمية المعاني، ودرجة الألفاظ منها، بما هي خادمة لها، إذ قال: “وذلك أن العرب كما تُعنى بألفاظها؛ فتصلحها وتهذبها… فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها”
أقول هذا، وأنوه بهذه الفكرة؛ لعلها تسهم في تصويب التعامل مع النحو واللغة، تعلُّماً، وتعليمًا؛ ذلك من شكاوى تتصاعد من الضعف الشديد في تعلُّم النحو، والتخبط الكبير الذي يقع فيه الطالب بصفة عامة، إذا ما طُلب منه أن يُعرِب، فلعل قسمًا من المدرسين لا يعطي للعلاقة الوثيقة بين الإعراب والمعنى قدرها، والأول يتضمن علاماتٍ شكلية، تدل على معاني النحو، كالفاعلية والمفعولية والحالية وغيرها، والثاني هو الفكرة التي تُحَسُّ، أو تُعْقَل، فلابد من تفعيل الأمرين معاً، مع العناية بالمعنى وتقديمه.
والخطورة تكمن في التعامل مع الإعراب تعاملاً شكليًّا بمعزل عن المعنى. فالصواب أن يفعَّل في التناول النحوي عاملُ الصناعة، وهي قوانين النحو، وعاملُ المعنى كذلك.
وبمناسبة الحديث عن المشاكل التي تعوق تفهُّمَ النحو وتَمثُّله، فلعل من المفيد التأكيد على أهمية العناية بالجانب الوظيفي التطبيقي للغة والنحو، ومنه الإعراب، ومحاولة التخفف قدر الإمكان من التماس العلل المنطقية التي تخرج في أحايين كثيرة عن روح العربية، وتعسِّر، ولا تيسر، كما ذهب إلى ذلك غيرُ واحد من علماء اللغة قديماً وحديثاً، فكان منهم، على سبيل المثال ، ابنُ سنان الخفاجيّ الذي قال: ” إنّ النحاة يجب اتباعهم فيما يحكونه عن العرب ويروونه… فأما طريقة التعليل فإن النظر إذا سلط على ما يعلل به النحويون لم يلبث معه إلاّ الفذ الفرد… ولذا كان المصيب منهم من يقول: هكذا قالت العرب، من غير زيادة على ذلك” – طبقات النحويين واللغويين.
ومن المُحْدَثين سعيد الأفغاني الذي دعا إلى تيسير النحو والتخفف من التماس العلل، وجرى على ذلك في مؤلفاته… وكان حريصاً على أن يدرب طلابه على البحث المتعمق والنقد الموضوعي، وعلى تكوين الملكة العلمية فيهم؛ لتقودهم إلى تكوين مهاراتهم اللغوية المنطلقة من حفظ النصوص الرصينة من كتب التراث، وخاصة من القرآن الكريم الذي هو منطلق اللغة العربيّة الأول.
فلا يغني عن كثرة السماع للنماذج العالية والفصيحة، التعمقُ في التعليل، فيحسن أن يتردد الحكمُ النحوي على الدارس كثيراً، بأمثلة مشرقة، وفي نصوص ذات معنى؛ ذلك أن اللغة في الأساس تعتمد على السماع، فالسَّمع -كما قال ابن خلدون- أبو الملَكَات اللسانية.
عدد المشاهدات: 351