يَا مُحَمَّدُ ذَاكِرْ دُرُوسَكَ
سألني سائلٌ كريمٌ من الدارسين الوافدين غير العرب فقال:
في قولنا: (يا مُحَمَّدُ)، نقول: “محمَّد” منادى مبنيٌّ على الضم، ما معنى مبني هنا إذا كانت كلمة “محمَّد” يتغير آخرها في غير هذه الحالةِ بتغير العوامل؟
الجواب:
ينبغي أن نَعْلَمَ أوَّلًا: أنَّ حَقَّ كُلِّ منادًى النَّصْبُ على أنَّهُ مفعولٌ به لفعلٍ محذوفٍ وجوبًا؛ لنيابة حرفِ النداءِ منابَهُ، ولا يجوزُ الجمعُ بينهما، فـ(يَا) في قولك: (يا مُحَمَّدُ) نائبة عن الفعل في قولك: (أُنَادِي مُحَمَّدًا).
والمنادى المُفرد المعرفَة مبنيٌّ على ما كان يُرفع به قبلَ النداء، وهو في محلِّ نصبٍ؛ لأنَّهُ مفعولٌ به.
فإن كان يُرْفَعُ بالضَّمَّةِ قبل النِّداء، كما في قولك: (فازَ مُحَمَّدٌ، جاء الرَّجالُ، نجحت الفاطماتُ)، بُنِيَ على الضَّمِّ في النِّداء، كقولك: (يَا محمَّدُ، يا رجالُ، يا فاطماتُ)، ويكون في محلِّ نصبِ مفعول به.
وإن كان يُرْفَعُ بالألفِ قبل النِّدَاء، كما في قولك: (فازَ المحمدَانِ)، بُني على الألف في النداء، كقولك: (يَا محمَّدَانِ)، ويكونُ في محلِّ نصب مفعول به.
وإن كان يُرفع بالواوِ قبل النِّداء، كما في قولك: (فازَ المحمدُونَ)، بُنِيَ على الواو في النداء، كقولك: (يا مُحَمَّدُونَ)، ويكون في محلِّ نصبِ مفعول به.
علَّة بناء المنادى المفرد:
بُنِيَ المنادَى المفردُ المعرفةُ على ما كان يُرْفَع به قبل النداء من علامةِ رفعٍ أصليةٍ أو فرعيةٍ؛ لأنَّ مَقَامَ النداءِ مقامُ خِطَابٍ، فأشبه هذا المنادى ضميرَ الخطابِ، كالكاف في (أُناديك، وأدعوك) في ثلاثةِ أمورٍ: إفادةُ معنى الخطابِ، والتعريفُ، والإفرادُ (عدم الإضافة).
والأسماءُ الظاهرةُ موضوعةٌ عَلَى مقامِ الغيبة، بدليل عود الضمير إليها بلفظ الغيبة، في نحو قولك: (مُحَمَّدٌ قائم)[1].
فقد خرج هذا المنادى عن بابِ الأسماءِ الظاهرةِ الْمُعْرَبَةِ، وشابَهَ الْمُضْمَراتِ المبنياتِ في الأمور الثلاثة المذكورة، فبُنِيَ لذَلِك.
وتوضيحُ ذَلِكَ: أَنَّكَ إِذا استعملتَ الاسمَ الظاهرَ في النداءِ فقلت: (يَا محمَّدُ)، فقد أخرجْتَهُ من بَابِهِ؛ لأَنَّ بَابَ الأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ أَن يُخْبِرَ بهَا وَاحِدٌ حاضِرٌ عَن وَاحِدٍ غَائِبٍ، والمُخْبَرُ عَنهُ غَيرُهَما، فَتَقُولُ: (قَالَ مُحَمَّدٌ)، فـ(مُحَمَّدٌ) غَيْرُك وَغَيْرُ الْمُخَاطَب، وَلَا تَقُولُ: (قَالَ مُحَمَّدٌ)، وَأَنت تعني الْمُخَاطبَ، فَلَمَّا قُلْتَ: (يَا مُحَمَّدُ) خاطَبْتَهُ بِهَذَا الِاسْم، فأَدْخَلْتَهُ فِي بَاب (مَا لَا يكونُ إِلَّا مَبْنِيًّا)، نَحْو: أَنْتَ، وَإِيَّاك، وَالتَّاء فِي (قُمْتَ)، وَالْكَاف فِي (ضربْتُكَ، ومَرَرْتُ بِك).
فَلَمَّا أُخْرِجَ من بَابِ الأَسْمَاءِ الظَّاهرةِ الْمُعْرَبَةِ ومقامِها، وَأُدْخِلَ فِي بَاب ضمائرِ الخطابِ الْمَبْنِيَّةِ لمُشَابهتِها الحروفَ، لَزِمَهُ مِثْلُ حُكْمِهَا؛ وهو البناءُ[2].
وقد ذُكِرَ لبناءِ هذا المنادَى أسبابٌ غيرُ ما ذُكِرَ، لكنها أسبابٌ غيرُ معتبرةٍ عند التحقيق، فتَرَكْتُ ذِكْرَها لذلك[3].
لماذا البناء على الضم؟
بُنِيَ المُنَادَى المفردُ المعرفةُ على حركةٍ، ولم يُبْنَ على أصْلِ البناءِ؛ وهو السُّكُون؛ لأنَّ أصلَ هَذَا المُنَادَى الإعرابُ، ففُرِّقَ بينه وبين المبنيِّ الذي لا أَصْلَ له في الإعرابِ.
فكان بناؤه على حركةٍ؛ لأنَّ بناءَهُ عارضٌ، وكلُّ اسمٍ يُعْرَبُ في حالٍ ويُبْنَى في حالٍ، إذا بُنِيَ، بُنِيَ على حركةٍ، كـ(قَبْلُ، وبَعْدُ)، وكانت الحركةُ ضمةً أو مَا قام مقامها لعلتين معتبرتين:
أ- شَبَهُهُ بالغايات، كـ(قَبْلُ، وبَعْدُ)[4]؛ لأنَّهَا تُعْرَبُ بما يَجِبُ لها من الإِعرابِ إذا أَضَفْتَهَا، وهو النَّصْبُ والجَرِّ دون الرَّفْعِ، تقولُ: (جئتُ قَبْلَك ومن قَبْلِك).
وإذَا حُذِفَ منها المضافُ إليه بُنِيَت على الضَّمِّ، وهي الحركةُ التي لم تكن لها قَبْلَ البناءِ، فعُلِمَ أنَّ الضمةَ على الغاياتِ ليست حركةَ إعرابٍ، وإنَّمَا هي حركةُ بِناءٍ؛ فقالوا: (جِئْتُكَ من قَبْلُ ومن بَعْدُ)، فكذلك المنادى المفردُ المعرفةُ لمَّا كان مُضَافُهُ منصُوبًا، كقولك: (يا عَبْدَاللهِ) بُنِيَ على الضَّمِّ مُفْرَدُهُ، كقولك: (يَا عَبْدُ، ويا مُحَمَّدُ)[5].
ولعلَّك وَقَفْتَ على وَجْهِ الشَّبَهِ بين هذا المنادى والغاياتِ؛ وهو: أنَّهُ إذا أُضِيفَ، أو نُكِّرَ وَنُوِّنَ أُعْرِبَ، وإذا كان مُفْرَدًا مَعْرِفَةً بُنِيَ على الضَّمِّ؛ قال الإمام الشاطبي (ت790هـ): “… المنادى جارٍ مجرى (قبل، وبعد) في أنَّهما يُعربانِ حالَ إلحاقِ التنوين والإضافة، ويُبْنَيَانِ إذا لم يكونا فيه، ولذلك … بُنِيَ المُنَادَى على الضَّمِّ كما بُنِيَا عليه”[6].
ب- بُنِيَ المنادى المفردُ المعرفةُ على الضمِّ؛ لئلَّا يُشْبِهَ المنادَى المضافَ؛ لأنَّ المنادَى المضافَ إلى غير ياءِ المتكلمِ منصوبٌ في النداء، كقولك: (يا عبدَاللهِ)، والمضافُ إلى ياء المتكلم يكونُ مكسورًا في اللفظِ بحركةِ المناسبةِ، كقولك: (يا قَوْمِي)، والمختارُ فيه حذفُ الياءِ والاكتفاءُ بالكسرةِ، كقولك: (يا قَوْمِ)؛ فبُنِيَ ما سواهما، وهو المنادى المفردُ المعرفةُ على الضَّمِّ في نحو قولك: (يا مُحَمَّدُ)؛ لئلَّا يلتبسَ بأحدهما، وليستكمل المنادى الحركات الثَّلاث[7].
والله سبحانه وتعالى الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
[1] ينظر: تمهيد القواعد لناظر الجيش 7/ 3541.
[2] ينظر: المقتضب للمبرد 4/ 204.
[3] ينظر: تمهيد القواعد 7/ 3541.
[4] قال ابن الشَّجَريِّ (ت: 542هـ): “وإنَّما سُمِّيَت غاياتٍ؛ لأنَّ المضافَ إليه كان غايةَ كلامِك، كقولك: (جئتُ قبلَ زيدٍ وبعدَ محمدٍ)، فلما حذفْتَ المضافَ إليه صار المضافُ غايةَ كلامِك ومنتهاه”؛ [الأمالي 2/ 75].
[5] ينظر: الأصول في النحو 1/ 333.
[6] المقاصد الشافية 5/ 262.
[7] ينظر: تمهيد القواعد 7/ 3541.