الاستشهاد بالقرآن الكريم في علم النحو
اتصل الدين الإسلامي باللغة العربية اتصالًا وثيقًا في العصور الإسلامية جميعًا، وكان الباعث على اهتمام علماء اللغة بجمع الشواهد، وتقعيد القواعد النحوية، باعثًا دينيًا، وهو ضبط نصوص القرآن الكريم، وتعليم الطلاب لغة العرب لغة القرآن، ” وكانت مناهج التعليم تمزج بين المعارف الدينية واللغوية، في الكتاتيب وحلقات المساجد، والمجتمعات، ثم في المدارس المنتظمة، وغالبًا ما يكون اللغوي رجل دين، وما عهدنا عالمًا من علماء اللغة القدامى، إلا كان مقرئًا، أو مفسرًا، أو أصوليًا، أو محدثًا، أو متمكنًا، أو فقيهًا “[1].
وكان هذا الأمر واضحًا في نظر المستشرقين فقد رأى نولدكه مثلًا: ” أن العربية لم تصر لغةً عالمية حقًا، إلا بسبب القرآن والإسلام، إذ تحت قيادة قريش، فتح البدو سكان الصحراء نصف العالم لهم وللإيمان، وبهذا صارت العربية لغةً مقدسةً كذلك”[2].فأجهد العلماء أنفسهم في دراستها، واستكناه أسرارها، ليقفوا على مواطن الإعجاز في كتاب الله العظيم.
وقد شعر علماء العربية منذ القرن الهجري الأول بحاجتهم إلى تعلم العربية ومعرفة قواعدها، فاستعانوا بالشعر، في فتح مغاليق الألفاظ، والأساليب الغريبة الواردة في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، فأكبوا عليه يروونه، ويحفظونه، ويدرسون أساليبه ومعانيه، وما يدور فيه من ذكر لأيام العرب ووقائعهم.
وكانت دراسة القرآن الكريم من دواعي العناية بالشعر واللغة، كما كانت أحد الأسباب التي أسهمت في نشأة المعاجم العربية، والنحو الذي بني على شواهد القرآن ومسائله، ومن هنا نجد أن الغيرة على القرآن الكريم، وصونه من التحريف على ألسنة الأعاجم، كانت السبب في وضع قواعده، وتروي لنا الأخبار أن أبا الأسود الدؤلي (ت69هـ)كان أول من وضع النحو، والسبب في ذلك أنه سمع قارئًا يقرأ: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [3]، بكسر اللام من ” رسوله “، فغضب لذلك، وكان هذا حافزًا له على وضع مبادئ النحو[4].
وهكذا نرى أن القرآن الكريم كان محورًا لجميع الدراسات العربية التي قامت على هذا الأساس لخدمته، ومن بينها الدراسات النحوية، ولولاه لاندثرت العربية الفصحى، ولأضحت كاللاتينية والسنسكريتية، ولقد بين العلامة ابن خلدون (ت808هـ) ذلك بقوله: “تختلف لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر، إلا أن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة كما قلنا يحمل على الاستنباط والاستقراء، وليس عندنا لهذا العهد، ما يحملنا على مثل ذلك، ويدعونا إليه”[5].
ومعلوم أن الهدف الأساس من الاستشهاد في النحو هو بناء القواعد، وتأصيل المسائل النحوية، وبيان أصلها اللغوي، وهذا ما أكثر منه سيبويه (ت180هـ)، سالكًا منهج الأخذ بالأكثر، والقياس عليه، فقد ذهب يحلل الآيات، ويبين معانيها، ويحملها على أشرف المعاني، وأرفع الأساليب، وسآتي على موضعين فقط من مواضع استشهاده بالقرآن الكريم.
ففي قوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ﴾ [6]يتكلم عن الحذف عند العرب، فقد حذف فيها شيء للعلم به، وهو مفهوم من السياق، وقد عده اتساعًا، ثم قال: ” ومثله في الاتساع قوله عز وجل: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا … ﴾ فلم يشبهوا بما ينعق، وإنما شبهوا بالمنعوق به. وإنما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع. ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى”[7].
وفي موضع آخر قال سيبويه: ” ومثل الرفع: ﴿ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾ [8]، يدلك على رفعها، رفع ” حسن مآب “. وأما قوله تعالى جده: ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [9]و(﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾ [10]، فإنه ينبغي أن نقول: إنه دعاء ها هنا، لأن الكلام بذلك، واللفظ به قبيح، ولكن العباد كلموا بكلامهم، وجاء القرآن على لغتهم وما يعنون، فكأنه -والله أعلم- قيل لهم: (ويل يومئذ للمكذبين) و(ويل يومئذ للمطففين)، أي: هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم، لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلكة، ووجب لهم هذا “[11].
فهذان نموذجان من النص القرآني جاء بهما سيبويه، وفيهما حمل كلام الله-سبحانه- على مقتضى كلام العرب ولغتهم، ومعرفة أسلوب الكتاب العزيز، فهو يخاطب العرب بطريقتهم في التعبير، فجمع بين عمق التحليل، وسعة الرواية، فحمل إلينا البذرة الأولى لتفسير النص القرآني وفهمه، بناءً على قواعد النحو التي أخذت منه مادتها.
وما من شك أن القواعد النحوية أخذت شواهدها من القرآن الكريم، كما كانت لخدمته، لأنه أعلى النصوص فصاحةً وبيانًا وبلاغةً وإعجازًا، كيف لا وهو كتاب الله المحكم آياته، وقد قال أبو البقاء العكبري (ت616هـ): ” فأول مبدوء به من ذلك تلقف ألفاظه عن حفظه، ثم تلقي معانيه ممن يعانيه، وأقوم طريق يسلك في الوقوف على معناه، ويتوصل به إلى تبين أغراضه ومغزاه، معرفة إعرابه واشتقاق مقاصده من أنحاء خطابه، والنظر في وجوه القراءات المنقولة عن الأئمة الأثبات”[12].
المصدر: الالوكة
[1] المدخل إلى دراسة النحو العربي على ضوء اللغات السامية: عبدالمجيد عابدين، القاهرة، 1951م، ص102.
[2] اللغات السامية: نولدكه، ترجمة د. رمضان عبدالتواب، القاهرة، 1963م، ص79.
[3] الآية 3 من سورة التوبة.
[4] أخبار النحويين البصريين: لأبي سعيد السيرافي (386هـ)، تحقيق د. محمد إبراهيم البنا، دار الاعتصام، القاهرة، 1405هـ، ص12.
[5] المقدمة: لابن خلدون ص615.
[6] الآية171 من سورة البقرة.
[7] الكتاب: أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر (ت180هـ)، تحقيق: عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4، 1425هـ-2004م، 1: 212.
[8] الآية 29 من سورة الرعد.
[9] الآية 15 من سورة المرسلات.
[10] الآية 1 من سورة المطففين.
[11] الكتاب 1: 331.
[12] التبيان في إعراب القرآن: لأبي البقاء عبدالله بن الحسين العكبري (ت616هـ)، تحقيق: محمد علي البجاوي، طبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1976، 1: 1.